أن تكون هناك إمراة حامل لطفلين؛ فهذا أمر طيب. لكن أن يكون هناك فيلم حامل لفيلمين؛ فهذه مصيبة بكل المقاييس. لأن الدراما لا تحتمل موضوعين فى فيلم واحد، وسيصبح الأمر ساعتها ككرتين فى مباراة كرة قدم واحدة!
تحدث هذه الأزمة لأسباب قد تتعلق بالسيناريو أو الإخراج أو المونتاچ، وتتسبّب فى تشويش المُشاهِد، وإرباك دراما الفيلم أو نوعه. صور المشكلة متعددة؛ تعالوا نطالع بعضاً منها تطبيقاً على السينما الأمريكية..
فيلمان لإختلاف المستوى الفنى لنصفى الفيلم
يحدث أحياناً وأنت تشاهد فيلماً أن تشعر بروعة نصفه الأول، ثم تسخط على رداءة نصفه الثانى، أو العكس. من الأمثلة الواضحة لذلك، فيلم التشويق Gothika أو كابوس اليقظة (2003)، تأليف سبستيان جوتوريز واخراج ماثيو كاسوفيتس، وبطولة هالى بيرى، وهو عن طبيبة تعمل فى مستشفى أمراض عقلية ومتزوجة من مديرها، تفقد الوعى فى ليلة عاصفة، وعندما تستيقظ تجد نفسها نزيلة فى المستشفى ذاته، مكتشفة مقتل زوجها، وكونها المشتبه فيه الأول ! أثناء حياتها هناك، تكتشف أن زوجها كان يعتدى على المريضات سراً، ويشاركه فى ذلك مأمور البلدة. تم صنع النصف الأول من الفيلم على نحو مذهل، فهذه البداية مفعمة بالغموض، والأسئلة التى تطرحها الأحداث مثيرة، لتلتصق بكرسيك، مسحوراً بالأداء الفنى. أما النصف الثانى، فعلى العكس تماماً، بدا تقليدياً ومكشوفاً، حيث مطاردة تلى مطاردة، وسلسلة من الاكتشافات السهلة، يختمها نهاية رخيصة الصنع. ستسأل نفسك مغتاظاً : كيف هربت البطلة من المستشفى، ووصلت للمنزل الذى كان زوجها يُخفِى فيه ضحاياه، دون أن يراها أحد ؟ كيف بعد مرور مدة على وفاته، لاتزال إحدى ضحاياه المقيدة فى هذا المنزل حية ترزق ؟! كيف لمجرم ذكى كالمأمور أن يعترف ببساطة للبطلة فى قسم الشرطة، بل ينفجر نفسياً للدرجة التى جعلته يمزق ملابسه، ويطلق نيراناً عشوائية حوله، ولم يسمعه أى ضابط آخر، أو جندى حراسة، أو حتى أحد الجيران ؟! والسؤال الأهم هو : ما الذى حدث للفيلم الجميل المحبوك الذى كنا نشاهده منذ قليل ؟! الإجابة على هذه الأسئلة أن السيناريو أنفق الوقت والجهد فى كتابة النصف الأول، ثم لم ينفق نفس الوقت والجهد فى النصف الثانى.
على نفس هذا المنوال المعتل، يحكى فيلم Inception أو الغرس (2010) من تأليف واخراج كريستوفر نولان، وبطولة ليوناردو دى كابريو، قصة عصابة تتسلل بوسائل متقدمة لأحلام شخصيات معينة، كى تتلاعب بقراراتها أو تغرس أفكاراً فيها. النصف الأول يبدو جذاباً لأقصى حد، مع عرض تجارب الدخول لأحلام الآخرين، وصورها اللامعقولية المبدعة، فضلاً عن هروب البطل من ذنب مجهول يؤرقه. أما النصف الثانى فيقدم مهمة دخول عقل رجل أعمال، واقناعه بإصدار قرار ما، مع مواجهة البطل لذنبه. عانى هذا النصف من إرهاق فكرة الحلم الذى يحوى حلماً، وطول مشاهد المطاردات الفارغة داخل عقل هدف المهمة. وبينما تشاهد النصف الأول بتركيز وانبهار، ستجد نفسك تشاهد الجزء الثانى بضجر وتبرم، لتشعر بعد أن تفرغ من الفيلم وكأنك شاهدت فيلمين، كل منهما مدته ساعة تقريباً، لكن واحداً كان مشوقاً والآخر لم يكن كذلك.
