في الفيلم الأمريكي The Matrix أو المصفوفة (1999)، من تأليف وإخراج الأخوان وارتشوفسكي، يذهب بطل العمل “نيو” لزيارة العرّافة، فيجد عندها عددًا من الأطفال، واحد منهم يتمكن من ثني ملعقة دون لمسها، وبعد أن يتعجب “نيو” للمنظر، يفاجئه الطفل: “حاول أن تدرك الحقيقة؛ إنه لا توجد ملعقة.. وساعتها سترى أنها لا تنثني، أنت من تظن ذلك!” لأننا في الماتريكس، لعبة الوهم، وهو ما يذكّرك أول ما يذكّرك بفن السينما نفسه.
أتذكر محبة الكل لفيلم ماتريكس، الجزء الأول، حين إطلاقه في دور العرض المصرية، ربما لخيالية القصة، وجدَّة الخدع السينمائية، وفوران المغامرة، وربما – أيضًا – لما حمله من رموز وأفكار يمكن قراءتها على أكثر من وجه، وهذا وحده نادر؛ خاصة حين يحاك ضمن نسيج فيلم أكشن / خيال علمي، تجاري. لكن بينما نال الفيلم قراءات متنوعة حاولت تفسيره سياسيًا (هل الماتريكس هو المجتمع العصري الذي تحكمه شركات كبرى تلتهم الإنسان حتى تعيش وتتطور؟)، أو فلسفيًا (هل الحياة ليست إلا تحقيق لإرادة عليا تقضي عليك بما لا تريده؟) — ثمة قراءة أخرى خطرت في بالي حين شاهدت الفيلم لأول مرة في دار عرض قاهرية، وهي قراءة مفادها أن هذا فيلم عن السينما.
فكّر معي ببساطة؛ الماتريكس هي السينما، والعالم الخَرَب خارجها هو واقعك خارج دار العرض، وأنت تدخل الفيلم خاملًا مسالمًا كـ”توماس أندرسون”، وتعيش داخله مُخلِّصًا مغوارًا كـ”نيو”، و –الأهم– أن تخرج منه بطلًا مثله!
على مستوى أعمق، ستجد هذه المعاني مجسَّدة، عبر الشخصية الرئيسية في الفيلم ورحلتها، بذكاء ممتع. فالماتريكس، أو ذلك العالم الرقمي الذي يعيشه البطل، هو مجرد إلهاء خلّاب للجميع عن الحقائق المؤلمة المحيطة بهم، وتمويه متقن عن بيع أجسادهم وأرواحهم لحساب قوى آلية تستهلكهم، في عالم أصلي شنيع، لا يراه إلا من يستيقظ من نومته بالماتريكس، ويعي ما يغيب عنه من مصائب خارجها. لهذا فإن الفيلم يحمل هذه الثنائية؛ العالم الخيالي المصنوع، الذي يشمل الشعوب مسلوبة الإرادة، التى تحيا فيه حياتها الاستهلاكية الطرية، ثم العالم الواقعي المتخم بقسوته ومآسايه، البعيد عن الأناقة الظاهرية ودغدغة الحواس، والذى يشمل البقية الباقية من الشعب، الذين يواجهون الظروف المعذِّبة، ويسعون للحرية الصعبة. فما أشبه العالم الأول بالسينما، لاسيما الهوليوودية خالصة التسلية، وما يضاهيها من خارج هوليوود، التي تسلب لبّك بإثارة أحداثها، وفتنة صورها، وما أشبه العالم الثاني بعالم الواقع، الذي لا يملك كل هذا الترف، ويضغط عليك بمتاعبه.
هذا المعني تدعمه الجملة التي عزَّز بها “نيو” شجاعته عند القفز من المصعد في معركة النهاية: “إنه لا توجد ملعقة!” قاصدًا تلك الملعقة التى نتخيل أنها تنثني بينما هي غير موجودة أصلًا، وعلى نفس المنوال فإننا نتخيل أن هذه القفزة خطرة، بينما هي محض خدعة (مثل خدع السينما)، لهذا سيخرج “نيو” منها دون خدش واحد، لأنه داخل الماتريكس، أو عالم الخيال الذي لا يخضع لقواعد الواقع؛ وهو ما يشير إلى السينما كنوع عظيم من الواقع التخيلي الجماعي. فمثلًا النار التى تندلع بعد قفزه من المصعد لا تلمسك، أنت فقط تتخيل حرارتها، وهو ما يعبِّر عنه “مورفيوس” في عبارته: “في الماتريكس.. العقل ينفصل عن الجسد”؛ أليست هذه هي قصة مشاهد كل فيلم؟ يمنح عقله للمعروض على الشاشة، فيعيش الوهم تحت سحر طقس الفُرْجَة، وموهبة الصنعة، حتى يتحوَّل هذا الوهم إلى حقيقة لا يمل من تصديقها!
اسأل نفسك: لماذا يصرخ الكثيرون إذا ما هوى بطل الفيلم من شاهق، أو أصابته طلقة غادرة؟ الإجابة –كما جاءت على لسان “مورفيوس”–: “لأنهم لم يحرروا عقولهم بعد”؛ مُصرِّين على توحدهم مع البطل، متناسين وهميته هو وعالمه، لتصير الماتريكس / السينما هي اللعبة الأثيرة لدى جمهور الواقع المتردي الذي لا متعة فيه، والتي حتى إن ورطتك في مشاكل ما، فإنها ستهبك حلم الانتصار عليها، وأنت جالس في كرسيك؛ تمامًا مثل “نيو” ورفاقه في سفينتهم.
