تطالعنا بين الحين والآخر في وسائل الإعلام الأجنبية، فرضيات جديدة لا تتوقف عن الحضارة المصرية وتاريخها وآثارها، إلا أن كثيرا من هذه الفرضيات ما يكون قائما على أدلة ضعيفة وروايات غير دقيقة تقابل بالرفض من علماء المصريات، وتعد فرضية “الهرم الرابع الأسود” واحدة من أكثر الفرضيات شيوعا التي تهتم بترديدها بعض المواقع غير المتخصصة، والتي تزعم أنه كان يوجد في الجيزة إلى جوار الأهرامات الثلاثة الشهيرة هرما رابعا أسود اللون، إلا أنه اختفى في ظروف غامضة يختلف حولها أصحاب هذه الفرضية.
الهرم المفقود
يتزعم أصحاب فرضية وجود هرم رابع أسود مفقود في الجيزة، باحث إنجليزي هاو يدعى ماثيو سيبسون، يدعي أنه وجد أدلة على وجود هرم رابع مفقود من أهرامات الجيزة الشهيرة، زاعما أنه يعتمد في فرضيته على وثائق قديمة ترجع لعلماء آثار ومهندسين، بالإضافة إلى ما توصل إليه من خلال أبحاثه الخاصة حول تضاريس هضبة الهرم وبعض السجلات التاريخية.
سيبسون ادعى عبر قناته في اليوتيوب أن الهرم الرابع المزعوم كان يختلف تماما عن الثلاثة الآخرين، وكان أصغر بحوالي 100 قدم عن الهرم الثاني (خفرع)، مرجحا أن ذلك الهرم كان يحتوي على مكعب في أعلاه وليس هريم صغير كما هو الحال في أغلب الأهرامات الأخرى، زاعما أن هذا المكعب كان في الغالب “تمثال” لشخص ما.
سيبسون أثار شهية بعض المواقع البريطانية التي تعشق الحديث عن أساطير الحضارة المصرية، وهو ما دفع صحيفة Express البريطانية لنشر تقرير عن نظرية سيبسون حول الهرم الرابع خاصة وأنه زعم بأن لديه أدلة تؤكد وجهة نظره.
سيبسون كشف لوسائل الإعلام أن نظريته تعتمد على ما كتبه ورسمه البحار والمستكشف الدنماركي فريدريك لودفيج نوردن، في عام 1737، حيث أظهرت رسومات نوردن عن الجيزة وجود هرم رابع، ويشير سيبسون إلى أن هذا الهرم تم تفكيكه لاحقا من قبل سكان القاهرة لاستخدامه في عمليات البناء خلال القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر حتى اختفى تماما، مشيرا إلى أن موضع الهرم الرابع المفقود كان يوجد إلى الغرب من الأهرامات الثلاثة الحالية.
مدفون تحت الأرض!
وبالرغم من أن سيبسون يقول عن نفسه إنه “مؤرخ وباحث”، إلا أن البعض ينفي عنه هذه الصفة ويؤكد أنه مجرد شخص غير أكاديمي يحب القراءة عن غرائب التاريخ، ويثير الكثير من النظريات والادعاءات الغريبة التي لا يملك أي أدلة علمية على صحتها.
اللافت أن سيبسون ليس هو الوحيد الذي يثير هذه الفرضية عبر الإنترنت، بل هناك غيره كثيرون من الباحثين -أغلبهم هواة- يثيرون عبر العديد من الحسابات على الشبكات الاجتماعية مسألة الهرم الرابع، معتقدين أن هرما كان موجودا بالفعل، وكان ترتيبه الثالث من حيث الحجم، حيث يأتي بعد هرم خفرع في الترتيب وقبل هرم منكاورع، إلا أنهم يعتقدون أن الهرم لايزال موجودا في منطقة الجيزة ولم يتم تفكيكه كما يقول سيبسون! ولكنه مدفون تحت الأرض!
أصحاب الآراء السابقة يشيرون إلى أن دليلهم الأقوى على ذلك، هو أن هناك فارقا كبيرا في الحجم بين الهرم الثاني (خفرع) والهرم الثالث (منكاورع)، وأن الهرم الرابع المفقود هو من يكمل هذه الفجوة ويجعل التدرج في أحجام الأهرامات مقبولا.