فيلمان لوجود قصتين
إذا قام الفيلم على دراما تنقسم على ذاتها لقصتين مستقلتين فهذا غير مقبول، لاسيما عندما ينقلب لفيلمين مختلفين، وكأنه أصيب بإنفصام فى الشخصية. مثلاً، فى النصف الأول لفيلم وودى ألن مؤلفاً ومخرجاً وبطلاً Small Time Crooks أو لصوص تافهون (2000)، نتابع قصة رجل وجد أن حل كل مشاكله المادية فى سرقة أحد المحلات، وعليه يختار مجموعة من أغبى أصدقائه، ليكوّن أسوأ عصابة فى تاريخ الإجرام. عقب مفارقات طريفة حقاً، تنجح عصابته فى السرقة، ويتحول أعضائها لرجال أعمال. بعدها، يبدأ فيلم أخر عن الثراء الذى صار البطل وزوجته يرفلان فيه، وميل الزوجة لإرستقراطى إنتهازى يحاول حبك شباكه حولها، ثم صراع البطل كى يسترد حب زوجته مجدداً؛ لتختفى شخصيات العصابة المضحكة التى إجتهد السيناريو فى ابتكارها، ويتحول فيلم اللصوصية إلى كوميديا رومانسية، وتفيض القصة الأولى إلى قصة ثانية أقل براعة، مما يدفعك لتسأل : لماذا أسمى ألن فيلمه لصوص تافهون إذا كانوا يحتلون النصف الأول منه فقط ؟!
فيلم Sucker Punch أو الضربة المفاجئة (2011) بطولة إيميلى براونينج، عانى من نفس الأزمة لكن على نحو أكثر إرتباكاً. زاك سنايدر، مؤلف ومخرج الفيلم، يعرض قصة فتاة وضعها زوج أمها بمصحة نفسية ليستولى على ميراثها، وهناك تضع خطة للهروب. لكنه أراد تقديم هذه القصة فى إطار مختلف، لذا جعل البطلة ترى واقعها فى صورة حلم تظهر فيه المصحة كملهى ليلى يديره صورة من ممرض المصحة المتوحش، وتتخيل نفسها راقصة مقهورة تسعى للإفلات من قبضته. المشكلة أن سنايدر أراد – أيضاً – “حشر” مجموعة من مشاهد الحركة الفانتازية فى فيلمه، فإذا به يدفع بطلته لأن تعيش – داخل هذا الحلم السابق – أحلاماً أخرى كثيرة، تتخيل فيها نفسها محاربة خارقة تخوض معارك مطولة ضد تنين، وجيوش موتى أحياء، ومحاربى ساموراى عمالقة. الأنكى أنه جعل هذه التتابعات توقِف الدراما، ولا تضيف لها شيئاً؛ لنشاهد فيلماً تشويقاً، ملتبساً بعض الشئ، يدور فى الملهى / المصحة، بالتقاطع مع فيلم أكشن لا لزوم له. الطريف أن سنايدر أعلن أن غرضه مخالفة كل الهراء الهوليوودى المعهود، وصناعة أكشن له قصة، بينما كانت النتيجة إنه صنع نموذجاً مثالياً لأكشن لا صلة له بالقصة!
فيلمان لطغيان خط على خط آخر
هناك أفلام مبنية على خطين متوازيين، وتنجح فقط لو وفرت قيمة الإتزان بينهما. ترى عكس ذلك بفيلم Melinda and Melinda أو ميلندا وميلندا (2004)، تأليف وإخراج وودى ألن، وبطولة رادها ميتشل فى دورىّ العنوان، والقائم على كاتبين أحدهما يرى الحياة كتراجيديا والآخر يراها ككوميديا، وكيف عندما سمعا قصة ميلندا التى تقع فى حب رجل مرتبط بأخرى، تنافسا لتأليفها لكن كلاً وفق قناعته، لنشهد ميلندا فى معالجة تراجيدية جادة تنتهى نهاية مأساوية، ومليندا أخرى فى معالجة كوميدية تنتهى نهاية سعيدة. طبعاً هى فكرة آسرة من فنان مبدع كألن، وإن لم يصب فيها النجاح؛ فالقصة التراجيدية كانت أطول وأكثر إتقاناً من القصة الكوميدية الأقصر والأضعف بالمقارنة. صحيح قد يحمل ذلك إجابته على الخلاف المطروح بالبداية، باعتبار أن الحياة تراجيديا حزينة، وأن الكوميديا مجرد تهوين قصير مفتعل السعادة، لكن هذا ظلم الفيلم الذى لم يتعادل فى مجمله.
