قد يكون فيلم “أفغانستان.. لماذا؟” هو الفيلم الوحيد الذي لم نشاهده لسندريلا الشاشة العربية سعاد حسني حتى الآن، فرغم مرور أكثر من 30 عاما على إنتاجه، إلا أن الفيلم لم يعرض إطلاقا ولم يصل إلى شاشات السينما يوما!
البعض سمع عن الفيلم بسبب صور سعاد حسني التي تنتشر بين الحين والآخر على مواقع التواصل الاجتماعي، وتظهر فيها وهي ترتدي زيا أفغانيا من ذلك الذي اعتادت النساء في أفغانستان ارتدائه قبل ظهور حركة طالبان وتنظيم القاعدة، إلا أن المعلومات المتاحة عنه شحيحة وقليلة للغاية حتى في المواقع الإلكترونية المتخصصة في تاريخ السينما، وكأن الفيلم أريد له أن يذهب طي النسيان، وأن يختفي من ذاكرة السينما تماما.
في السطور التالية، نعرض لقصة هذا الفيلم والأسباب وراء منعه، لإعادة رسم صورة كاملة لواحد من أكثر الأفلام غموضا في تاريخ السينما العربية.
السوفييت في كابول
في أواخر عام 1979 قام الاتحاد السوفيتي السابق باحتلال أفغانستان للدفاع عن النظام الحاكم الذي كان يوالي موسكو في مواجهة الحركات الاحتجاجية التي كادت تطيح به، وفي ظل الرفض الدولي الذي كانت تقوده أمريكا للاحتلال السوفيتي، بدأت واشنطن والرياض وعواصم أخرى في دعم حركات المقاومة المسلحة “المجاهدين الأفغان” ضد السوفييت.
وكان الحدث الدولي بهذه الصيغة، كفيلا بأن يثير شهية المخرج والسيناريست المغربي عبدالله المصباحي، الذي أثرت نشأته الدينية وإيمانه الراسخ بالقضايا الوطنية في تكوينه الفكري السينمائي، حيث قرر أن يدلي بدلوه ويشارك بسلاحه في قضية آمن بعدالتها، ليبدأ خطواته الفعلية لصناعة فيلمه المثير للجدل “أفغانستان.. لماذا؟” محاولا الانتصار للقضية الأفغانية، وفي عام 1983 سافر المصباحي إلى باكستان ليلتقي بالمجهادين الأفغان الذين فروا من بلادهم، حتى يجمع منهم معلومات حقيقية عن طبيعة الأحداث وما شهدته بلادهم تحت الاحتلال، تمهيدا لكتابة سيناريو الفيلم.
المخرج المغربي الراحل عبدالله المصباحي
عبدالله غيث يتزعم المجاهدين!
قصة الفيلم الذي كتبه المصباحي كانت تدور حول أستاذ جامعي –لعب دوره عبدالله غيث- يعمل بجامعة كابول ينهاض الاحتلال السوفيتي لبلاده، وكان يجاهر بإدانة الاستعمار ويصفه بأنه هجوما على حرية شعب مسالم، وهو ما أكدته قساوة الطغاة المحتلين، الذين عمدوا إلى المبالغة في التنكيل بالشعب الأفغاني واستفزازه عبر امتهان مقدساته مثل حرق القرآن الكريم علنا.
وفي مواجهة هذا السخط، يقرر الأستاذ الجامعي جمع عددا من المواطنين ويطالبهم بمغادرة كابول والتوجه إلى بيشاور على الحدود مع باكستان، وفي طريقهم ينشر المدرس الجامعي دعوته للتصدي إلى الاحتلال، وخلال فترة وجيزة تصبح هذه المجموعة الصغيرة قوة كبيرة تضم مئات الآلاف الذين قرروا تحدي السوفييت وطردهم من أراضيهم.
ولكن سرعان ما تتفجرت الخلافات بين الأفغان أنفسهم، فكل فريق يريد أن يستولي على السلطة وتكون له الكلمة العليا، وكان هذا الصراع الداخلي هو الذي سهل لاحقا اختراق القوات الأمريكية لهذه المجموعات الأفغانية التي تقاوم الاحتلال السوفيتي.
وبعدما انتهى المصباحي من كتابة السيناريو، قرر التوجه إلى السعودية بحثا عن تمويل للفيلم.
تمويل سعودي لفيلم سينمائي!
في البداية فشل المصباحي في الحصول على تمويل من جامعة الدول العربية، التي كما يقول المصباحي رفضت المشاركة في إنتاج فيلم يغضب السوفييت! لذا توجه إلى السعودية واستطاع أن يقنع بعض أصدقائه السعوديين الأثرياء، بالمساهمة في تمويل المشروع، وجمع من خلالهم مليوني دولار أمريكي، ليبدأ الخطوات الأولى للإنتاج.
