في العام 1960، كان رصيد الأخوين ميمو وجمال رمسيس في السينما المصرية ثلاثة أفلام فقط، ورغم ذلك كانا حديث الوسط الفني. في هذا الوقت لم يكن قد عُرض لهما سوى فيلمين، اشتركا في الأول معاً، وظهر جمال بمفرده في الثاني، بينما كان ميمو في انتظار عرض الفيلم الثالث الذي ظهر فيه وحده كذلك.
ورغم بساطة أدوارهما في الأفلام الثلاثة، إلا أن أداءهما المتميز كان يبشر بصعود كبير لنجمين مهمين في السينما المصرية، بعدما أظهرا موهبة حقيقية وحضورًا لافتًا جعل الكثيرين يتنبأون لهما بمستقبل فني واعد وبنجومية حقيقية كانت في انتظارهما، بدأت بوادرها عندما وعدهما المنتج جمال الليثي بإنتاج فيلم من بطولتهما إلى جوار نجم مصر الأول في ذلك الوقت “إسماعيل يس” استثمارًا لنجاحهما الذي لم ينكره أحد.
وفي الوقت الذي كان يترقب فيه الجميع انطلاقة ميمو وجمال رمسيس الفنية، وفي ليلة لم نستطع تحديد تاريخها بدقة في ذلك العام (1960)، استيقظ الوسط الفني ليكتشف أن الأخوين رمسيس اختفيا فجأة وبدون أية مقدمات، بل أن جيرانهما في الشارع الذي كانا يقطنان به بحي شبرا فوجئوا بأنهما غير موجودين بالمنزل!
ميمو وجمال تلاشيا في غمضة عين، تاركين خلفهما كل ما كانت تعدهما به السينما وأضواؤها، بل إنهما حتى لم ينتظرا عرض الفيلم الثالث الذي ظهر فيه ميمو وحده، ليغادرا مصر دون الكشف عن وجهتهما، ليتركا الكل في صدمة وحيرة وسؤال لم يجدوا له إجابة قاطعة: أين ولماذا اختفى الأخوان ميمو وجمال رمسيس؟
في السطور التالية، نأخذ القارئ في رحلة بحث وراء هذين النجمين الاستثنائيين، نحاول فيها الكشف عن حكاياتهما المليئة بالمفاجآت، والتي تُنشر لأول مرة، على أمل أن نجد إجابة للسؤال السابق، ونجلي جانبًا غامضًا من تاريخ السينما المصرية الحافل بالأسرار.
نقطة البداية
بدأنا أول خطوات البحث عن السر وراء ميمو وجمال رمسيس ونهايتهما الغامضة، بمطالعة المتاح والشائع عنهما من معلومات في مختلف المصادر، سواء موسوعات السينما أو مواقع الإنترنت، تمهيدًا لفحص هذه المعلومات وتدقيقها ومحاولة الخروج منها بخبر موثوق.
تقول موسوعات السينما المصرية (الورقية والإلكترونية) إن رصيد الأخوين رمسيس ثلاثة أفلام فقط (فيلمان لكل منهما) أُنتجت وعُرضت بين عامي 1959 و1960، الأول اشتركا فيه معاً، وهو “إسماعيل يس بوليس سري” أمام النجم إسماعيل يس وإخراج فطين عبدالوهاب، وجسد ميمو دور رئيس العصابة الذي ادعى الجنون فيما تولى إسماعيل يس مهمة إيصاله إلى مستشفى المجانين، لكنه بالطبع هرب منه، وذهب إلى العصابة، التي ظهر جمال رمسيس كأحد أفرادها. أما اسماهما على تتر الفيلم فقد كُتب مبكرًا ملحوقاً بجملة “ولأول مرة في مصر.. نجمي التليفزيون الأمريكي”.
الفيلم الثاني مثّل فيه جمال رمسيس فقط، وجسد فيه واحداً من أهم أدوار السينما الكوميدية على الإطلاق، وهو دور “لوسي ابن طنط فكيهة”، وكان ذلك في فيلم “إشاعة حب” أمام يوسف وهبي وعمر الشريف وسعاد حسني، وإخراج فطين عبدالوهاب أيضاً.
أما الفيلم الثالث فكان “ملاك وشيطان” للمخرج كمال الشيخ، وهو الفيلم الذي ظهر فيه ميمو فقط دون شقيقه، وقام بتجسيد دور “أبو شفة” أحد أفراد العصابة التي كان يتزعمها زكي رستم.
أما على الإنترنت، فبمجرد ذكر ميمو رمسيس أو جمال رمسيس على محرك البحث “جوجل” باللغة العربية، فإن أول ما يطالعنا هو صفحات “ويكيبيديا” لكل منهما، حيث تذكر الموسوعة أن جمال رمسيس هو ممثل مصري، ولدَ في حي شبرا لأب مصري وأم إيطالية، وأنه هاجر مع شقيقه إلى الولايات المتحدة، ومن وقتها انقطعت أخبارهما تمامًا، وأنه تَوفى في 25 سبتمبر 2001 في ولاية ألاباما بأمريكا، أما ميمو رمسيس، فتقول “ويكيبيديا” أنه ترك المجال الفني وهاجر مع شقيقه جمال رمسيس إلى الولايات المتحدة في مطلع الستينات، وانقطعت أخباره تماما.
فقط هذه هي المعلومات التي قدمتها لنا الموسوعة الحرة، ولكننا فيها وجدنا إجابة للجزء الأول من السؤال وهو “إلى أين غادر ميمو وجمال رمسيس؟”، وإن كانت هذه الإجابة افتقدت لدليل قوي وواضح، إلا أنها إجابة سنصادفها في كثير من المصادر اللاحقة، التي اتفقت على أن الأخوين رمسيس غادرا إلى الولايات المتحدة، وعاشا وماتا هناك.
المال أم السياسة؟
بخلاف “ويكيبيديا”، يمكن أن نعثر بسهولة على بعض من المعلومات الأخرى باللغة العربية عبر شبكة الإنترنت، والتي رغم قلتها، لكنها ترسم قصة قصيرة عن الأخوين وسبب مغادرتهما مصر، حيث يقول موقع “مصراوي” إن جمال رمسيس مولود في 20 يناير 1921، وأنه وشقيقه كان لهما خال يعمل كرجل أعمال ويعيش في أمريكا، طلبهما للسفر إليه وهما صغار، وأثناء وجودهما بالولايات المتحدة عملا في التليفزيون الأمريكي، وأديا أدوارًا صغيرة، قبل أن يعودا إلى مصر مجددًا، للاشتراك في الأفلام الثلاثة المعروفة.
يذكر الموقع أيضاً أنه في الثمانينيات من القرن الماضي ظهرت أخبار بأن جمال رمسيس هو نفسه العميل المصري رفعت الجمال، وتم الربط بينهما بسبب تسريحة الشعر التي اشتهر بها محمود عبدالعزيز في مسلسل “رأفت الهجان” للمخرج يحيى العلمي، ولكن بعد فترة نُشرت الصورة الحقيقية لرفعت الجمال، والتي أظهرت بُعد الشبه بينه وبين جمال رمسيس.
موقع “مصراوي” قدم إجابتين محتملتين على سؤال “لماذا غادر جمال وميمو رمسيس؟”، حيث يقول إنه بعدما شاركا في الأفلام الثلاثة، توفى خالهما رجل الأعمال، فسافرا إلى الولايات المتحدة لإدارة أعماله هناك ليقيما بشكل دائم في أمريكا ويختفيا تماما عن الأنظار، إلا أنه يضيف في موضع آخر، بأن هناك أنباء ترددت مفادها أن الثنائي اضطر للسفر بسبب آرائهما السياسية المختلفة مع نظام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر!.
الإجابات التي قدمها “مصراوي” يمكن اعتبارها ملخصًا لمجمل الأسباب التي ذُكرت في مختلف المواقع التي تناولت قصة ميمو وجمال رمسيس بالعربية عن سبب مغادرتهما لمصر، إلا أننا لم نجد هذه الإجابات مقنعة بشكل كبير، وينقصها كثير من التفاصيل.
