لاتزال شخصية إسماعيل صديق المفتش، واحدة من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في تاريخ مصر الحديث، سواء بسبب الصعود الصاروخي له في أروقة الدولة في عهد الخديوي إسماعيل، حتى أطلق عليه لقب “الخديوي الصغير”، أو سواء بنهايته الغامضة التي أثارت الكثير من اللغط، حتى أن بعض المصريين كانوا يرفضون تصديق أن المفتش مات، وكانوا يعتقدون أنه سيرجع يوما إلى منصبه ليواصل تصديه للإنجليز والفرنسيين!
صديق العمر
كان والد إسماعيل صديق يدعى “دونالي مصطفى أغا باشا”، وكان يعمل في قيادة الجيش المصري، وأمه كبيرة وصيفات القصر وصديقة شخصية لخوشيار هانم والدة الخديوي إسماعيل، وبسبب هذه الصداقة، أصبح الخديوي إسماعيل وإسماعيل المفتش أخوة في الرضاعة، وهو ما خلق بينهما صداقة وطيدة مع مرور الوقت، كان يغار منها الأمراء وحاشية القصر.
تولى المفتش العديد من المناصب الهامة نظرا لمهارته في الإدارة ومتابعة الأعمال، ولكن صعوده الحقيقي لم يبدأ إلا عندما تولى إسماعيل حكم مصر، فانقلبت حياته رأسا على عقب.
تابع حسابنا على Facebook ليصلك كل جديد أول بأول
في بادئ الأمر، عينه الخديوي مفتشا للأقاليم البحرية، قبل أن يمنحه بعض من سلطات الخديوي نفسه في مسألة تعيين وفصل المستخدمين، ثم كلفه بالإشراف على إنشاء سكة حديد بنها-قليوب ومحطة كفر حمزة، وظلت سلطاته تتوسع ومناصبه تكبر وتتضخم، حتى جاء عام 1868.
في هذا العام، أصبح المفتش وزير للمالية، وظل بها عدة سنوات إلى أن تخلى عن جميع مناصبة الرسمية قبل اختفائه بأيام، وخلال فترة توليه للوزارة، أضيفت إليه نظارة الداخلية والدائرة السنية، وأسنت إليه وظيفة مفتش العموم كما كان من أعضاء المجلس الخصوصي.
بداية الأزمة
في عام 1876، بدأت دول الاستعمارية الكبرى -بريطانيا وفرنسا- في فرض سيطرتهما على الحكومة المصرية بدعوى تسوية الديون التي حصل عليها الخديوي إسماعيل من بلدان أوروبا، وكان في كل فترة تفرض قرارا جديدا يضطر الخديوي للاستجابة له.
وفي هذا العام أرسلت كل من بريطانيا وفرنسا مندوبين إلى مصر، وطلبا من وزير المالية حينها -إسماعيل المفتش- أن يقبل فرض الرقابة الأوروبية على المالية المصرية، وهو ما اعتبرها المفتش مطلبا جائرا، إلا أن الخديوي إسماعيل رأى أنه لا مفر من الاستجابة لهذه المطالب في ظل الظروف التي تمر بها البلاد، فوافق عليها.
ولاحظ مندوبا بريطانيا وفرنسا أن إسماعيل المفتش سيشكل عقبه أمام تحركات الدولتين، فطلبا من الخديوي إقصاءه عن وزارة المالية، فقبل الخديوي مضطرا التضحية بوزيره الذي كان موضع ثقته سنوات عديدة، فاستقال إسماعيل صديق المفتش من منصبه.
ولم تكتف بريطانيا وفرنسا بالإقصاء، بل طالبا بمقاضاة المفتش أمام المحاكم المختلطة عن العجز الواقع في الميزانية، واتهماه بأنه بدد أموال الدولة ما تسبب في هذا العجز وأضر بحملة الأسهم الأوروبيين، وهنا بات الصدام حتمي بين إسماعيل صديق المفتش وبين الخديوي إسماعيل.