في أول الأمر، اتفق المصباحي مع الحكومة الباكستانية على تصوير الفيلم بمدينة بيشاور وبمشاركة المجاهدين الأفغان أنفسهم وبمساعدة من الجيش الباكستاني، إلا أنه سرعان ما عدل عن رأيه وقرر أن يقوم بتصوير الفيلم كاملا في بلده المغرب وبالتحديد في مدينة تطوان، وهو القرار الذي ندم عليه المصباحي ووصفه في مذكراته بـ”الخاطئ”.
فريق عمل عالمي
كان غرض المصباحي أن يصنع فيلما عالميا بنجوم عالميين، ولكن بتقنيين مغاربة وعرب، كان على رأسهم المصور الكبير عبدالعزيز فهمي، فيما يقول الناقد المغربي عمر بلخمار، إن المخرج المصري يوسف شاهين أعار المصباحي طاقمه التقني الكامل لمساعدته في تصوير فيلم “أفغانستان.. لماذا؟”.
أما الممثلين فاختار، شاك كونرز، وهو رياضي أمريكي اشتهر بلعب كرة السلة والبيسبول ودخل مجال التمثيل في عام 1952، إلا أنه لم يحقق شهرة كبيرة في السينما، وكانت أدواره في التلفزيون أهم، وجوليانو جيما، وهو ممثل إيطالي وجد فرصته في السينما الأمريكية، حيث اشتهر بأداء أدوار رعاة البقر والمشاركة في الأفلام التاريخية الحربية.
كما شاركت في الفيلم أيضا النجمة اليونانية إيرين باباس، التي اشتهرت بأداء أدوار الشخصيات العربية في أفلام المخرج مصطفى العقاد، الرسالة وعمر المختار، والنجمان المصريان سعاد حسني وعبدالله غيث، بالإضافة إلى ممثل فرنسي يدعى “مارسيل بوزوفي”، وما يزيد عن 30 ممثلا مغربيا على رأسهم الممثل حميدو بنمسعود، بخلاف آلاف الكومبارس من مدينة تطوان.
عبقرية السندريلا
وعن اختيار المصباحي لسعاد حسني لتقوم ببطولة فيلمه، قالت الكاتبة الكبيرة نعم الباز، في مقال لها نشر بصحيفة “المصري اليوم” عام 2010 بمناسبة زيارتها للمغرب، إن المصباحي اختار سعاد “للعبقرية التى فرضت نفسها على الساحة الفنية وعششت وتربعت على عرش الوجدان العربي”، مشيرة إلى أن المخرج لم يجد أفضل منها ليواجه العبقرية اليونانية إيرين باباس وجوليا نوجما وشيك كونرس ونجم المسرح العملاق عبدالله غيث.
وتضيف أن سعاد فازت بالدور من بين نجمات العالم كله لأن المصباحي اختارها “بعيني جواهرجي”، حيث جسدت سعاد دور فتاة أفغانية تقف ضد الذين يهددون باحتلال بلدها، حتى أنها لم تخش الوقوف أمام المحققين ولا حتى الوقوف تحت تهديد السلاح.
وبينت الباز أنها التقت مع المصباحي، حيث سألته كثيرا عن فيلمه وعن سبب اختياره لسعاد حسني لبطولة الفيلم مع كل هؤلاء النجوم العالميين؟ فقال المصباحي: “سعاد كل شىء فيها عبقري، ملامحها عبقرية تستطيع أن تعطي الإحساس بأنها مصرية وأفغانية وبالدور الذي تؤديه تقنع من أمامها بحرفية عالية” كاشفا أن سعاد حسني دعيت لحضور مهرجان موسكو عام 1984 إلا أنهم تراجعوا عن دعوتها ومنعوها من دخول البلاد بعدما علموا أنها ستشارك في فيلم المصباحي.
بداية الأزمات
كان ينوي المصباحي أن تكون مدة عرض الفيلم 3 ساعات مثل أي إنتاج كبير، واستطاع أن ينجز منها 70% أي قرابة ساعتين ونصف، ولم يتبق إلا مشاهد المعارك التي تعتمد على السلاح والدبابات وشاحنات الجيش والتي كانت ستستغرق النصف ساعة المتبقية، إلا أن الجيش المغربي رفض أن يصرح له باستخدام الآليات العسكرية في التصوير دون توضيح أسباب، فتوقف التصوير تماما.