فإن كان الأخوين رمسيس قد غادرا مصر بشكل طبيعي لإدارة أعمال خالهما بعد وفاته، فلماذا قاما بذلك بشكل مفاجئ وغامض حتى أنه أثار صدمة للوسط الفني؟ ولماذا تركا الفن تماما بعد سفرهما ولم يظهرا في أي أعمال لاحقة لا في مصر ولا في أمريكا؟ فتحولهما إلى رجال أعمال رغم موهبتهما التي ظهرت في الأفلام الثلاثة لا يبرر انفصالهما التام عن ماضيهما الفني، حتى أننا لم نصادف أي ظهور لهما في أي مناسبة للحديث عن تاريخهما السينمائي في مصر، رغم ما أحدثاه من تأثير مستمر حتى الآن!، ولماذا استقرا هناك بشكل دائم ولم يعودا إلى مصر ثانية وأبدا؟، فإننا لم نعثر على أي دليل يشير إلى أنهما عادا إلى مصر ولا حتى على سبيل الزيارة!
أما القول بأنهما غادرا مصر بسبب الآراء السياسية، فرغم عدم شيوع الآراء المعارضة بين الوسط الفني في ذلك الوقت، إلا أنها قصة غير مقنعة بشكل كامل لعدة أسباب: فإذا كانا معارضين حقاً لنظام عبدالناصر فلماذا لم يواصلا الهجوم عليه بعد مغادرتهما مصر؟ خاصة وأنهما سافرا إلى أمريكا التي كانت في عداء كبير مع عبدالناصر ونظامه، إذ كان بإمكانهما استغلال ذلك بسهولة، ولماذا لا نجد صدى لواقعة مغادرتهما بسبب معارضتهما للنظام في أي مصدر من مصادر المعلومات، لا صحافة ولا روايات شفهية لدى الفنانين، كان من الوارد أن تظهر في فترة السبعينيات التي شهدت هجومًا على عبدالناصر وحكمه؟! كما أن هذه القصة لا توضح ما هي مظاهر معارضتهما للنظام التي كانت سببًا في “هروبهما” المفاجئ؟. هل كانا مثلاً يتحدثان بشكل سيء عن الزعيم داخل الوسط الفني؟ وما هو سبب هذه المعارضة في الأساس؟ هل كانا يعترضان على طريقة إدارته للبلاد ويتهمانه بالشمولية مثلما كان يردد الغرب في ذلك الوقت؟ أم أن هناك واقعة معينة حدثت لهما كانت سبباً في هذه المعارضة؟
كلها أسباب تجعلنا لا نطمئن إلى الإجابتين السابقتين، وتجعلنا نواصل البحث عن السبب الحقيقي وراء الاختفاء الغامض للأخوين رمسيس.
“ليس هناك سطو على ريكاردو”
عندما بدأنا البحث عن الأخوين رمسيس بين المحتوى الإنجليزي المتاح على الإنترنت، ظهرت لنا معلومات شبيهة بتلك التي عثرنا عليها في المواقع العربية، فموسوعة السينما العالمية “IMDB” تذكر عنهما نفس المعلومات المتاحة على “ويكيبيديا”، لكنها تقول إن جمال شارك إضافة إلى “إسماعيل يس بوليس سري” و”إشاعة حب”، في فيلم فرنسي بعنوان Pas de grisbi pour Ricardo أو “ليس هناك سطو على ريكاردو” إنتاج العام 1957 (أي قبل الأفلام الثلاثة التي قدماها في مصر بسنتين تقريباً)، وفي الصفحات الخاصة بالفيلم وكذلك المواقع التي كتبت عنه، اكتشفنا أن للفيلم اسماً آخر معروض على النسخة البلجيكية، وهو Folies Parisiennes أو “الحماقات الباريسية”، وعلى تترات الفيلم ظهرت أسماؤهما بشكل واضح، غير أن ميمو ظهر باسم “ميمي رمسيس”.
الفيلم تقوم ببطولته دورا دول، وأرماند بيرنارد، وروبرت بيري، وهنري لورانس، ويحكي قصة مطرب مغمور يعيش في مارسيليا، يحصد إحدى جوائز الغناء في مدينته الساحلية، ولكنه يسعى إلى تجربة حظه في باريس، وعندما يسافر بالفعل يقع فريسة أحد أفراد العصابات، الذي يوهمه بأنه سيعمل في الملهى الباريسي الشهير Folies Parisiennes، ولكن يجد نفسه متورطاً مع عصابة تقوم بعمليات إجرامية.
المدهش أن شخصيتا جمال وميمو في الفيلم، شبيهة للغاية بشخصيتهما في فيلم “إسماعيل يس بوليس سري”، حيث جسدا أدوار فردين في العصابة أيضاً، ولكن كان من اللافت أنهما أظهرا في بعض مشاهد الفيلم رشاقة وقدرة على أداء بعض الحركات الأكروباتية الخطرة، ومن دون الاستعانة بدوبلير، وذلك أثناء أدائهما لشجار وقع بين ميمو وجمال رمسيس ضمن الأحداث!
ولكن السؤال، كيف للمخرج الكبير فطين عبدالوهاب أن يقدمهما في فيلمه “إسماعيل يس بوليس سري” بأنهما نجما التليفزيون الأمريكي، بينما تاريخهما وفقاً لـ”IMDB” بعيداً عما قدماه في مصر، مجرد فيلم فرنسي! فهل كان لهما تاريخ فني في التلفزيون الأمريكي بالفعل لم نعثر عليه؟!
صفعة على وجه نجوى فؤاد
بعد بحث طويل لم نجد معلومة دقيقة ومقنعة عنهما عبر الإنترنت يمكن أن نطمئن إليها، فتركنا الشبكة العنكبوتية وتوجهنا إلى أرشيف الصحافة المصرية، للبحث عما قد يفيدنا في حل لغز اختفائهما الغريب.
أرشيف المؤسسات الصحفية الكبرى (الأهرام والأخبار تحديدا) لم يذكر اسمي ميمو وجمال رمسيس إلا على سبيل كونهما مشاركين في الأفلام الثلاثة المذكورة سابقاً، ربما كان الخبر الأكبر من بين الأخبار الصغيرة المذكورة عنهما، هو الذي تناول واقعة حدثت أثناء كواليس فيلم “ملاك وشيطان” في صحيفة “أخبار اليوم”، إذ ذكر خبر منشور في عدد 30 من يناير سنة 1960، أن ميمو رمسيس تسبب في كسر أنف الراقصة الشهيرة نجوى فؤاد خلال أحد المشاهد التي كان يتم تصويرها في ستوديو الأهرام من فيلم “ملاك وشيطان”. وكان المشهد يتطلب أن يقوم ميمو الذي كان يقوم بدور “أبو شفة” بصفع نجوى “خيرية”، وأراد المخرج كمال الشيخ إعادة المشهد لأنه لم يقنعه، وطلب من ميمو أن يؤدي المشهد بشكل أفضل وأقرب للواقع.
وأعاد المخرج المشهد، وبالفعل قام ميمو بصفع نجوى بكل ما أوتي من قوة، وسقطت نجوى على الأرض لينتزع المشهد إعجاب المخرج، لكنها لم تقم من الأرض وظلت بلا حراك ليكتشف الجميع أن الدم ينزف من أنفها وفمها، وطالت الدماء ملابس رشدي أباظة “عزت” الذي كان يشاركها أداء المشهد.
في تلك اللحظة هجم المخرج والممثلون على ميمو وحاولوا الاعتداء عليه، إلا أنه بادر بالاعتذار مبررًا أنه اندمج في أداء الدور، وأنه لم يشعر إلا وهو يصفع نجوى فؤاد هذه الصفعة القوية، فقام الممثلون باستدعاء سيارة الإسعاف التي حملت الفنانة إلى بيتها، واضطرت نجوى إلى إلغاء الحفلات التي كانت مرتبطة بها في تلك الليلة، وقالت نجوى إنها لاحظت أن ميمو ضربها بـ”غل”، وأنها لم تشعر بشئ إلا والدم ينساب منها، وأكدت بقولها “توبة أن أقبل أمثل في رواية يضربني فيها أحد”.
