من الأمور الأكيدة، أن أرض مصر لم تبح بكل أسرارها وكنوزها بعد، لذا كان من الطبيعي أن تستمر فيها عمليات الكشوف الأثرية العلمية التي بدأت قبل أكثر من مائتي عام -مع دخول الحملة الفر نسية مصر- وحتى الآن، لنفاجأ في كل عام بأثر جديد وكنز فريد لم نكن نعرف عنه شيئا.
إلا أن الأثر الذي نتحدث عنه في هذا الموضوع، هو أثر له حالة خاصة، حيث أن مكانه معروف، والموضع الذي دفن فيه معلوم ومذكور في عدد من المؤلفات، إلا أن الناس نسيته مع مرور الزمن، واعتقدوا أنه اختفى إلى الأبد، بينما هو يقبع تحت ميدان السيدة زينب بالقاهرة ينتظر من يخرجه وينفض عنه التراب.. إنه قنطرة السباع التي بناها الظاهر بيبرس قبل أكثر من 750 عاما فوق الخليج المصري، الذي أصبح حاليا شارع بورسعيد.
الخليج المصري
الخليج المصري هو مجري مائي صناعي، بني لأول مرة في عهد الملك المصري سنوسرت الثالث من ملوك الأسرة الثانية عشرة، بهدف ربط النيل بالبحر الأحمر، ومنذ ذلك الحين تم ردم الخليج وإعادة حفره عدة مرات على امتداد العصور، وقد ظل موجود وتجري به المياه وتمر فوقه المراكب حتى نهايات القرن التاسع عشر.
يقول الدكتور أيمن فؤاد سيد في تحقيقه لكتاب (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) للمقريزي، إن الخليج المصري كان يبدأ من نقطة على النيل شمال مدينة الفسطاط، حيث يوجد الآن قناطر مجرى العيون، وكان يتجه إلى الشمال الشرقي حتى ميدان السيدة زينب، ومنه شمالا إلى ميدان باب الخلق ثم إلى ميدان باب الشعرية، ثم شمالا إلى الأراضي الزراعية حيث مجرى الترعة الإسماعيلية، ومنها إلى قرية العباسة بمحافظة الشرقية ثم إلى مدينة الإسماعيلية الحالية ثم يتجه جنوبا إلى البحر الأحمر.
ويقول المقريزي في “المواعظ والاعتبار”، إن الخليج المصري كان يضم العديد من القناطر التي كانت تساعد الناس على المرور من جانب إلى آخر، حتى وصل عدد هذه القناطر في زمن المقريزي إلى 14 قنطرة، كان أشهرها وأهمها وأكبرها على الإطلاق، قنطرة السباع.
قنطرة السباع
يقول المقريزي إن أول من أنشأ هذه القنطرة هو الظاهر بيبرس (1223م – 1277م) وكانت تشتهر بوجود نقش للسباع “الأسود” عليها، وهو شعار الظاهر بيبرس في ذلك الوقت، لذلك سميت باسم قناطر السباع، وكانت عالية مرتفعة.
ويضيف المقريزي أنه في عهد الملك الناصر محمد بن قلاوون، تم إعادة بناء هذه القنطرة، وعندما قام عمال الناصر محمد بن قلاوون بإزالة نقش السباع بعد عملية تجديد القنطرة، قال المصريون إن الناصر يشعر بالغيرة من إنجازات بيبرس وأراد محو ذكره لذلك أزال شعاره من على القنطرة، وعندما وصل هذا الكلام إلى الناصر محمد بن قلاوون، قرر إعادة نقش السباع مرة أخرى إلى القنطرة، لتظل تعرف بهذا الاسم لعدة مئات أخرى من السنين.
ويوضح أيمن فؤاد سيد، أن قنطرة السباع كانت مقامة فوق الموضع الذي أصبح حاليا ميدان مسجد السيدة زينب، وكانت تتكون القنطرة من جزئين، الأول يوصل بين شارع الكومي (امتداد شارع خيرت الآن) وبين شارع السد، والثاني يوصل بين شارع عبدالمجيد اللبان وبين شارع الكومي.