توقف التصوير كان من الطبيعي أن يثير غضب الممولين السعوديين الذين أرسلوا مندوبين عنهم إلى المغرب للتأكد من أسباب التوقف، ويقول الصباحي “ومن سوء حظي أن من بين هؤلاء المندوبين أحد المتعاونين السعوديين مع المخرج مصطفى العقاد واسمه القزاز”، والشخص المقصود بحديث المصباحي، هو رجل الأعمال السعودي محمد فوزي القزاز، وهو واحد من أوائل السعوديين الذين فكروا في الاستثمار في السينما.
ويقول المصباحي أن وفد الممولين اتهمه بالخداع وبأن ما تم إنجازه لا يناسب أبدا المبالغ التي أنفقت، رافضين استكمال الإنتاج لإكمال الفيلم، بل وطالبوا باستعادة أموالهم التي دفعوها!
مؤامرة سعاد حسني!
ويرى المصباحي أن وفد الممولين جاء ليهدم المشروع، مرجحا أن الاتحاد السوفيتي تدخل وطالبهم بوقف تصوير الفيلم عندما علم بقصته، كما قال إن الولايات المتحدة تدخل لمنع الفيلم أيضا! زاعما في مذكراته أن سعاد حسني شاركت في المؤامرة ضده بعدما انتشر نبأ زواجها بالقزاز الذي التقاها في تطوان.
ولم يوضح المصباحي لا في مذكراته ولا في أي من حواراته طبيعة الاتهام الذي وجهه لسعاد حسني بالتآمر لإفشال الفيلم، وهو اتهام غريب يخالف طبيعية الأمور، فكيف لسعاد أن تسعى لتدمير مشروع فني عالمي بهذا الحجم بعدما أنجزت أغلب مشاهدها تقريبا؟ ولماذا تأخذ هذه الخطوة وهي التي كانت متحمسة للمشاركة في الفيلم باعتراف الكاتبة نعمة الباز نقلا عن سعاد حسني في المذكرات التي سجلتها معها؟ وباعتراف المصباحي نفسه في أحد تصريحاته لصحيفة الأهرام في عام 2013!
وتوقف الفيلم بشكل تام عند هذا الحد، حيث تكالبت المشاكل على المصباحي، واتحد الجميع ضده، وفي خضم الصراع على الفيلم، قرر رئيس المركز المغربي السينمائي سحب ترخيص عمل المصباحي كمخرج وأغلق شركته السينمائية، كما قام بحجز الأجزاء التي تم تصويرها من الفيلم معلنا حظر عرضه، ومنذ ذلك الحين والفيلم -الذي لم يكن يمتلك المصباحي أي نسخ أخرى منه- حبيس ومعتقل داخل أدراج المركز السينمائي المغربي.
محاولات إحياء الفيلم
كانت أول عودة للحديث عن الفيلم وفرصة إحياءه من الرماد، في عام 2005 تقريبا، عندما أعلن المصباحي أنه بدأ تصوير الجزء الثاني من فيلمه “أفغانستان لماذا؟”، دون أن يوضح كيف يصور جزءا ثانيا من فيلم لم يعرض جزءه الأول حتى الآن، وتسربت حينها أنباء، أن المصباحي وُعد بإطلاق سراح فيلمه القديم، وتوقعوا أن تتطور الأمور ويعرض الفيلم قريبا، إلا أن أخبار الفيلم اختفت مجددا ولعدة سنوات، قبل أن تعود وبقوة في عام 2013.
ففي ذلك العام، أعلن المصباحي أن فيلمه القديم سوف يرى النور مؤكدا أن الظروف والملابسات التي كانت سببا وراء منعه طوال هذه السنوات زالت ولم يعد لها وجود.
وأوضح المصباحي في وسائل الإعلام المصرية والمغربية، أنه قام بتصوير مشاهد جديدة لإضافتها للفيلم، وأدخل تعديلات جوهرية على أحداث الفيلم ليكون مواكبا للتغيرات الجديدة التي شهدها العالم منذ الثمانينات وحتى الآن، كاشفا أنه أضاف مشاهد تؤرخ لفترة ما بعد الانسحاب السوفيتي وظهور حركة طالبان و”أسامه بن لادن” ومعه تنظيم القاعدة، وكذا الحرب الأمريكية على أفغانستان وما جرى في معتقل جوانتانامو، في محاولة منه لربط الماضي بالحاضر، لافتا إلى أنه غير اسم الفيلم إلى “أفغانستان.. الله وأعداؤه”.
إلا أن الفيلم أيضا لم يظهر للنور بالرغم من تصوير مشاهد جديدة رفعت الميزانية الإجمالية التي صرفت على الفيلم في المرتين إلى 25 مليون دولار، وبالرغم من ذلك لم يتوقف المصباحي عن الحديث عن قرب عرض الفيلم في دور السينما، متوقعا أن يحدث الفيلم في نسخته الجديدة ضجة عند عرضه مؤكدا أن الفيلم يزيح غبارا كثيفا أمام مختلف الأجيال خاصة أنه كان قد تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي، وبسيطرة وغلبة أمريكا في المستقبل كما حدث بالفعل.