ولكن أثناء بحثنا في أرشيف الصحافة المصرية وتحديداً في أرشيف “دار الهلال” العامر، عثرنا على معلومة غير متوقعة، كانت كفيلة بأن نعيد النظر في كل تساؤلاتنا السابقة حول أسباب مغادرتهما مصر وشكوكنا بشأن ما نشر عنهما عبر الإنترنت.
آخر يهود السينما المصرية!
“الممثلون اليهود في مصر” هو عنوان أحد إصدارات مركز الهلال للتراث الصحفي التابع لمؤسسة “دار الهلال”، أثناء بحثنا في الأرشيف، لفت نظرنا غلاف هذا الإصدار غير المتوقع، حيث تضمن صورة جمال رمسيس في لقطة من فيلم “إشاعة حب” إلى جوار نجمة إبراهيم وليلى مراد وكاميليا وراقية إبراهيم وشالوم، وكل تلك الأسماء ذات الديانة اليهودية!
في متن الإصدار ذكر اسم جمال وشقيقه في أكثر من موضع، منها في تقرير مكتوب للتدليل على التسامح الذي كان يميز المجتمع المصري آنذاك، إذ قال الكاتب “وهكذا عرفت مصر مجتمعًا منفتحًا ومتفتحًا لا مجال فيه للتعصب أو الانغلاق الفكري، وعاش الجميع لا يشغلهم سوى إشباع حبهم للفن وإمتاع هذه الجماهير العاشقة له، ثم وقعت حربا 1948 و1956 وأحدث الفكر الصهيوني شقاقًا لا ينكره أحد بين المسلمين والأقباط من جانب، واليهود من جانب آخر، حتى أنه منذ حرب 1948 وقيام إسرائيل لم يعرف فن التمثيل في مصر أي اسم جديد سوى الأخوين جمال وميمو رمسيس اللذين ظهرا ظهورًا عابرًا مع نهاية الخمسينيات، أما كل الأسماء اليهودية الأخرى – على كثرتها – فهي ابنة النصف الأول من القرن العشرين”.
هكذا يقول الإصدار صراحة أن ميمو وجمال رمسيس يهوديان الديانة، وهو ما ذُكر في أكثر من موضع، حيث يقول الكاتب إن الإصدار يعني بالممثلين اليهود أصحاب التجارب الواضحة والمشوار البارز، ضاربًا مثالاً بعدد منهم من بينهم جمال وميمو رمسيس، ويقول في موضع آخر أن اليهود كانوا يعملون في السينما عن طريق العدوى الأسرية فيقول إن هناك ظاهرة لتكرار الأشقاء اليهود العاملين في المجال السينمائي ومنهم: ليلى وسميحة ومنير مراد، وسيرينا ونجمة إبراهيم، وصالحة وجراسيا قاصين، ولبيبة ومريم مانيللي، وجمال وميمو رمسيس.
برغم صدمتنا من هذه المعلومة، إلا أننا شعرنا بأنا مقبلون على مصدر يعرف الكثير عن الأخوين رمسيس أخيرًا، قبل أن نفاجأ بأن الإصدار الذي أفرد فصولاً خاصة لمعظم الممثلين اليهود الذين ذكرهم في المقدمة، لم يفرد أي فصل لميمو وجمال! وكل ما ذكره عنهما، أنهما هاجرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولم يهاجرا إلى إسرائيل، مُرجحًا أن يكون ذلك لعدم قناعتهما وآخرين مثلهما بالفكر الصهيوني.
عدنا إلى الحيرة مرة أخرى، من أين عرف كاتب تلك الفقرات من إصدار الهلال أن ميمو وجمال رمسيس كانا يهوديين الديانة؟، وما هو دليله على ذلك؟، وإن كان يعرف قصتهما الحقيقية فلماذا لم يوردها بين فصول الكتاب؟
وبعيداً عن المصدر الغامض لتلك المعلومة، هل إن صحت تكفي لتكون مبررًا لهروبهما المفاجئ من مصر؟ فهل هذا هو السبب وراء خلافهما مع نظام عبدالناصر؟ لو صح أنهما يهوديان بالفعل، فإن هروبهما لهذا السبب قد يكون إجابة مقنعة إلى حد ما.
ولكن، وقبل أن نندفع ونعتمد هذه المعلومة، كان القدر يخبئ لنا كنزًا جديدًا عثرنا عليه بين صفحات مجلة “الكواكب” عن الأخوين رمسيس، أو بالأصح.. الأخوين عفيفي!
محمد وجمال.. أبناء الحج عفيفي!
في أحد أعداد مجلة “الكواكب”، أغسطس من سنة 1959، وجدنا حوارًا صحفيًا هو الوحيد من نوعه مع ميمو وجمال رمسيس، أجرته معهما المجلة أثناء تصوير فيلم “إسماعيل يس بوليس سري”، وقد حمل الحوار عنوان (من التلفزيون إلى البوليس السري).
في مقدمة الحوار كتب الصحفي الذي أجراه -والذي لم يذكر اسمه- قائلا “لهما في باريس وفي هوليوود غزوات فنية ناجحة، تألقا في أفلام كثيرة فرنسية، ونالا إعجابًا كبيرًا على شاشة التليفزيون الأمريكي أيضاً، وبين الحين والحين كانا يعيشان في تجربة غرامية، ورغم نجاحهما هناك، فإن الشوق إلى أرضهما الطيبة عاد بهما مرة ثانية إلى القاهرة، حيث عملا في السينما العربية، اسمهما في باريس وهوليوود جمال وميمو، واسمهما في شهادة الميلاد جمال محمد عفيفي وشقيقه اسمه محمد”!
كم المعلومات المدهشة في المقدمة كان أكبر مما نتوقع، ولكن كان أكثرها إثارة للدهشة، هو كشفها عن الأسماء الحقيقية لميمو وجمال رمسيس والتي كشفت بدورها عن ديانتهما، ليظهر لنا عدم صحة ما ورد في إصدار الهلال الذي زعم أنهما يهودي الديانة، وكان اللافت بحق والمثير للتعجب أن مجلة “الكواكب” هي من إصدارات دار الهلال أيضا!
يواصل الحوار سرد وكشف قصة هذا الثنائي الغامض فيقول إنه في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي انتهت في 1945، سافر جمال ومحمد مع والدهما التاجر إلى باريس، وكان أكبرهما جمال في الثالثة عشرة، بينما كان ميمو في الثانية عشرة.
الأخوان أكدا أن ظهور جمال رمسيس في فيلم “بوليس سري” ليس الأول له في السينما المصرية، بل إن جمال ظهر وهو في العاشرة من عمره في فيلم “المتشردة” الذي قام ببطولته كل من حكمت فهمي وسراج منير، حيث قام جمال في هذا الفيلم بدور محسن سرحان وهو صغير. والفيلم وفقاً لما هو مسجل في موقع “السينما. كوم” قد عُرض في دور العرض سنة 1947، وعلى هذا الاعتبار فإنه إذا كان السفر في سنة 1947 أو 1948، فإن جمال من مواليد سنة 1934 أو 1935، بينما ميمو من مواليد السنة التي تلي هاتين السنتين، أي أن أعمارهما عندما ظهرا في فيلم “البوليس السري” كانت 25 و24 عاما تقريبا، وهو ما ينسف المعلومة الواردة في موقع “مصراوي” التي تذكر أن جمال رمسيس من مواليد 20 يناير 1921!
تاريخ فني مدهش خارج مصر!
يواصل الحوار كشف أسراره قائلاً إن الاثنين التحقا بأحد مسارح باريس، ونجحا في أدوارهما هناك ما لفت إليهما أنظار أصحاب مسارح “اللاييسيه” و”أوليمبيا” و”مولان روج”، ما دفع أصحاب هذه المسارع للتعاقد معهما من أجل التمثيل، ثم أتاح لهما منتج فرنسي يدعى “باريير” فرصة العمل في فيلم بعنوان “ليلة في باريس”، وظهرا في المشاهد الاستعراضية التي تضمنها هذا الفيلم، ثم تتابعت الأعمال السينمائية التي شاركا فيها، مثل فيلم “إجازة للقتل” الذي قام ببطولته “جان ماريه” و”دورا أدول” وفيلم “سفينة في الجنة” الذي مثل فيه الأخوان دوري اثنين من البحارة المغامرين، ليضيف كاتب الحوار إنهما اشتركا في ستة أفلام، بعضها من أشهر الأفلام الفرنسية التي ظهرت في سنوات الخمسينيات.