أما فيلم Hollywoodland أو أرض هوليوود (2006)، والذى كتبه بول برنمبام، وأخرجه ألن كولتر، وقام ببطولته بن أفليك وأدريان برودى، فيحاول تقديم سيرة الممثل الأمريكى چورج ريفز، الذى اشتهر بأداء دور سوبرمان بالتلفزيون فى خمسينيات القرن السابق، من خلال المحقق الذى يسعى لمعرفة سر موته المفاجىء. تأسس الفيلم على خطين متوازيين، الأول فى الحاضر لهذا المحقق وسعيه للقاء كل من كان له صلة بالنجم، والثانى فى الماضى لهذا النجم لنطالع إحباطه العاطفى والفنى. للأسف طغى الخط الأول على الثانى، ليغرق الفيلم أحياناً فى حياة المحقق، وطلاقه وإبتعاد ابنه عنه، مما شوّش على الخط الرئيسى وعطّل التشويق فيه. حتى إن قلنا أن الفيلم لم يكن دراما سيرة ذاتية، أو عملاً بوليسياً، بقدر ما كان عن رجلين فى لحظة إحباط، يبحثان عن حب حقيقى ولا يجداه وسط الأضواء الكاذبة لـ”أرض هوليوود”، وحتى إن بدا اجتماع المحقق وولده فى لقطة النهاية مفتاحاً لهدف الفيلم بخصوص قيمة الحب الحقيقى، المجانى وغير القائم على منفعة متبادلة—تبقى مشكلة وجود خطين متوازيين يعرقل أحدهما الآخر، ويقوم ببطولتهما ممثلان متضاربى الإمكانيات (أفليك بطل خط الماضى كان أكثر حضوراً وتمكّناً من برودى بطل خط الحاضر) وهو ما حوّل الفيلم لفيلمين غير متكافئين فى الإيقاع والقدرات.
فيلمان لطغيان نوع على نوع آخر
أحياناً يطغى نوع على أخر فى نفس الفيلم، مما يفقده التناغم ويبعده عن مراده الأصلى. ترى ذلك فى فيلم Evolution أو تطوّر (2001) إخراج إيڤان رايثمان، عن قصة لدون چاكوبى، وبطولة ديڤيد ديكڤونى وچوليان مور، حيث مجموعة علماء يدرسون إنتشار كائنات فضائية بمدينة أمريكية، وقدرتها على التحول لأكثر من شكل. فعلى الرغم من دعاية الفيلم التى أكدت أنه كوميديا، ووجود عدد من نجوم الضحك فيه، فإن تفاصيل الخيال العلمى زادت، وكمية المفارقات الطريفة قلّت. فالمَشَاهد التى تعرض هذه الكائنات “المتطورة” بأشكالها الشاذة، وإمكانياتها الغريبة، تقتنص من وقت وشخصية الفيلم الكثير، فى الوقت الذى تتقلص فيه الكوميديا لمجرد مشاهد قصيرة، وجمل عابرة، وهو ما أنتج فى المجمل خيالاً علمياً يتمسّح فى الكوميديا. بالمناسبة، المخرج رايثمان قدم فى عامى (1984) و(1989) فيلمين من سلسلة Ghostbusters أو طاردوا الأشباح، والتى كانت كوميديا خيال علمى أيضاً، لكنها – على العكس – حققت تعادلاً ممتازاً بين النوعين.
أما فيلم The Other Man أو الرجل الأخر (2008) سيناريو وإخراج ريتشارد إير، وبطولة ليام نيسون وأنطونيو بانديرس، فيحكى قصة رجل علم بعد وفاة زوجته أنها كانت تحب أخر، وسعى لتتبع هذا الشخص للإنتقام منه. لكنه يكتشف أن زوجته أحبت كلاً منهما، وأن هذا “الرجل الأخر” قدم لها عطفاً وحناناً عجز هو عن تقديمه فى مرحلة برود أعترت علاقتهما. المشكلة أن الفيلم حاول بيع هذه القصة الرومانسية كفيلم تشويقى، خاصة عندما يُخفى أمر موت الزوجة المفروض حدوثه من البداية، ولا يُعلِن عنه إلا فى المشاهد الأخيرة، ويستغل بطل الفيلم فى مشاهد تبديه كرجل يبحث عن زوجته، أضف لذلك دعاية شركة الإنتاج التى روّجت للفيلم كعمل بوليسى عن زوجة مختفية ! غالباً لتسيّد أفلام الكوميديا والتشويق على عموم الإنتاج الهوليوودى، صار الفيلم الذى يقدم “دراما” وحسب شيئاً غير مُربِح، فكان الحل أن يجعلوه أكثر إثارة عبر إيحاء كاذب بوجود نوع محبب بعينه، مما فرض تشويقاً مزعوماً على الدراما العاطفية، وكأن الفيلم الرومانسى اجتاحه فيلم غموض زائد، لنكتشف فى النهاية أن الأمر حيلة لبيع الفيلم، وليس جزءاً من نسيجه.
***
وهكذا، يفتقد الفيلم جزء كبيراً من قوته إذا ما غاب عنه الإتزان، وأعطى الإنطباع أنه عملين فى واحد. لذا أظن أن أحد تعريفات الفيلم الناجح هو ذلك الذى لا يكن – دائماً وأبداً – “حاملاً” فى فيلمين!
***
أحمد عبدالرحيم – سيناريست وناقد مصري