تسابق المسلمون منذ عصور الإسلام الأولى، للحصول على المقتنيات المتعلقة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وحفظها والعناية بها، مثل بردته الشريفة وعمائمه والمكحلة التي كان يستخدمها وخاتمه، وكذا بعض الخصلات من شعره.
وبالرغم من أن كثيرا من هذه المقتنيات لا يوجد دليل قاطع على صلتها بالنبي ﷺ، إلا أن ذلك لم يؤثر في تقديس الناس لها، وبات الكثيرون يتنافسون على اقتناص مثل هذه المقتنيات للتبرك بها ولإظهار مدى تبجيلهم للنبي وعلو قدره في نفوسهم، بل وصل الأمر إلى التقرب والتوسل بها إلى الله!
وكان أشهر ما تم اقتنائه عن النبي الكريم، هو النعال التي انتعلها، والتي يُعتقد أن بعضها محفوظ حتى يومنا هذا.
إلا أن اللافت في مسألة النعال، هو أنها تحولت مع مرور الوقت إلى أشبه ما يكون بـ”أيقونة”، بعدما دخل رسم هذه النعل في كثير من أشكال الفن الإسلامي، خاصة الزخارف والخطوط، وهو رسم منتشر بكثرة حتى الآن وربما تصادفه بشكل يومي، إلا أن كثيرين لا يعلمون أن المقصود بهذا الشكل هو النعال النبوية.
ومن فرط الاهتمام بالنعال الشريفة، كتبت عنها مؤلفات كاملة، تحدثت عن أشكالها والنماذج المحفوظة منها حتى الآن، كما اهتم آخرون بتأليف القصائد في مديح النعال النبوية وشرفها.
بل إن البعض ألف في فضل هذه النعال وفضل التوسل بها إلى الله وبركتها وتأثيرها في جلب الرزق وطرد الهم، وكانت حجتهم في ذلك -بخلاف كونها من المقتنيات النبوية- هي الزعم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب في رحلة الإسراء والمعراج منتعلا نعله تلك ووصل بها إلى سدرة المنتهى ولم يأمره الله بخلعها كما أمر موسى عندما دخل الوادي المقدس طوى، ومن هنا تستمد فضلها وتأثيرها!
وبغض النظر عن كل ذلك، إلا أن الاهتمام الكبير الذي حظيت به النعال النبوية، يستحق أن نتوقف أمامه ونطالعه بتمعن، كونه انعكاس صادق لطبيعة العقلية العربية، وهو ما سنحاول البحث فيه خلال السطور القادمة:
النعال السبتية
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتعل نوعا من النعال تسمى بـ”النعال السبتية”، أي النعال المدبوغة التي ليس فيها شعر، وكان يتوضأ فيها، وكان لهذه النعال “قبالان”، والقبال هو الزمام أو السير الذي يكون بين الأصابع، حيث كان في كل فردة قبالين وليس قبالا واحدا كما هو الشائع.
وقال أحمد بن يحيى المقري، إن نعل النبي كانت “صفراء اللون”، وصنعت من جلود البقر تحديدا، وأنها كانت “ملسنة مخصرة معقبة”، أي فيها طول على هيئة لسان في مقدمتها، ولها خصر، ويوجد في نهايتها سير لإحكام وضع القدم فيها، أشبه ما تكون بما يعرف بـ”الصندل” في أيامنا الحالية.
فيما كان الصحابي عبدالله بن مسعود هو من يتولى حمل نعال الرسول، ولذلك عرف بـ”صاحب النعلين” وكان يدخل على الرسول ويلبسه نعليه وإذا جلس النبي ﷺ جعل ابن مسعود النعلين في ذراعه إلى أن يقوم.
النعال المتبقية
ورد في معظم الكتابات التي اهتمت بمسألة بالنعال النبوية، أن هناك أربع نعال تم الاحتفاظ بها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تحدث عنها أحمد تيمور باشا في كتابه الشهير “الآثار النبوية”.
وأولى هذه النعال، هي النعل التي كانت عند السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد اختفت هذه النعل لاحقا، ولم يعرف مصيرها ولا أين هي الآن.
والثانية، النعل التي كانت موجودة بدار الحديث الأشرفية بدمشق، وكانت فردة واحدة، ويقول المقري أنه ذهب إلى دمشق لرؤية هذه النعل فلم يجدها، مرجحا أنها فقدت في فتنة تيمورلنك حين خرب دمشق وأحرقها سنة 803هـ.