ويتابع أن جمال وميمو لم يكتفيا بالتمثيل في الأفلام الفرنسية فقط، بل اشتركا أيضاً في بعض الأفلام البلجيكية، وقاما بأدوار البطولة فيها، وكان أول هذه الأفلام فيلم بعنوان “الرجل الذي لم نكن نتوقعه”.
إلا أن تاريخهما الفني لم يقتصر على أوروبا فقط، فحسب الحوار، وفي سنة 1956 عملا في مسارح أمريكا، حيث جذبا انتباه المخرج الكبير “ألفريد هتشكوك”، فأظهرهما معه في برنامج تلفزيوني مسلسل قالا إن عرضه استغرق أكثر من ستة أشهر، كما عملا في عدد من الأفلام الأمريكية وتعرفا ببعض نجوم السينما الأوائل، من بينهم “فريجينا مايو” التي ربط الحب بينها وبين جمال، وكان يمكن أن يتوج حبهما هذا بالزواج، لولا أمها التي وقفت في طريق هذه الزيجة.
مغامرات بين باريس وهوليوود
يضحك ميمو خلال الحوار وهو يروي ذكرياته مع زملائه في السينما الفرنسية فيقول إن الممثل الفرنسي “فيليب لومير” (1972 – 2004) كان يغار منهما بشدة، ولا يفتأ يدبر لهما المقالب، ومن تقاليد المسارح الفرنسية أن تترك الحرية للممثلين في اليوم الأخير من تمثيل الرواية، ليفعلوا ما يريدون على المسرح، فيتخلل أحد المشاهد الدرامية مثلاً “مقلب” من أحد الممثلين لزميله لتنطلق عاصفة من الضحك بين المشاهدين والمشاركين في العمل. يذكر ميمو أحدها حينما ربط لومير مقعداً كان سيجلس عليه ميمو أثناء التمثيل بخيط، وكان المشهد دراميًا، وعندما هم بالجلوس سحب الكرسي من تحته، وضحك الجمهور، غير أن ميمو ثأر لنفسه بأن أركبه سيارته بعد نهاية العرض، وكانت السماء تمطر بشدة والبرد قاسيًا، وأدار جهاز التكييف الموجود بالسيارة، وأطلقت الهواء البارد على ساقي لومير.
وعندما بدأ لومير يتململ، سأل إن كان جهاز التكييف مفتوحًا؟، فأنكر ميمو، ولم يلبث أن فضّل النزول والسير في المطر والبرد على البقاء في السيارة. وفي اليوم التالي أخبره بالحقيقة، وضحكا جميعاً.
وفيليب لومير قدم العديد من الأفلام الفرنسية خلال فترة الخمسينيات، ولكنه في السبعينيات وما تلاها اتجه للتليفزيون، وفق ما تؤكده معلومات موقع “IMDB”.
ويحكي ميمو عن مقلب آخر ولكن هذه المرة كان على ما يبدو في أمريكا، وبطله النجم “توني مارتن” (1913 – 2012)، وفقاً لكلامه. في ليلة وداع أخرى، كان البرنامج مذاع بالتليفزيون، وحضر توني إلى المسرح ومعه “نصف دستة” من الأحذية، فسرق جمال فردة من كل زوج منها، واضطر توني لأن يقف على المسرح وفي كل قدم حذاء من لون مختلف، ورغم أنه لفت نظر عامل التليفزيون إلى الأمر ورجاه أن يبتعد بالكاميرا عن قدمه، إلا أن العامل خيب رجاءه، وعندما انتهى من أغنيته حمل إليه المذيع باقة ورد هدية من ميمو وجمال، وكان في وسط الباقة “فردة حذاء” تكمل إحدى الفردتين اللتين يلبسهما.
وتوني، وفقاً لمعلومات موقع “IMDB” كذلك، هو ممثل أمريكي مولود في سان فرانسيسكو، وقدم خلال فترة الخمسينيات عرضين تليفزيونين: الأول بعنوان Shower of Stars سنة 1955 والثاني هو The George Burns Show وكان سنة 1958، أي قبل وصول جمال وميمو رمسيس إلى مصر بعام واحد.
“إسماعيل يس في تكساس”!
في حوار “الكواكب” أيضاً يعدد الأخوان جمال وميمو الفروق بين السينما في مصر ونظيرتها في الخارج، خلال الفترة التي عملا بها هناك قائلين: “في الخارج يختارون الممثل على أساس الموهبة وحدها، والميزة التي يمتاز بها عن غيره، ولا سبيل إلى المجاملة، ثم لا يجسد الممثل نفسه دوراً واحداً طوال حياته، إذ يتاح له أن يظهر موهبته في مختلف الأدوار، كما أنهم يولون السيناريو والمونتاج أقصى عنايتهم، وفي استوديوهاتهم استعدادات ضخمة، ولا يُقبل على الإنتاج إلا القادرون عليه، والفنانون جميعا يتعاملون بواسطة الوكيل، وهو نظام له الكثير من المزايا”.
وبخصوص فيلم “إسماعيل يس بوليس سري” يقول جمال “أعجبني سيناريو علي الزرقاني وأسمع أنه من أقدر كتاب السيناريو في مصر”، بينما يقول ميمو “أعجبني إخراج فطين عبدالوهاب، فهو يخلط الجد بالكوميديا في هذا الفيلم بأسلوب ممتاز، ويختار لقطاته بطريقة تدل على الفهم والاطلاع والقابلية للتطور”.
أكد الأخوان في حوارهما أن موهبتهما أوحت للمنتج جمال الليثي بفكرة فيلم آخر سيكون عنوانه “إسماعيل يس في تكساس”، يظهرا فيه مع إسماعيل يس في أدوار “الكاو بوي” أو رعاة البقر، وهي أفلام كانت منتشرة في أمريكا خلال تلك الفترة، ولكن هذا لم يحدث بكل تأكيد، حيث غادرا فجأة وتركا كل شيء وراءهما.
البحث عن نجمين منسيين
المعلومات الكثيرة التي وردت في الحوار عن تاريخهما الفني خارج مصر كانت مشوقة ومثيرة للدهشة، إلا أنها لم تعطنا جوابًا واضحًا يمكن أن نستشف من خلاله لماذا غادرا مصر بشكل مفاجئ بعدما فُتحت أمامهما أبواب البطولة في السينما المصرية، وباتوا على بُعد خطوات من تحقيق نجومية كبيرة؟
لذا كان علينا أن نواصل البحث مسترشدين بما ورد في الحوار من معلومات، حيث أخذنا في التنقيب عن الأعمال الفنية التي ذكرا أنهما شاركا بها، ربما قادتنا إلى خيوط جديدة تحل هذا اللغز، فكانت في انتظارنا مفاجئة غير متوقعة بالمرة!
عندما بحثنا عن الأفلام التي ذكروها، وهي: (ليلة في باريس) فرنسي، (إجازة للقتل) فرنسي، (سفينة في الجنة) فرنسي، (الرجل الذي لم نكن نتوقعه) بلجيكي، لم نجد لها أي أثر على الإنترنت أو موسوعات الأفلام، قمنا بترجمة الأسماء إلى الفرنسية بأكثر من طريقة ولكننا لم نعثر على أية أفلام بهذه الأسماء أو حتى أسماء شبيهة تم إنتاجها في الخمسينيات، بحثنا بترجمة الأسماء إلى الإنجليزية، كانت النتيجة أيضا صفر، سألنا زميلة فرنسية الجنسية تعمل في مجال الترجمة عن أفلام فرنسية قديمة يكون لها أسماء شبيهة أو قريبة المعنى من الأسماء التي ذُكرت في الحوار، فأكدت أنها لم تصادف أية أفلام فرنسية لها هذه الأسماء، لا قديمة ولا حديثة.
