شهد التاريخ العربي الطويل، سواء قبل الإسلام أو بعده، العديد من الحروب التي طال أمدها واستمرت لعدة سنوات، إلا أن “حرب البسوس” تظل هي أطول حرب في تاريخ العرب برمته، ولكن ليس ذلك فقط هو ما يثير الدهشة فيها ويدعو للتعرف على تفاصيلها، بل إن الأكثر دهشة هو أن هذه الحرب الطويلة وقعت بسبب خلاف بين قبيلتين أبناء عمومة بسبب ناقة!
فقد وقعت الحرب بين قبيلتين شهيرتين هما، قبيلة تغلب بن وائل، وقبيلة بكر بن وائل، وكان ذلك عام 494م، ثأرا لشيء يمكن أن يقال عليه في أيامنا هذه شديدة التفاهة، إلا أن شدة التعصب بين أطرافها ورفضهم محاولات الصلح التي توسط فيها الكثير من القبائل العربية، تسبب في استمرار الحرب لعدة عقود، ولم تنته إلا وقتل سقط فيها عدد لا يحصى من الرجال.
الأحداث بدأت، عندما كان وائل ابن ربيعة التغلبي -وكان يشتهر باسم كليب- ملكا على قبائل معد، وكان يعرف بالغرور ورغبته في السيطرة التامة والتعالي.
وكان كليب متزوجا من امرأة من بني مرة، تدعى “الجليلة”، وكان للجليلة شقيق يدعى “جساس” اشتهر وهو في سن صغيره بالفروسية والكرم والشهامة، لذا كانت الجليلة تختفر به دائما مما كان يغيظ كليب الذي كان لا يرى إلا ذاته ولا يفتخر إلا بنفسه.
في أحد الأيام، استقبلت الجليلة خالة لها في منزلها وكانت تدعى “البسوس بنت منقذ التميمية”، وكان من بين مرافقي البسوس في زيارتها، جار لها يمتلك ناقة تدعى “سراب”، وعندما استقروا في منازل كليب، توجهت الناقة بشكل تلقائي واختلطت بإبل كليب تأكل وتشرب معهم.
حتى الآن يبدو الأمر طبيعيا، إلا أن كليب عندما رأى الناقة بين إبله، اغتاظ من فرط غروره، فكيف لناقة غريبة أن تسير بين إبله وترعى في أرضه دون علمه؟! فقام كليب ورماها بسهم فقتلها.
عندما علمت “البسوس” بمقتل الناقة، ثار غضبها وأخذت في هجو كليب والتقليل من شأنه واتهامه بأنه لا يحترم ضيوفه، مما أشعل النار في صدر جساس الذي رأى ضرورة الثأر لشرف قبيلته بعد الإهانة التي لحقت بخالته، فتوجه إلى كليب ودار بينهما نقاش حاد، ولأن جساس كان صغير السن، تهور واندفع، وفي لحظة طيش تاريخية، قام بالاعتداء على كليب وقتله.
كان لكليب شقيق يدعى الزير سالم، وشهرته “المهلهل”، وكان يعرف أنه محب للخمر واللهو، ولكن عندما قتل كليب، وجد الزير سالم أن عليه ترك اللهو والاستعداد للثأر لأخيه، فجمع إليه رجال قومه من تغلب، وأرسلوا إلى والد جساس، وكان يدعى “مرة بن ذهل الشيباني”، يطلبون منه تنفيذ أمر من 4 أمور تجنبا للحرب.
كانت الطلبات الأربع تتمثل في الآتي “إحياء كليب” وهو مطلب استنكاري لتوضيح مدى غضبهم، أو إرسال جساس إليهم ليقتلوه ثأرا، أو إرسال همام بن مرة بدلا منه لقتله، أو إرسال مرة بن ذهل نفسه لقتله ثأرا.
فرد عليهم مرة بقوله: “أما إحيائي كليبا فهذا ما لا يكون، وأما جساس فإنه غلام طعن طعنة على عجل ثم ركب فرسه فلا أدري أي البلاد أحتوى عليه؛ وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم، فلن يسلموه لي فأدفعه إليكم يقتل بجريرة غيره، وأما أنا فهل هو إلا أن تجول الخيل جولة غدا فأكون أول قتيل بينها، فما أتعجل من الموت؟!”.
وعرض عليهم بدلا من ذلك، أن يحصلوا على ألف ناقة كفدية حقنا للدماء ولمنع قتل أبنائه، إلا أن الزير سالم رفض عرضه كذلك.
ورغم تدخل زعماء القبائل العربية لإيقاف الحرب، إلا أن الزير سالم كانت تنقصه الحكمة والعقل السديد كما يرى بعض المؤرخين، لذا رفض جميع هذه الوساطات وأصر على مواصلة الحرب.
ونتيجة الاستعدادات الكبيرة للقتال، انقسمت قبائل العرب حينها بين الجانبين، فمنهم من رأى أن جساس ارتكب جريمة نكراء عندما قتل كليب بسبب ناقة، ومنهم من رأى أن الزير سالم بالغ في دم كليب ولا يريد أن يحقن الدماء وعليهم المشاركة في دحره، فكانت أشبه بحرب قومية.
وكانت الحرب بين الجانبين، لا تميل إلى كفة أحدهما بشكل دائم، فيوما لهؤلاء ويوما لأولئك، ومن أشهر وقائع الحرب الطويلة تلك، “يوم النهى” وهي واقعة انتصرت فيها قبيلة تغلب، و”يوم زبيد” وهي واقعة لم يكتب النصر فيها لأي من القبيلتين، و”يوم الذنائب” وشهدت هذه الواقعة مقتل عدد كبير جدا من الجانبين، إلا أن النصر فيها كتب لقبيلة تغلب.
وكانت من أهم الوقائع في تاريخ تلك الحرب، ما عرف بـ”يوم تحلاق اللمم”، وفيه هزمت تغلب، فهرب الزير سالم وقيل إنه قتل، وكانت هذه الواقعة إيذانا بانتهاء الحرب التي استمرت قرابة 40 عاما، بعدما سقط خلالها عدد لا يحصى من الرجال، وقد أطلق العرب على هذه الحرب اسم “البتراء”، لأنه لم يؤد فيها للقتلى لكثرتهم.