مسكتشف دنماركي
إن سيبسون وغيره من الباحثين المؤمنين بفرضية الهرم الرابع، اعتمدوا بشكل أساسي في فرضيتهم على ما قام بكتابته ورسمه المستكشف الدنماركي فريدريك لودفيج نوردن، ونوردن هو مستكشف بحري، قام برحلة نيلية لاستكشاف مصر عام 1737 بناء على طلب من ملك الدنمارك كريستيان السادس، حيث قام بكتابة ملاحظات ورسومات لكل ما شاهده في رحلته، بما في ذلك الأشخاص والمعالم الأثرية والمنشآت الحديثة والخرائط الجغرافية، وقام بنشرها جميعا في كتاب بعنوان “رحلة إلى مصر والنوبة”.
كانت لرسومات نوردن أهمية خاصة في مسألة من حطم أنف أبو الهول؟ حيث كان البعض يتهم الفرنسيين بتحطيم أنف أبو الهول عن عمد خلال الحملة الفرنسية على مصر أواخر القرن الثامن عشر، إلا أن رسومات نوردن في كتابه أظهرت أنف أبو الهول مكسور بالفعل من قبل وصول الحملة الفرنسية بأكثر من 50 عاما، وبالتالي اعتبرت رسوماته دليلا على براءة نابليون من هذه التهمة.
وبالعودة إلى كتاب نوردن المذكور، يمكن ملاحظة أنه رسم بالفعل أربع أهرامات في لوحتين من لوحات كتابه، فيما تقول إكسبريس في ترجمتها لشرح نوردن على هذه اللوحات، أن نوردن قال بأن الهرم الرابع كان مصنوعا من حجر أسود، لونه أكثر سوادا من أحجار الجرانيت العادية.
ولكن ما تفسير ما جاء في لوحات نوردن وما قاله عن الهرم الرابع الأسود؟
خطأ في الترجمة
إن تفسير ذلك ينقسم إلى جزئين، الجزئية الأولى المتعلقة برسم هرم رابع في لوحات نوردن، حيث يرى علماء المصريات أن نوردن اختلط عليه الأمر بسبب الأهرامات الثلاث الصغيرة المجاورة لأهرامات الجيزة، والتي يطلق عليها حاليا اسم أهرامات الملكات، حيث كان اثنان من هذه الأهرامات مغطى بالرمال ولا يظهر منها إلا واحد فقط، وهو ما جعل نوردن يرسم أهرامات أربعة، الثلاثة الكبار بالإضافة إلى أحد أهرامات الملكات.
الجزئية الثانية، هي قول نوردن في شرحه للوحة الأهرامات الأربعة بأن أحد هذه الأهرامات كان أسود اللون، حيث يرى علماء المصريات أن السبب في هذا القول هو خطأ في ترجمة النص الأصلي لكتاب نوردن الذي كتبه لأول مرة بالفرنسية ثم أعيد نشره مجددا بعد ترجمته باللغة الإنجليزية، وهي النسخة التي أصبحت شائعة، حيث أخطأ المترجم في شرحه للوحة الأهرامات الأربعة حيث قال نوردن في النسخة الأصلية أن أحد الأهرامات الأربع كان لونه “أغمق” من الآخرين، إلا أن المترجم كتبها “أسود”، وهو ما كان سببا في هذا الخلط، مشيرين إلى أن نوردن كان يقصد هرم منكاورع وليس هرما آخر مفقود كما يعتقد البعض.
وعلى كل حال، فإن موقع أهرامات الجيزة هو واحد من أكثر المواقع الأثرية التي خضعت للبحث والاستكشاف، حيث أمضى علماء الآثار من مختلف بلدان العالم تقريبا عقودا في استكشافها، ولم يعثر على أي دليل على وجود هرم رابع مدفون في منطقة الجيزة كما يدعي أصحاب هذه الفرضية أو أي دليل على أنه وجد يوما، كما أن المؤرخين الذين اهتموا بالكتابة عن أهرامات مصر، منذ هيرودوت لم يشيروا على الإطلاق إلى وجود مثل هذا الهرم المتخيل.