أما النعل الثالثة فكانت مجرد قطعة متبقية من نعل، محفوظة لدى القاضي زين الدين عبدالباسط، كان يحملها دائما في عمامته من باب التبرك، ولا يعرف مصير هذه القطعة أيضا.
وأخيرا النعل الربعة، وهي التي كانت محفوظة بدار الشرفاء الطاهريين بمدينة فاس المغربية، واختفت في وقت سابق لزمن تيمور باشا ولم يعرف مصيرها كذلك.
ولا يتبقى في الوقت الحاضر، سوى نعل وحيدة موجودة بقصر طوب كابي في اسطنبول، ضمن مجموعة من المقتنيات النبوية وآثار الصحابة، ولا يعرف إن كانت هذه النعل واحدة من النعال الأربع المذكورة، أم أنها نعل خامسة، أم أنها مجرد نسخة مقلدة من النعل الأصلية التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم.
مؤلفات النعال
ورغم هذا التضارب حول حقيقة تلك النعال، وعدم اليقين من صحتها، إلا أن ذلك لم يمنع كثيرا من المؤلفين من كتابة العديد من المؤلفات خصصت للحديث عن النعال النبوية وأنواعها وشكلها وأفضالها والأحكام المتعلقة بها.
وكان أشهر من كتب عن النعال النبوية واهتم بها وصنف فيها، هو أحمد بن يحيى المقري التلمساني، خاصة كتابه “فتح المتعال في مدح النعال”، والذي أورد فيه كل ما كتب في موضوع النعال والمتواتر عنها من حديث ولغة وشعر وسيرة وتاريخ، كما أورد في الكتاب رسوما للنعال النبوية الشريفة، قال عنها إنها أصح أمثلة تم رسمها على شكل النعل النبوي.
كما كتب الحافظ ابن عساكر مؤلف صغير “كراسة” في فضل النعال النبوية، وكذلك فعل السراج البقليني في مؤلفه “خدمة نعل القدم المحمدي”، وهناك مجموعة منظومات شعرية لشاعر اسمه “محمد بن فرج” اطلق عليها اسم “القطع المخمسة في مدح النعال المقدسة”، واهتم فيها بوصف النعال النبوية والتوسل بها.
ولم يكتف المقري بكتابه سابق الذكر، بل ألف كتبا أخرى تتحدث عن النعال النبوية، منها كتاب “نفحات العنبر في وصف نعل ذي العلى والمنبر”، وكتاب “النفحات العنبرية في نعل خير البرية”، بخلاف كتاب “بلوغ الآمال من فتح المتعال” ليوسف النبهاني، وكتاب “نيل الشفا بنعل المصطفى” لأشرف علي التهانوي من علماء الهند.
فن النعال
يقول الباحث والخطاط المغربي الدكتور محمد عبدالحفيظ خبطة الحسني، إن كثيرا من مخطوطات السيرة النبوية، التي تعني بصفات الرسول صلى الله عليه وسلم الخُلقية والخلقية، وظفت فيها صور رمزية ترتبط بالنبي، تجمع بين دلالة النص وجودة الخط والزخرفة والتنميق، ومن أهم تلك الصور “النعال النبوية”، حيث كانت ترسم أمثلتها بشكل تحاكي معه صفة النعال النبوية الأصلية -على حد زعم أصحابها- وذلك بغرض التبرك بها، بل ووظفوها في عهود متأخرة؛ في لوحات حائطية مزخرفة كانت تزين بها البيوت ونقش الحلي وكذا تزيين كتب الأوراد والأذكار والمديح النبوي بها.
ويضيف الحسني في دراسة له بعنوان “النعال النبوية بين المشرق والمغرب”، أن الجزء الذي وظف من النعل النبوي الشريف في رسم النعال النبوية، التي نرى أمثلتها في المخطوطات، هو الجزء الأسفل -والذي نطلق عليه حاليا نعل الحذاء- حيث تكاد الصفات الفنية المتعارف عليها بالتواتر من قبل الخطاطين والمزخرفين، تنطبق على أسفل النعل المحفوظ بقصر “طوب كابي سراي” باسطنبول.