بإختصار، إن الماتريكس هي لعبة الوهم التي نمارسها بإرادتنا كلما تفرغنا لمشاهدة فيلم، وقد بعنا أنفسنا لشاشة الزيف الملونة الواسعة، كي نتابع “نيو”، كل “نيو”، وهو يفلت من طلقات الرصاص كافة، أو يصاب بها ليحيا من جديد؛ وهو الأمر الذي يتكرر كثيرًا فى أفلام الحركة الهوليوودية منذ التسعينيات، كأنها انقلبت إلى أجزاء من ملحمة حديثة، أبطالها يكرِّرون قصة المسيح الذي سيعود حيًا مهما حدث، والأمثلة بلا حصر: بطل The Crow أو الغراب (1994) يموت في البداية، ثم يعود خارقًا، بطلة 3 Alien أو الكائن الغريب – الجزء الثالث (1992) تموت فd نهايته، ثم تعود للحياة في Alien: Resurrection أو الكائن الغريب: البعث (1997)، بطلة Catwoman أو المرأة القطة (2004) تموت في البداية، ثم تعود للحياة أقوى مما كانت، ومؤخرًا، سوبرمان – شخصيًا – يموت في Batman v Superman: Dawn of Justice أو باتمان يواجه سوبرمان: فجر العدالة (2016)، ثم يعود للحياة في Justice League أو فريق العدالة (2017)!
تتسق عبارة الدعاية الخاصة بفيلم ماتريكس مع ذلك حينما تقول: “صدِّق ما لا يمكن تصديقه”؛ إنها مفتاح الإيمان بالسينما الخيالية، ومن ثم فكلنا أمام هذه الأفلام مسيح يعيش البطولة ويتحدى الموت، محققًا ما قد يعجز عنه في واقعه؛ ابتداء من السمات الإنسانية العادية كالشجاعة والنبل، وصولًا إلى غير العادية كالقدرات الخارقة وصنع المعجزات، والفكرة – في الفيلم موضع الحديث – أن تصدق إمكانية توافر هذا فيك داخل الماتريكس، وخارجها، لأن القتال مستعر على الجبهتين؛ الخيالية، والواقعية كذلك، لذا لا تفرِّغ انفعالاتك كلها كمشاهد في العالم الأول، ثم تخرج للعالم الثاني كائنًا متبلدًا، ضد الفعل؛ فبهذا الشكل ستبتعد عن مساحة المُخلِّص المغوار “نيو” داخلك، وتستقر فى مساحة الخامل المسالم “توماس أندرسون”!
الحق أنه حين التفكر في هذه القراءة، لن تملك سوى تذكر فيلم المخرج وودى ألن The Purple Rose of Cairo أو زهرة القاهرة القرمزية (1985)، حيث بطل فيلم سينمائي يهرب من الفيلم الذي كاد يأسره بعالمه المُعلَّب المحفوظ (ماتريكس)، مخترقًا شاشة دار العرض إلى خارجها (الواقع) كي يستمتع بمشاعر مختلفة، وتجارب جديدة، أو يحيلك هذا إلى فيلم المخرج چون ماكتيرنان Lat Action Hero أو آخر أبطال الأكشن (1993)، حيث ضابط شرطة يحيا مظفرًا على الدوام، في عالم مصطنع يقبع داخل فيلم أكشن (ماتريكس)، وكيف يقاسي مطاردة المجرمين بعد انتقاله إلى عالمنا (الواقع) الأقل مثالية، والأكثر إيلامًا. إنها تنويعات على المفارقة عينها، بين عالم السينما وعالم الحياة الفعلية، التي تؤكد في مجملها زيف العالم الأول، ودور الوعي في كشف حقيقته، وإرادة اختياره أو رفضه. لذا لا عجب أن الموزِّع المصري اختار كلمة “المتمرد” عنوانًا تجاريًا لفيلم The Matrix حين إطلاقه في دور عرضنا سنة 2000، فنحن بصدد تمرد على قيم الوهم، وبحث عن الحقيقة داخلنا وخارجنا.
وعليه عزيزي مشاهد هذه النوعية من السينما المبهرة، أنت لست إلا “آليس” التي تتبع الأرنب الأبيض بكامل إرادتها، لتقع، أو تتلذذ بالوقوع، في “بلاد العجائب” التي لا تنتهى عجائبها، ومن ضمنها هذا الفيلم، الذي يقدم – على غير أشباهه – رسالة خفية رائعة يجب ألا تتجاهلها؛ فهناك عالم مرعب، شبه متدمر، خارج الماتريكس يحتاج إلى بطل يصلحه، وكل ما حققه “نيو” من انتصارات كان مجرد تحضير لحرب أكبر في ذلك العالم الأصلي، حتى يكتمل تحرير الجميع من أوهامهم، وأعدائهم. إنه العالم الذي توجد فيه الملاعق.. وأنت أيضًا. فهل ستتنضم إلى القلة المقاوِمة وسط أطلاله البائسة، أم ستبقى مع الأغلبية في الماتريكس لذيذة الخداع؟!
***
أحمد عبدالرحيم – سيناريست وناقد مصري