حاولنا البحث بأسماء الممثلين المشاهير الذين ذكر ميمو وجمال رمسيس أنهم شاركوهما بطولة هذه الأفلام، مثل جان ماريه ودورا دول، اللذين قالا إنهما مثلا معهما في فيلم “إجازة للقتل” فلم نصل إلى شيء، خاصة وأن ماريه ودول لم يتشاركا إلا في فيلم واحد بعنوان “Elena and Her Men” أو “إيلينا ورجالها”، ولأن الأفلام الأوروبية عادة ما يكون لها أكثر من اسم، فقد بحثنا عن الفيلم وقمنا بمشاهدته، فلم نعثر على ميمو أو جمال في أي من مشاهده، ولا حتى وسط الكومبارس!.
تركنا الأفلام وتوجهنا إلى مواقع المسارح التي قالا إنهما مثلا عليها، وهي مسارح “اللاييسيه” و”أوليمبيا” و”مولان روج”، فلم نعثر في أرشيفها على أي ذكر لاسمي ميمو وجمال رمسيس على الإطلاق، كما لم نعثر لا على صور، ولا أي شيء يدل على أنهما ظهرا على خشبات هذه المسارح يوما.
لم نيأس، وتوجهنا للبحث عنهما في أعمال المخرج الأمريكي هتشكوك، حيث قالا إن ظهورهما في مسارح أمريكا عام 1956 جذب انتباهه، فأظهرهما في برنامج تلفزيوني مسلسل، وربما كان ذلك هو السبب في أن قدمهما المخرج فطين عبدالوهاب لأول مرة في فيلم “إسماعيل يس في البوليس السري” بوصفهما “نجمي التلفزيون الأمريكي” كما ظهرا على تتر الفيلم.
وبالبحث عن مسلسل تليفزيوني يكون من إنتاج أو إخراج هتشكوك، عثرنا على مسلسل شهير عبارة عن حلقات أسبوعية قصيرة كان يقدمها المخرج الكبير بعنوان “Alfred Hitchcock Presents” أو “ألفريد هتشكوك يقدم”، وكانت من إنتاج هتشكوك كما شارك في إخراج بعض حلقاتها، وتم بثها على قنوات CBS وNBC الأمريكية بين عامي 1955 و1965، وكانت تذاع بشكل أسبوعي في تمام الساعة التاسعة والنصف وتنتهي في العاشرة، وهي عبارة عن حلقات دراما وإثارة وغموض، وهو المسلسل الوحيد الذي يعتقد أن هتشكوك شارك في إنتاجه وإخراجه.
ولو أن هتشكوك حقاً أظهرهما في هذا المسلسل، ففي الغالب ظهرا -بحسب حوارهما في الكواكب- إما في الموسم الأول من هذه الحلقات التي تم بثها على قناة CBS بدءًا من 2 أكتوبر 1955 إلى 24 يونيو 1956، وضم 39 حلقة، أو الموسم الثاني الذي بدأ عرضه على ذات القناة، يوم 30 سبتمبر 1956 إلى 23 يونيو 1957 وضم 39 حلقة أيضاً.
وبعد بحث طويل، عثرنا على موقع أمريكي يعرض كامل حلقات المسلسل المذكور بكامل مواسمه، فبدأنا في مشاهدة الموسمين الأول والثاني، إلا أننا لم نعثر على ميمو أو جمال رمسيس في أي من الحلقات، ولم يظهر اسمهما على تترات أي من الحلقات الثمانية والسبعين، ولم نشاهد أي ظهور لهما ولا حتى بين الكومبارس، كما لم نعثر على اسمهما على أي من المواقع التي أرخت لهذا المسلسل ضمن فريق التمثيل الكبير جدا الذي شارك في حلقاته التي بلغت 268 حلقة.
أيضًا بحثنا عن الحلقتين اللتين ظهر فيهما الممثل توني مارتن، وبحثنا فيهما بدقة عن ميمو أو جمال رمسيس، ولكنهما لم يظهرا على الإطلاق، ولم تظهر أسماؤهما لا في تتر البداية ولا في تتر النهاية ولا ضمن أي قوائم أسماء الممثلين الذين عملوا في هاتين الحلقتين!
البحث على موسوعات السينما أيضًا لم يقدنا إلى أي فيلم أمريكي يُظهر أنهما شاركا به، حيث قالا في الحوار إنهما عملا في عدد من الأفلام الأمريكية وتعرفا ببعض نجوم السينما الأوائل، ولم نجد لهما سوى فيلم “ليس هناك سطو على ريكاردو” الفرنسي من إنتاج عام 1957والذي ظهر اسمهما عليه في تتري البداية والنهاية، وبالرغم من أنهما لم يذكراه في حوارهما بـ”الكواكب” إلا أن صحفي المجلة لم يستعن إلا بصورة من هذا الفيلم لوضعها ضمن الحوار للإشارة على أعمالهما الفنية خارج مصر، إضافة إلى صورة من فيلم “إسماعيل ياسين بوليس سري”.
تاريخ فني طويل.. مزيف!
بعد هذا البحث المرهق، توصلنا إلى نتيجة واحدة، هي أن حديثهما عن تاريخهما الفني خارج مصر خلال فترة الخمسينيات كان مجرد “كذبة”، وأغلب ما ذكراه ليس له أساس في الواقع! فقد كان مجرد تاريخ فني طويل.. مزيف!
ولكن، ما الذي قد يدفعهما لكل هذه الأكاذيب؟! قد يكون من المفهوم في ذلك الوقت أن يبالغ بعض الممثلين في ادعاء نشاط فني لهم خارج مصر على أمل أن يتم تقديرهم ويحصلون على أدوار جيدة بالسينما المصرية، ولكن ما حكاه ميمو وجمال رمسيس في حوار مجلة “الكواكب” لم يكن مجرد مبالغة، بل كان تاريخًا مليئًا بالتفاصيل والحكايات، اختلقا خلاله أسماء أفلام لم توجد أبدًا، وعلاقات وهمية بينهم وبين نجوم السينما العالمية، ومواقف وقصصًا لم نعثر على دليل واحد يؤيدها! فما الذي دفعهما إلى ذلك؟
هل كان لهذا التاريخ المزيف علاقة باختفائهما المفاجئ وخروجها من مصر عام 1960؟ إن كانا قد سردا هذا التاريخ علانية على صفحات المجلات، فبالتأكيد سرداه أيضا بين أصدقائهما ومعارفهما بالوسط الفني ليتحقق لهما ما أرادا من ورائه، إن هذا التاريخ المزيف بلا شك قد ساهم في وصولهما السريع داخل الوسط الفني واشتراكهما في ثلاثة أفلام في أقل من عامين، حتى أن أول ظهور لهما في فيلم “إسماعيل يس بوليس سري” تم تقديمهما بوصفهما “نجمي التلفزيون الأمريكي”، إذن فمن الطبيعي أن يواجها حرجًا كبيرًا ورفضًا من المخرجين إذا ما ظهر أنهما مجرد مدعيان.
كل ما سبق يؤكد أن وراء الثنائي لغزًا حقيقيًا، فأين يمكننا العثور على مفتاحه؟
الراسخ أن المخرج فطين عبدالوهاب هو أول من قدم الأخوين جمال وميمو للسينما المصرية، في “إسماعيل يس بوليس سري”، وهو كذلك مخرج فيلم “إشاعة حب” الذي استعان فيه بجمال، وهو الأمر الذي أكده لنا المخرج والممثل الكبير زكي فطين عبدالوهاب، إلا أنه لم يذكر أي معلومات عن الأخوين بسبب حداثة عمره وقت صناعة العملين “أربع أو خمس سنوات”، لكنه يذكر أن والده الراحل قال عنهما “ممثلين ظراف وخفاف وكان ليهم مستقبل في تاريخ السينما، لكنهما هاجرا من دون سبب”.
الثابت كذلك من الحوار الوحيد الذي أجري معهما أنهما مصريان الجنسية، وبدءا تصوير الفيلم دون أي عناء أو مضايقات، حيث يقول نقيب المهن التمثيلية أشرف ذكي لنا إنه وقتها لم يكن هناك نقابة بالمعنى المتعارف عليه حالياً للمهن التمثيلية، وأن مسألة اشتراك أي ممثل في أي عمل لا تتطلب تصريحاً مثل الموجود الآن، قائلاً إن القانون رقم 35 لسنة 1978 الخاص بإنشاء نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية هو الذي نظم مسألة العلاقة بين الممثل وبين النقابة التي تمثل الدولة في هذا الشأن، ولذا فإن سجلات نقابة المهن التمثيلية خالية تماماً من اسمي ميمو وجمال رمسيس، أو محمد محمد عفيفي وجمال محمد عفيفي.