كبش فداء
كان المفتش يعرف جيدا أن الخديوي سيوافق على طلب بريطانيا وفرنسا بمحاكمته بتهمة تبديد أموال الدولة، لذا أرسل للخديوي أنه بذلك سيضطر لاتهام الخديوي نفسه بالتلاعب، حتى يدفع المفتش التهمة عن نفسه، ويؤكد للجميع أنه إنما كان ينفذ أمر سيده ومولاه الخديوي إسماعيل.
وفهم الخديوي أنه لو قدم المفتش للمحاكمة، سيصبح الخديوي شريكا في الاتهام، بل ربما ألق عبء المسؤولية على عاتقه، وهنا قرر الخديوي التخلص من صديق العمر.
تابع حسابنا على Twitter ليصلك كل جديد أول بأول
يقول الكاتب “جمال عبدالرحيم” في كتابه (إسماعيل صديق المفتش.. رجل الأزمات ضحية الوشاية)، إن الخديوي أرسل لصديق باشا ليهدئ من روعه بعد خطاب استقالته، وقابله في سراي عابدين، حيث فهم المفتش أن العلاقة بينهما عادت إلى سابق عهدها، ثم اصطحبه إلى سراي الجزيرة -التي أصبحت فيما بعد فندق ماريوت بالزمالك.
ولكن لم تكد العربة التي أقلتهما تجتاز حدائق السراي، وتقف أمام باب القصر، حتى نزل الخديوي وتوجه إلى جناح الحريم وحده، بينما اصطحب رجال الخديوي، المفتش، وأنزلوه إلى مركب كانت تنتظر على شاطئ النيل بجانب السراي، وأخبروه أنه تقرر نفيه إلى دنقلة -في شمال السودان- بأمر من الخديوي، وكانت هذه آخر مرة يشاهد فيها إسماعيل صديق باشا المفتش.
لغز الوفاة
بعد أيام، أعلنت الحكومة وفاة إسماعيل صديق باشا المفتش، عقب وصوله إلى دنقلة.
وقالت في روايتها، إن المفتش توفي وفاة طبيعية إثر مرض أصابه أثناء سفره في النيل، نتيجة إسرافه في شرب الخمور، ونشرت المصادر الحكومية تقول أنه تم فحص الجثة والتأكد من أنه لا يوجد عليها أي آثار اعتداء.
إلا أن المؤرخين -وعلى رأسهم المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي- اعتبروا أن ما أعلنته الحكومة يحمل دليل إدانتها في مقتل الرجل، وأجمعوا على رواية مخالفة حول وفاة المفتش.
ويؤكد المؤرخون، أن رجال الخديوي خنقوا المفتش، فيما يضيف الكاتب حلمي النمنم في مقال له، إن القاتل جذبه من خصيتيه بعنف وظل يضغط عليهما حتى لفظ أنفاسه.
ثم وضع الجثمان في حقيبة مليئة بالأحجار -وقيل الحديد- وألقي في نهر النيل، حتى استقر في القاع.
وأجمعت آراء من اتهموا الحكومة بقتل المفتش، على أن منفذ هذه الجريمة، هو مقدم العسكر إسحق بك، وهو أعرابي كان يعمل في خدمة نظار الحربية، وهو الذي تكفل بخنق المفتش وإلقاء جثته في مياه النيل، واستدلوا على ذلك بأن أصبع الإبهام لإسحق بك كان مقطوعا، مؤكدين أن الذي قطعه هو المفتش نفسه بأسنانه، عندما حاول إسحق خنقه.
ويقول الكاتب جمال عبدالرحيم، إنه سواء قتل المفتش في قصر الجزيرة أو توفي عقب وصول دنقلة، فإنه كان من الشائع في مصر أن النفي إلى دنقلة معناه الإعدام، سواء بواسطة الخنق أو السم أو أية وسيلة أخرى، حيث كان من المعتاد في ذلك الحين، أن يقوم السجين برحلة في أعالي النيل، ثم لا يسمع عنه شيء بعد ذلك!