وظل المصباحي يؤكد دون كلل أو ملل، أن الفيلم بات جاهزا للعرض وأنه وضع له اللمسات الأخيرة، وينتظر فقط أن يعرض في دور السينما، إلى أن توفي المصباحي نفسه في 16 سبتمبر 2016، دون أن يعرض الفيلم أو يشاهد الجمهور منه ولو مشهدا واحدا.
رامبو والسندريلا!
كانت هذه هي النهاية الحتمية، لفيلم رفض مؤلفه أن يجامل أو يرضي أحد، بل قرر أن ينتقد الجميع، فقد تنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه الفعلي بسنوات طوال، واتهم الولايات المتحدة بالتلاعب بالأفغان وتحدث عن مخططاتها المستقبلية في المنطقة، كما اتهم العرب والمسلمين بالتخاذل والوقوف موقف المتفرج.
كان الفيلم لا يرضي أمريكا بكل الأحوال، كانت أمريكا تريد أن توثق دورها في أفغانستان، ولكن من منظورها الخاص، عبر فيلم يكون بطله “رامبو” الأمريكي، وليس أستاذ جامعي مسلم أفغاني يدافع عن عقيدته وأرضه وأفكاره.
لذا في الوقت الذي منع فيه عرض فيلم “أفغانستان.. لماذا؟” عام 1986 بتدخل من الولايات المتحدة، أنتجت هوليود بعدها بعامين الجزء الثالث من سلسلة أفلام “رامبو” من بطولة سيلفستر ستالوني، لتحكي القصة عبر رؤيتها الخاصة، عبر فيلم تجاري سطحي، لا يهتم بمناقشة قضية الاحتلال، بقدر اهتمامه بتمجيد الدور الأمريكي في شخص رامبو ومساعيه لمساعدة “الأفغان الغواغائيين الجهلة” كما صورهم الفيلم.
وظني أن فيلم “رامبو 3” ما كان ليظهر للوجود لولا إنتاج فيلم المصباحي، أو على الأقل كان ليظهر بقصة مغايرة تماما بعيدا عن أفغانستان وأزمة الاحتلال السوفيتي، كما تردد أن سعاد حسني، بطلة فيلم “أفغانستان.. لماذا؟” ستظهر مع سيلفستر ستالوني في “رامبو 3″، وهو ما لم يحدث حينها، وكأن الولايات المتحدة أرادت إعادة إنتاج فيلم المصباحي ولكن بالطريقة التي ترضيها.
كانت المغرب في خضم كل ذلك في موقف حرج قياسا على مواقفها السياسية، كانت من الدول القلائل في ذلك الوقت الذي تحتفظ بمكانة متميزة بين القطبين المتصارعين، أمريكا والاتحاد السوفيتي، وتحرص على أن تبقى على مسافة واحدة بينهما، وكان الفيلم على ذلك، يورطها في مشاكل مع أمريكا والسوفيت معا، كونه يهاجم الاثنين ويفضح مخططاتهما، وبالأخص أمريكا التي كانت ترفض عرض الفيلم بشكل قاطع، لذا لم تجد بدا من الانصياع للقضاء على الفيلم وإخفاء ذكراه نهائيا.
كانت الأزمة الكبرى في الفيلم، هي قدرته غير العادية على قراءة الواقع لاستشراف المستقبل، وهو ما أثبتته الأحداث التالية بشكل يثير الدهشة، ويدعو المهتمين لدراسة تاريخ السينما أن يتوقفوا طويلا أمام “أفغانستان.. لماذا؟”، والذي يمكن أن يدعونا تحليل الأفكار التي طرحها الفيلم، إلى إعادة النظر في دور السينما وقدرتها على قراءة الواقع والمستقبل.
وما يكشف براعة الفيلم، هو أنه لايزال ممنوع من العرض حتى الآن، فكل الأفلام التي منعت لأسباب سياسية أو دينية أو غيرها من الأسباب، جاء عليها وقت تغيرت فيه المعادلات واختلف فيه الزمن وأصبحت متاحة للعرض إلا فيلم “أفغانستان.. لماذا؟”! فكلما فكروا في عرضه اكتشفوا أنه لايزال غير صالح للعرض، اكتشفوا أنه لايزال فيلما كاشفا فاضحا استثنائيا يصعب إتاحته للجمهور الذي يراد له أن يتلقى جرعة محددة من الوعي.