تعد مخطوط “المصحف الأزرق” واحدة من أشهر وأهم المخطوطات العربية الإسلامية على الإطلاق، وأكثرها قيمة وانتشارا بين مختلف متاحف العالم، حيث تتوزع صفحات هذا المصحف الفريد بين العديد من المجموعات الخاصة والعامة، ولا يكاد يمر عام دون أن نجد إحدى دور المزادات الشهيرة وهي تعلن عن بيع صفحة أو صفحات من هذا المخطوط المثير للجدل.
فما قيمة هذه المخطوطة؟ ولماذا تثير كل هذا الجدل والاهتمام على المستوى العالمي خاصة بين مؤرخي الفن وعلماء المخطوطات؟
مخطوطة نادرة
كان أول من لفت أنظار العلماء والمتاحف في الغرب لمخطوطة المصحف الأزرق غير العادية، هو المستشرق والدبلوماسي السويدي فريدريك روبرت مارتن (1868 – 1933)، حيث يقول بحث منشور على المدونة العلمية لجامعة كولومبيا في نيويورك، إن مارتن اشترى بعض أوراق هذا المصحف في اسطنبول قبل عام 1912، حيث أسره جمال هذه الأوراق والطريقة التي كتبت بها.
فقد كشفت هذه الأوراق أن هناك مصحفا كاملا كتب على الرق “جلد الحيوانات” المصبوغ والمشبع باللون الأزرق الداكن، وقد استخدم في كتابة أحرفه رقائق الذهب، وفواصل فضية للآيات، بخط كوفي قديم غير منقوط، كانت هذه التركيبة الفريدة من الألوان، كفيلة بإثارة اهتمام كل من رأى تلك الصفحات، حيث اتفق الجميع أنها أظهرت القيمة الروحية لهذا المصحف بشكل أذهل العقول.
ومنذ ذلك الحين، بدأت عمليات البحث عن باقي صفحات هذا المصحف وعن تاريخه ومن أمر بكتابته، حيث يقول موقع معهد “الدراسات الإسماعيلية” إنه يعتقد أن المصحف الأزرق كان يتكون في الأصل من 600 ورقة تقريبا، ولكن لم يتبق منه سوى قرابة 100 صفحة فقط موزعة على العديد من متاحف العالم والمجموعات الخاصة.
وخلال بحثنا عن الأماكن التي تتواجد بها صفحات هذا المصحف الفريد، وجدنا بعض من صفحاته في كل من متحف متروبوليتان للفنون بنيويورك، ومتحف الأغا خان في تورنتو، ومتحف بروكلين، ومكتبة تشيستر بيتي في دبلن، ومتحف سياتل للفنون، ومتحف اللوفر أبو ظبي، وبعض الصفحات ضمن مجموعة ناصر خليلي الخاصة للفن الإسلامي، إلا أن أغلب صفحات المصحف الأزرق موجودة بالمتاحف الوطنية في تونس، وبالأخص متحف رقادة بالقيروان.
تاريخ مختلف عليه
لم تكن مخطوطة المصحف الأزرق مؤرخة حتى يسهل معرفة التاريخ والمكان الذي أنتجت فيه، لذا كان على مؤرخي الفن وعلماء المخطوطات دراسة العناصر الفنية للمخطوطة، بهدف الوصول إلى تاريخ تقريبي لها، وكان أهم عنصرين تم الاعتماد عليهما في تحديد عمر تلك المخطوطة، هما الخط الذي استخدم في كتابة الآيات (الكوفي القديم حاد الزوايا) وكذلك المادة المصنوعة منها الصفحات وهي الرق (جلد الحيوانات).
وتشير دراسات المخطوطات العربية، إلى أن استخدام جلد الحيوانات في الكتابة بدأ ينحصر خلال القرن الهجري الثالث بعد تعرف المسلمين على صناعة الورق -الذي كان يعرف باسم “الكاغد”- كما أن الخط الكوفي القديم ظل مستخدما في كتابة المصاحف الكبرى طوال القرون الثلاثة الأولى للهجرة، حتى حل محله خط النسخ الذي ابتدعه الخطاط الشهير “ابن البواب”، كما يقول الدكتور أيمن فؤاد سيد في كتابه “الكتاب العربي المخطوط”.
أما التحليلات المعملية التي أجريت على المخطوطة، فيقول موقع “سيمرج” الذي يهتم بالمجتمعات الإسلامية وفنونها عبر العالم، أنها أثبتت أن النيلة المستخدمة لإنتاج الصبغة الزرقاء التي صبغت بها أوراق المصحف، تم استيرادها من مصر أو الهند في الأغلب، كما تم لصق رقائق الذهب لتلوين الأحرف باستخدام بياض البيض، واستخدام الفضة المؤكسدة لتمييز الفواصل بين الآيات، وجميعها سمات يعتقد أنها ترجع إلى الفترة بين القرنين الثالث والرابع الهجري.
وبناء على هذه المعطيات، يرجح أغلب مؤرخي الفن أن المصحف الأزرق يرجع إلى القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي على الأغلب، وبالرغم من ذلك، يرى بعض الباحثين، ومنهم إليونور سيلارد الباحثة بمؤسسة كوليج دو فرانس العلمية، أن ملامح المخطوطة تشير إلى أنها أنتجت في وقت أسبق من القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي، وهو ما يزيد قيمة هذه المخطوطة، حيث لا يوجد إلا القليل من المخطوطات العربية التي ترجع إلى القرن الثالث الهجري وما قبله.