إذن، هما مسلمان وليسا يهوديان، هما مصريان الجنسية، ويمتلكان تاريخًا فنيًا مشكوك تماماً في صحته. هما هاجرا بشكل غريب ومفاجئ إلى أمريكا حسب أغلب المصادر، فهل يمكن أن نعثر على حل لهذا اللغز في الولايات المتحدة؟
في هذه المرحلة، لم يكن أمامنا سوى البدء بالبحث عنهما في الجانب الآخر من العالم، في بلاد الغربة، لتواجهنا قائمة جديدة من الألغاز التي لا تنتهي.
خيط جديد.. لغز جديد
بالرغم من أن كثيرا مما كُتب في الشبكات الاجتماعية عن ميمو وجمال رمسيس غير دقيق حسب المعلومات التي جمعناها لاحقا، إلا أننا كنا مضطرين لمواصلة البحث عن كل شيء عنهما أياً كان مصدره، لذا واصلنا التنقيب في المنشورات على “تويتر” و”فيسبوك”، حتى عثرنا على منشور بـ”فيسبوك” يرجع تاريخه إلى خمس سنوات مضت (2016)، الحقيقة أن المنشور كان يتضمن معلومات تقليدية غير دقيقة، إلا أن اللافت كان أحد التعليقات التي جاءت على هذا المنشور.
فقد عثرنا على حساب يبدو أنه يستخدم اسمًا مستعارًا، يعلق على المنشور السابق ويتحدث بثقة كبيرة ساردًا بعض المعلومات التي كانت لافتة بالنسبة إلينا عن ميمو وجمال رمسيس، وكأنه يعرفهما جيداً.
صاحب التعليق قال إنهما كانا مصريين من أب مصري وأم إيطالية من صقلية، عاشت وتربت في مصر، وأن أبيهما كان موظفاً وكانوا يعيشون في شبرا، وبالتحديد في شارع “البعثة” المتفرع من شارع شبرا الرئيسي، ذاكراً نفس المعلومات الخاصة بسفرهما إلى أمريكا وعودتهما، مشيرًا إلى أن جمال توفى عام 2006 في نيويورك، وأن ميمو توفي قبله بعدة سنوات.
صاحب التعليق، أكد أن معلوماته حصل عليها من “أصدقاء” له يقيمون في أمريكا، قابلوا جمال رمسيس في نيويورك عام 2005، وهو الذي أخبرهم بهذه التفاصيل، وفي عام 2006 علموا من سكرتيرته أنه مات، وهو ما كان أول معلومة نصادفها تتحدث عن حياتهما في أمريكا بشكل واضح.
ورغم أن المنشور والتعليقات من عدة سنوات، وأن حساب صاحب التعليق كان يبدو مهجورًا ولا يتم تحديثه باستمرار، إلا أنه لم يكن أمامنا سوى محاولة التواصل مع صاحب التعليق عبر “فيسبوك”، فأرسلنا إليه عدة رسائل وأخبرناه عن التحقيق الذي نعمل عليه، وطلبنا منه مزيدًا من المعلومات حولهما، وكانت المفاجأة، أنه رد علينا بعد يومين تقريباً، وأخبرنا أنه يقيم في الأساس خارج مصر، ولكنه موجود في تلك الأيام بالقاهرة يقضي إجازة سوف تنتهي خلال أيام، فعرضنا عليه أن نلتقي قبل سفره ليخبرنا بكل التفاصيل، فرحب واتفقنا على لقاء في أحد مقاهي المهندسين، وقد تملكنا إحساس أننا على بعد خطوات من كشف مهم في قصتنا.
مذكرات بخط اليد!
في الموعد المتفق عليه، دخل علينا المقهى رجل في منتصف العمر، هادئ وعلى وجهه ابتسامة، بعد تعارف سريع، علمنا أنه طبيب ويعمل في إحدى الدول العربية، وقد جاء إلى مصر في إجازة سريعة لإنهاء بعض الأوراق، وأنه من حسن المصادفة أننا تواصلنا معه في هذه الأيام حتى نستطيع لقاءه.
بدأ الرجل يحكي ما يعرفه عن ميمو وجمال رمسيس، فأخبرنا أن والده -الذي رفض تماما ذكر اسمه- كان يعمل دبلوماسيًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وعندما أنهى عمله وعاد إلى مصر، كتب مذكراته بخط يده عن عمله في أمريكا، وبعد وفاته اطلع الطبيب على هذه المذكرات، ومنها علم بقصة ميمو وجمال رمسيس.
كان هذا هو أول شيء يخبرنا به مخالفًا لما ذكره في التعليق، حيث ذكر في التعليق أن مصدر معلوماته أصدقاء له يعيشون في أمريكا وليس والده! في كل الأحوال واصلنا الاستماع إليه، فأخبرنا أن والده التقى بجمال رمسيس في أحد حفلات الزفاف في نيويورك سنة 2000 -وليس 2005 كما قال في التعليق- وتعرف عليه، فحكى له جمال قصته وشقيقه ميمو، وما حدث لهما بعدما سافرا إلى الولايات المتحدة في مطلع ستينيات القرن الماضي، لافتا إلى أن ميمو كان قد توفى في ذلك الوقت، أي قبل عام 2000، ثم بدأ يسرد ما قاله جمال لوالده، بقوله “ميمو وجمال رمسيس كانا توأمًا، وأقباطًا، وأن أسماءهما الحقيقية هي ميمو وجمال رمسيس، وليست أسماء مستعارة”!
عند هذه اللحظة، شعرنا بأن هناك شيء خاطئ، فهذه المعلومات الثلاث نعلم يقينا أنها غير صحيحة بحسب حوار مجلة “الكواكب”، حيث أن جمال أكبر من ميمو بعام على الأقل أي أنهما ليسا توأمًا، كما أنهما مسلمان وليسا أقباطًا، وأن أسماءهما الحقيقية محمد وجمال عفيفي! إلا أننا لم نصارحه بهذه المعلومات وتركناه يُكمل، لعله يأتي بجديد.
واصل الطبيب ساردًا مجموعة من المعلومات غير الدقيقة، وزاد عليها بقوله إن ميمو وجمال لم يتزوجا ولم ينجبا طوال فترة إقامتهما بالولايات المتحدة، وهو ما كان سبباً في عدم رجوعهما إلى مصر، وأن والدهما كان يعمل موظفًا في وزارة الزراعة، وتوفي بمصر.
بدأنا نشعر أن الرجل إما كاذب أو أن مصدر معلوماته هو الذي ضلله، فطلبنا منه أن يتجاوز هذه المعلومات ويحدثنا عما يعرفه عن حياتهما في الولايات المتحدة، أي الفصل الغامض في حياتهما، ففوجئنا أنه لا يعرف أي شيء، مدعيًا أنه لا يتذكر هذه الجزئية رغم أنه قرأها في مذكرات والده!، فطالبناه بالاطلاع على هذه المذكرات، فرفض بدعوى أن والده أوصى بعدم نشرها أو اطلاع أحد من خارج الأسرة عليها، وعندما بدأ يشعر بشكوكنا في كلامه، قرر المغادرة سريعًا بداعي أنه مرتبط بموعد مهم، على وعد بالبحث عن هذه المعلومات في المذكرات وإرسالها عبر “الواتساب” إلينا في أقرب وقت، ثم غادر وتركنا في حيرتنا.
حقيقة لم نستطع فهم غرض الرجل مما حدث! إن كان لا يملك أي معلومات صحيحة فلماذا وافق على لقائنا؟ وكيف ظن أن مثل هذه المعلومات التي جمعها من الإنترنت ستكون جديدة بالنسبة إلينا ولم نصل إليها من قبل؟ وهل كان يتعمد تضليلنا لغرض ما؟ فإن كان هذا هو مقصده.. فما الذي قد يدفعه لفعل ذلك؟ لماذا لم يتواصل معنا مجددا كما وعد واختفى تماما؟ كلها كانت أسئلة لم نعثر لها على إجابة، لنتركها ونواصل بحثنا في مكان آخر، مكان أمريكي فعلا!