ونقل الحسني في بحثه، ستة أشكال زخرفية، قال إنها أشهر أشكال فنية تستخدم على أنها تحاكي النعل النبوية، واعتمد من رسموها على ما تواتر عن النعال من أخبار ووصف، كما أورد عدد من الزخارف التي وظفت فيها هذه الأشكال.
“نعلٌ نعلو بذكره”
ويقول الباحث أن كثرة انتشار رسومات النعال النبوية وتضمينها في الأشكال الفنية والخطوط والزخرفة، راجع إلى استعمالها من طرف العامة في سائر أحوال حياتهم اليومية قصد التبرك بها.
كما أشار المقري إلى هذا الاستخدام في فصل مستقل في كتابه “مدح النعال”، سماه “خواص ومنافع مجربة عن المثال”، زاعما أن للرسومات التي ترسم على شكل النعل النبوي، لها منافع كثيرة كتسهيل ولادة الحامل، وإبطال السحر، والتوسل بالنعال لقضاء الحاجات وتفريج الكرب، وأنه وضع رسم النعال على مكان الوجع ذهب الألم وشفي صاحبه!
كما قال ابن عساكر في كتابه عن النعال، عندما سئل عما يكتب لمن يتعسر عليه الولادة “إن الحامل إذا أمسكت مثال النعل الشريف بيمينها وقد اشتد عليها الطلق، تيسر أمرها بحول الله وقوته”!
وفي ذلك نقل عن الحسن البصري أنه قال لطلابه في درس تحدث فيه عن وصف الرسول، عندما وصل للحديث عن نعل النبي “كان له نعل نعلو بذكره”، فسأله أحد تلامذته: كيف نعلو بذكر النعل أيها الإمام؟ فأجاب: “نعلٌ لم يؤمر صاحبه بخلعه في السماوات العلا ليلة المعراج، وأُمِرَ موسى بخلعه وهو على الأرض (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) إذاً هو نعلٌ نعلو بذكره”.
ويشير الحسني إلى أن استعمال النعل النبوي في التمائم والتعويذات امتد حتى عصور متأخرة، حتى أنها كانت تستخدم أيضا في الاستغاثة من هول الفتن كما حدث في فاس التي وضع أهلها أمثلة النعال النبوية على رؤوسهم مستشفعين بها من إحدى الفتن الشديدة التي تعرضت لها المدينة.
واللافت في هذا الخصوص، أن دور الإفتاء في الوطن العربي أجمعت على جواز التبرك بالآثار النبوية، سواء بالتقبيل أو باللمس أو التمسح ونحوه، وسواء في ذلك ما انفصل من جسده الشريف عليه الصلاة والسلام، وما استعمله من آنية أو لباس أو نعال أو أدوات أخرى، ونقل عن البخاري أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتبركون بشعره ونعله.
مداحو النعال
أما عن مدح النعال، فقد انبرى عدد غير قليل من الشعراء عبر العصور، لنظم آلاف الأبيات الشعرية في مدح النعال النبوية وفضائلها وبركتها ووجوب تقديسها والتقرب بها إلى الله والتوسل بها في الدعاء.
ومن هذه الأشعار ما قاله الشيخ أبو الحسن الخزرجي في قصيدة مطلعها: (أنا مثلُ النَّعالِ عَلوتُ قدراً وَخيريِ غَيرُ خافٍ للَّبيبِ)، كما ألف الشيخ محمد الشريف الحسني ديوانا كاملا عن النعال باسم “تجليات الجمال من سبحات النعال”، يقول في أحد القصائد به (أنا مجنونُ النِّعالِ ** لَستُ أَهْوى باللّيالي ** فاعْذُرُوا قَلبي المُتَيَّمْ ** حيثُ تاهَ في الجمال).
كما لم يفت الشيخ أحمد المقري أن يضمن مؤلفاته العديدة عن النعال بعضا من القصائد من نظمه في مدحها، منها قوله (مَرغتُ شَيبي فِي مِثالِ النعلِ قصداً للتقرُّبِ ** وَمَدحتهُ فِي مَوطِني وَكذاك فِي حَال المغربِ ** شغفاً لِمنْ سَادَت بِهِ أَبناءُ عَدنانٍ وَيَعربِ ** فبجاههِ بَركاتُهُ متنوعات ذَاتِ أضرُبِ ** وَعليهِ خيرُ تحيةٍ تَأتِي بتوبٍ ليس يَغربُ).