خليفة عباسي أم فاطمي؟
وكما اختلف حول تاريخ كتابة المخطوطة، اختلف أيضا حول المكان الذي أنتجت فيه، وشخص صاحب المخطوطة الذي أمر بكتابتها.
المتفق عليه بين العلماء، أن الشخص الذي كتبت مخطوطة المصحف الأزرق لصالحه، لابد وأن يكون من علية القوم، ولا يقل عن مقام الخليفة، نظرا لأن التقنيات التي استخدمت في صناعة المخطوطة تقنيات مكلفة جدا بمعايير الزمن الذي أنتجت فيه، ولكن أي خليفة بالتحديد؟
هنا يتجلى الخلاف، حيث تقول سيلارد أن الاعتقاد الذي كان شائعا في السنوات الأولى للعثور على المخطوطة، أنها صنعت في بغداد لصالح الخليفة العباسي هارون الرشيد، بهدف وضعها في مقبرته عند مماته.
وتشير المدونة العلمية لجامعة كولومبيا، إلى أن الباحث آلان جورج خرج مؤخرا بدراسة توصل فيها إلى رأي مشابه تقريبا، حيث قال إن المخطوطة تم إنتاجها لشخصية رفيعة المستوى في البلاط العباسي في بغداد أوائل القرن التاسع الميلادي، واعتمد في هذه النظرية على وجود حرفيين صينيين في العاصمة العباسية بغداد، حيث عرف عن مثل هؤلاء الحرفيين، قدرتهم على إنتاج كتب بوذية مقدسة مكتوبة بالخط الذهبي على سطح أزرق داكن شبيهة بالمصحف الأزرق، مرجحا أن يكون مثل هؤلاء الحرفيون الصينيون هم من نقلوا هذا الطابع المميز للمخطوطات إلى العباسيين.
على الجانب الآخر يرى بعض المتخصصين أن كاتب هذه النسخة من المصحف تأثر بالمخطوطات البيزنطية الفاخرة للكتاب المقدس، التي كانت تكتب بالفضة والذهب على الرق المصبوغ باللون الأورجواني، وهو ما دفعهم للاعتقاد بأن مخطوطة المصحف الأزرق أنتجت لصالح شخصية فاطمية مرموقة في مصر أو إحدى بلدان شمال أفريقيا.
وقد أكدت وجهة النظر تلك، دراسة لمؤرخ الفن M. Bloom أشار فيها إلى أن الخط المستخدم في المصحف الأزرق له طابع مغاربي، وهو ما يشير إلى الأصول الفاطمية لهذه النسخة الفريدة من المصحف، وينفي كونها أنتجت في بغداد لصالح العباسيين.
وفي بيان صادر عن دار كريستيز في عام 2017، بمناسبة بيعها إحدى صفحات المصحف الأزرق في مزاد علني، قال إن جرد مكتبة جامع القيروان الكبير في تونس، أشار إلى وجود مخطوطات كتبت بالذهب على رق أزرق داكن، مرجحا أن يكون المصحف الأزرق هو المقصود بهذه الإشارة في مستندات الجرد، وهو ما يرجح كون المصحف الأزرق منتج في شمال أفريقيا، وبالتالي يزيد من احتمالية نسبه إلى أحد الخلفاء الفاطميين، ويستند أصحاب وجهة النظر تلك في حجتهم إلى أن أغلب صفحات المصحف الأزرق موجودة في متاحف تونس.
التشكيك في أصالة المخطوطة
تقول المدونة العلمية لجامعة كولومبيا في نيويورك، إن بعض الآراء شككت في أصالة المخطوطة، وأشارت إلى أنها قد لا تكون قديمة كما نعتقد، بل هي عمل أنتج حديثا ولكن بطريقة شبيهة بالطرق التي كانت تنتج بها المخطوطات في الماضي لإكسابها قيمة أكبر.
المدونة تشير إلى أن أحد الأسباب التي تدفعنا للتشكيك في تاريخ كتابة المخطوطة، هو التحدي التقني المتمثل في صبغ أوراق الرق باللون الأزرق وتشبعها بهذا الشكل المذهل، بطريقة من الصعب توافرها بسهولة خلال القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي، إضافة إلى استخدام اللون المستخدم في صبغ الأوراق، فلا يوجد أي مثال آخر معروف لمخطوط إسلامي مكتوب سواء على ورق أو جلد كانت أوراقه مصبوغة باللون الأزرق الداكن.
وإلى أن تثبت أصالة مخطوط المصحف الأزرق، وإلى أن يتم تحديد عمرها بدقة والمكان الذي أنتجت فيه، ستظل هذه المخطوطة الفريدة تحير العلماء والمتخصصين، بلون أوراقها الأزرق الذي يرمز إلى الكون السماوي، وبحروفها الذهبية اللامعة التي ترمز إلى النور الإلهي الذي ينشره كلام الله، وهو ما جعل بعض مؤرخي الفن يطلق على هذه المخطوطة لقب “بيكاسو الفن الإسلامي”، وذلك لأنه يمكن التعرف عليها بمجرد رؤية أي من صفحاته.
تقول مارشا هيل، أمينة القسم المصري بمتحف متروبوليتان للفن بنيويورك: “أنا لست مسلمة، ولا اقرأ العربية، ولكن ما أعرفه أن ورقة المصحف الأزرق المكتوبة بالخط الكوفي هي نص ديني، جذبني إليها اللون الأزرق الداكن، والحروف الذهبية. إن شدة هذا التلوين تخبرني أنها قطعة روحية للغاية. هذه قطعة أشعر بها بشدة دون أن أضطر لفهم كلماتها”.