أول خط للترام
يقول حمدي أبو جليل في كتابه “القاهرة شوارع وحكايات”، إن الخليج المصري ظل مستعملا في إرواء القاهرة وضواحيها قرونا عديدة إلى أن أنشئت شركة مياه القاهرة في عهد الخديوي إسماعيل.
ويوضح فتحي حافظ الحديدي في كتابه “دراسات في التطور العمراني لمدينة القاهرة”، أن منطقة السيدة زينب كانت من أوائل المناطق التي وصلت إليها أنابيب المياه النقية، وكان مسجد السيدة زينب أول مسجد في مصر وربما في العالم كله، يتم توصيل أنابيب المياه إليه بدلا من الميضأة التي كانت موجودة به، والتي كانت أحد أسباب انتشار الأمراض والأوبئة، نظرا لأن نفس مائها كان يستعمله كل المصلين.
وقد تسبب مد أنابيب المياه إلى بعض الأحياء، في انخفاض منسوب المياه بالخليج المصري بشكل كبير لم يعد يسمح بمرور المراكب والسفن، حيث تم إهماله وأصبح ماءه الضحل مرتعا لفضلات وقاذورات البيوت المطلة عليه، بل وتحول إلى بؤرة للتلوث والأمراض.
وفي عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، وبالتحديد في عام 1897 تقرر ردم الخليج مراعاة للصحة العامة، وقامت شركة “ترام القاهرة” والحكومة المصرية معا بردم الخليج، وتحويله إلى شارع مخصص لأول ترام تشهده القاهرة وربما الشرق كله، حيث كان يصل الترام بين غمرة وباب الشعرية ويواصل امتداده إلى حي السيدة زينب.
ميدان السيدة زينب
يقول أيمن فؤاد سيد إنه مع ردم الجزء الأوسط من الخليج المصري في نهاية القرن التاسع عشر، اختفت قنطرة السباع تحت ميدان السيدة زينب الذي دخل فيه جزء من شارع الكومي وجزء آخر من شارع عبدالمجيد اللبان.
ويقول فتحي حافظ إن الأستاذ محمد رمزي الذي توفي عام 1945، أكد أنه شاهد قناطر السباع قبل ردم الخليج المصري، وأن القناطر ردمت تحت ميدان السيدة زينب.
ومنذ ذلك الحين، لم يتم حفر ميدان السيدة زينب لاستخراج هذه القناطر بعدما نسيها الجميع، كما أنه عندما تم حفر خط المترو القريب من مسجد السيدة زينب، كانت عمليات الحفر بعيدة عن الميدان قرابة 450 مترا، وبالتالي فإن القنطرة لاتزال تقبع تحت الميدان حتى الآن.
ولا يعرف على وجه التحديد الحالة التي عليها القنطرة المدفونة الآن، وهل ما إذا كانت تعرضت للتدمير، أم أنها بحالة تسمح بإعادة استخراجها وتركيبها من جديد لتصبح أثرا فريدا من نوعه، إلا أن الأرجح أنها بحالة تساعد على إعادة استخراجها وترميمها، فكما يظهر من الصور القديمة للقناطر التي كانت تمر فوق الخليج المصري، فإنها كانت قناطر منخفضة ولا يحتاج الأمر لتحطيمها أو تدميرها لدفنها، بل يكفي إهالة التراب عليها لدفنها ومساواتها بالأرض أسفل الطريق الجديد.
وفي كل الأحوال، فإن الأمر يستحق البحث، وأن تراعى -على أقل تقدير- أي عمليات تجديد للميدان أو توسعة له، مسألة وجود القنطرة أسفله، وبحث إمكانية حفر أرض الميدان واستخراجها مرة أخرى.