سجلات أمريكا التاريخية
موقع ancestry أو “أسلاف” الأمريكي، هو موقع متخصص في علم الأنساب، ويمتلك شبكة ضخمة من سجلات الأنساب والتواريخ ومواقع الإنترنت المتعلقة بهذا المجال، وتقول الشركة المالكة للموقع إنها توفر الوصول إلى 10 مليارات سجل تاريخي، وتتيح البحث عن أسماء الأشخاص في نوعيات ضخمة من الوثائق الأمريكية، منها شهادات الوفاة والميلاد والزواج، والوثائق المتعلقة بالناخبين ووثائق السفر والهجرة، وبعض الوثائق العسكرية، إضافة إلى امتلاكه أشجار ملايين العائلات والـDNA، كما يمتلك الموقع أرشيفًا من الصحف يقول إنه يرجع إلى عام 1700 في جميع أنحاء العالم، ويغطي أكثر من 12 ألف صحيفة وما يزيد عن 500 مليون صفحة.
كان هذا الموقع هو وجهة بحثنا الجديدة، حيث أنشأنا حسابا عليه، وبدأنا البحث بأسماء ميمو وجمال رمسيس الفنية كما ظهرت في الأعمال السينمائية، فلم تظهر لنا أي نتائج مفيدة، وكان من اللافت أننا لم نحصل على أي نتائج متعلقة بأسمائهما في أرشيف الصحف الأمريكية خلال فترة الخمسينيات، رغم تأكيدهما أنهما شاركا في العديد من الأفلام الأمريكية وظهرا على مسارح الولايات المتحدة.
بعدما يئسنا من الحصول على أي نتائج بالبحث بأسمائهما الفنية، بدأنا تجربة البحث بأسمائهما الحقيقية كما وردت في حوار مجلة “الكواكب”: محمد محمد عفيفي، وجمال محمد عفيفي، فبدأت تظهر لنا نتائج مثيرة للاهتمام.
من أوروبا إلى أمريكا.. والعكس!
عثرنا في سجلات قوائم المسافرين الذين دخلوا وخرجوا من وإلى الولايات المتحدة خلال فترة الخمسينيات، على أسرة مكونة من ستة أفراد اسم عائلتها “عفيفي”، تضم أب يُدعى محمد، وخمسة أبناء هم شحاتة ورتيبة وجمال ومحمد ونعيمة، فأمسكنا بأول الخيط وبدأنا البحث حول هذه الأسرة بالتحديد للتأكد مما إذا كانت هي بالفعل أسرة ميمو وجمال رمسيس أم لا.
مع توالي البحث في الوثائق، اكتشفنا أن هذه الأسرة كانت تحمل جوازات سفر مصرية، وأن أعمار الشابين محمد وجمال، قريبة للغاية من أعمار ميمو وجمال رمسيس حيث ظهر أن تواريخ ميلادهما تقريبا هي (جمال مواليد 1935) و(محمد مواليد 1937)، كما أن رب هذه الأسرة شخص يُدعى محمد -وفي بعض الوثائق كُتب محمود- وكان قد تجاوز الستين من العمر حينها، كما عثرنا على وثيقة سفر مكتوب فيها وظائف أفراد هذه الأسرة، وكان مكتوب أمام أسماء الأب وجمال ومحمد وشحاته أن وظيفتهم هي Acrobat “لاعب أكروبات أو بهلوان”، فبتنا نعتقد بنسبة كبيرة أنها هي بالفعل أسرة ميمو وجمال رمسيس.
بدراسة الوثائق المتاحة عن هذه الأسرة، وجدنا أنها ترددت على الولايات المتحدة عدة مرات خلال الخمسينيات، كانت أقدم الوثائق المتاحة عنهم هي وثيقة مؤرخة في أكتوبر 1953 تتضمن قائمة بأسماء الركاب القادمين من العاصمة البريطانية لندن إلى نيويورك بالولايات المتحدة على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية البريطانية، وكان من بينهم أسماء أسرة عفيفي الستة، وهي الرحلة التي سوف يعودون منها إلى إنجلترا مجددًا بعد قرابة ستة أشهر، وبالتحديد في أبريل 1954 بحسب وثيقة أخرى تتضمن قائمة بأسماء ركاب السفينة “ماري كوين” المتجهة من أحد موانئ كندا إلى إنجلترا في أوروبا.
وفي وثيقة ثالثة، تظهر أن الأسرة عادت إلى نيويورك مجددا في أكتوبر 1954 على متن السفينة “كوين إليزابيث” القادمة من لندن، وتوضح هذه الوثيقة أن أسرة عفيفي لم تكن تقيم في إنجلترا رغم توجهها في معظم رحلاتها -سواء بحرًا أو جوًا- منها إلى الولايات المتحدة، ولكنها كانت تتخذ من إنجلترا مجرد محطة “ترانزيت”، حيث أشير في الوثيقة السابقة إلى أن الأسرة لم تكن من سكان إنجلترا، وأنها جاءت للسفر من دولة أجنبية لم يتم تحديدها بهدف استقلال السفينة المتجهة إلى نيويورك.
ويلاحظ في تلك الوثيقة، أن شقيقتهما رتيبة كانت برفقة زوجها “محمد الشامي” لذا ظهرت باسم “رتيبة الشامي”، كما كانت برفقة طفلتها “سناء الشامي” التي كانت لا تزال رضيعة في ذلك الوقت -من اللافت أن محمد الشامي هذا لن يرافقهم بحسب الوثائق في أي رحلات لاحقة كما سيعود اسم رتيبة ليصبح “رتيبة عفيفي” حتى طفلتها سناء سيكتب اسمها “سناء عفيفي”.
وعلى هذا المنوال ترددت الأسرة عدة مرات وخلال فترات قصيرة على الولايات المتحدة قادمين من أوروبا، حيث كانت آخر وثيقة ذُكرت فيها هذه الأسرة ترجع إلى يونيو 1957، وهي عبارة عن قائمة بأسماء ركاب السفينة “ساوثرن كروز” المتوجهة من مكان غير محدد بشكل واضح إلى ميناء ميامي في فلوريدا بالولايت المتحدة، وكان على متن هذه الرحلة كل من جمال ومحمد وشحاته، بالإضافة إلى نعيمة ورتيبة وسناء، بينما غاب الأب الذي ربما كان قد توفي في هذه الفترة، حيث كانت هذه الوثيقة هي آخر الوثائق التي عثرنا عليها لرحلات أسرة عفيفي.
جانب صغير من الحقيقة
وبحسب المعلومات التي جمعناها من الوثائق السابقة، يظهر أن كلام ميمو وجمال رمسيس عن رحلاتهما الكثيرة والأماكن التي عملوا فيها في أوروبا وأمريكا قد يكون صحيح بنسبة كبيرة، ولكن هذا لا يعني أنهما كانا على قدر كبير من الشهرة كما أدعيا، كما يظهر أنهما لم يكونا في الولايات المتحدة عام 1956، وهو العام الذي قالا إنهما لفتا فيه نظر هتشكوك وعملا معه خلاله، أيضاً يمكن استنتاج أنهما توجها مع الأسرة من أوروبا إلى أمريكا في العام 1957 بعد انتهاء مشاهدهما في الفيلم الفرنسي الوحيد الذي عثرنا لهما عليه، والذي كان من إنتاج العام ذاته “ليس هناك سطو على ريكاردو”، كما يمكن أن نخمن بأنهما عادا من أمريكا إلى مصر في عام 1958 تقريبا ليبدءا عملهما في السينما المصرية.
موقع ancestry الذي وفر لنا هذه المعلومات عن حياتهما خارج مصر، كان أملنا الرئيسي في البحث عنهما بعد مغادرتهما لمصر، خاصة وأن كل المصادر تجمع على أنهما غادرا إلى الولايات المتحدة بشكل مفاجئ واستقرا هناك، إلا أن المدهش أن هذه الأسرة لم تظهر لها أي سجلات أخرى على الموقع بعد فترة الخمسينيات، كما لم نعثر على أي وثائق تخص أي من أفراد هذه الأسرة، وبالتحديد ميمو وجمال، لا وثائق زواج أو طلاق، أو وثائق سفر أو حصول على الجنسية أو حتى وثائق تتعلق بأشخاص يمكن أن يكونوا على صلة بهما، واختفى ذكرهما تماما، وكأنهم لم يعودا إلى الولايات المتحدة ثانية، وعلى الإطلاق!
الحق أننا وأثناء عمليات البحث، توصلنا إلى اسم شخص يقيم في الولايات المتحدة اعتقدنا أنه قد يكون ابن ميمو، خاصة وأن أصوله مصرية وكان له كثير من الأقارب في مصر، وبعد محاولات عدة للوصول إليه، توصلنا إلى نجله عبر “فيسبوك”، والذي يعمل في قوات “المارينز” الأمريكية، حيث أوصلنا بأبيه الذي كان يتحدث العربية بطلاقة، إلا أنه نفى أن يكون له صلة بميمو وجمال رمسيس مؤكدًا أنه لا يعرفهما سوى من أفلامهما خاصة “إشاعة حب”.
وهناك كان علينا أن نسأل: أين ذهب ميمو وجمال رمسيس؟ أو بالأصح: أين اختفيا؟ فالواقع يقول إنهم غادرا مصر بشكل مفاجئ وتركا كل شيء في العام 1960، حتى أنهما لم ينتظرا عرض فيلم “ملاك وشيطان” الذي شارك فيه ميمو، كما أن الوثائق تقول إنهما لم يعودا إلى الولايات المتحدة أو على الأقل لم يقيما بها فترة طويلة ولا يوجد أي شيء يدل على أنهما استقرا بها، فأين ذهبا؟
رحلة البحث عن قبر!
زيادة في التأكد من أنهما لم يقيما في الولايات المتحدة، قمنا بالبحث عن أسمائهما في موقع Find a Grave أو “ابحث عن قبر”، وهو عبارة عن قاعدة بيانات كبيرة تضم أسماء أغلب ساحات المقابر “القرافات” في بلدان العالم الغربي وبالتحديد في الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى مقابر كبيرة أخرى في آسيا وأفريقيا، بينها بعض المقابر في مصر، مثل مقبرة الجنود الهنود الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية بالعباسية، ومقابر البروتوستانت البريطانيين في الشاطبي بالإسكندرية، ومقابر البساتين بالقاهرة وغيرها.
والخدمة التي يقدمها هذا الموقع، هو أنه يساعد زواره في العثور على أماكن دفن أي شخص يبحثون عنه، حيث يتضمن بالإضافة إلى أسماء المقابر وموقعها، أسماء المتوفين المكتوبة على الشواهد الموجودة داخل المقبرة، بالإضافة إلى صور لبعض هذه الشواهد!
بعدما أنشأنا حسابًا على هذا الموقع، بدأنا نبحث داخل مقابر الولايات المتحدة على أي شواهد قبور ترجع إلى ميمو وجمال رمسيس، بحثنا في البداية بأسمائهما الفنية فلم نصل إلى أي شيء، ثم بحثنا بأسمائهما الحقيقية فلم يقودنا البحث إلى شيء أيضاً، حاولنا تغيير الأسماء وكتابتها بأكثر من طريقة، إلا أن نتائج البحث كانت دائماً صفر.
بعد بحث دقيق اكتشفنا أن الموقع السابق لا يتضمن كل المقابر الموجودة في الولايات المتحدة بنسبة 100%، ولكنه يتضمن أغلبها فقط، إلا أن عدم عثورنا على أي شيء عليه يخص ميمو وجمال رمسيس، زاد من غموض الأمر، وجعلنا أكثر اقتناعا بأن قصة سفرهما إلى الولايات المتحدة وإقامتهما هناك ووفاتهما هناك قد تكون غير دقيقة بنسبة كبيرة.
عودة مفاجئة إلى “رأفت الهجان”!
أثناء مواصلة بحثنا الذي لم يتوقف، عثرنا على معلومات عن ميمو وجمال رمسيس في منشور على صفحة الكاتب والباحث “عبد صموئيل فارس” بموقع “فيسبوك”. المنشور ذكر بعض المعلومات الشائعة عنهما، قبل أن يختتم بمعلومة فريدة لم نجدها في أي مصدر آخر، دفعتنا للتواصل مع صاحب الصفحة.
المنشور السابق قال إن ميمو وجمال ظهرا في بعض عروض التليفزيون الأمريكي في الخمسينيات، قبل أن يعرفهما الجمهور المصري في العام ١٩٥٩، وأنهما استقرا بالولايات المتحدة في بداية الستينيات، وابتعدا عن الفن تماماً بسبب أعمالهما التجارية، حتى وفاة جمال في العام ٢٠٠١، ووفاة ميمو في العام ٢٠٠٧، إلا أن المعلومة الجديدة تمثلت في القول بأنهما تركا ثروة متواضعة تقدر بحوالي 2.5 مليون دولار تقريبا.
المعلومة المتعلقة بحجم ثروتهما، توحي وكأن كاتبها يعرفهما فعلا، بل ويعرفهما عن قرب، لذا بادرنا بالتواصل مع الكاتب عبد صموئيل الذي يعيش منذ فترة في الولايات المتحدة، وسألناه عن مصدر هذه المعلومة، فأجابنا بأنه لا يتذكر جيداً مصدر هذا الكلام، ولكنه متداول بين بعض أفراد الجالية المصرية في أمريكا، ونصحنا بالتواصل مع الممثل سامي فهمي، عمدة المصريين في نيويورك.
وسامي فهمي هو ممثل مصري اشتهر بأداء بعض الأدوار اللافتة في التليفزيون خلال فترة السبعينيات، كان أشهرها مسلسل “حكايات ميزو” عام 1977 مع سمير غانم، و”الأيام” عام 1979 مع أحمد زكي، قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة لدراسة الإخراج، حيث استقر هناك واتجه إلى مجال الأعمال، ومع مرور الوقت بات يطلق عليه هناك “عمدة المصريين في نيويورك”.
سريعًا بحثنا عن وسيلة للتواصل مع الفنان سامي فهمي في الولايات المتحدة، وسألناه عما يعرفه عن ميمو وجمال رمسيس وقصة إقامتهما في أمريكا، فأجابنا بأنه لم يلتقيهما خلال فترة وجوده في الولايات المتحدة التي امتدت منذ أوائل الثمانينيات تقريبًا وحتى الآن، قبل أن يفاجئنا بمعلومة غير متوقعة على الإطلاق.
حيث طلب منا التواصل مع “رضا الجمال”، فسألناه: هل تقصد الممثل القدير رضا الجمال الذي تربطه صلة قرابة بـ”رفعت الجمال” -رأفت الهجان-؟ فأجابنا: “نعم، فرضا الجمال ابن عم رفعت الجمال، وابن عم ميمو وجمال رمسيس أيضا”!!
استغرقنا بعض الوقت حتى نستوعب هذه المعلومة المفاجئة لنا بكل المقاييس، فميمو وجمال رمسيس هما أبناء عمومة العميل المصري رفعت الجمال!؟
قبل التوجه إلى النجم رضا الجمال، جال في خاطرنا أمران: الأول هو أن الربط بين جمال رمسيس ورفعت الجمال، لم يكن فقط على سبيل “قصة شعر” النجم الراحل محمود عبدالعزيز في المسلسل، ولا حتى بسبب القول بأن رفعت الجمال جسد بعض الأدوار السينمائية المحدودة، بل أنه قد يكون بسبب صلة القرابة بينهما!
أما الأمر الثاني، فهو أن اختفاءهما الغريب والمريب بعد النجاح الكبير الذي حققاه في الأعمال التي قدماها، قد يكون مرتبطًا بأسباب أخرى غير كل الأسباب التي مرت علينا سابقًا، أسباب قد يكون سرها لدى قريبهما “رفعت الجمال”!
في غمرة هذه الحيرة والافتراضات الكثيرة التي حاصرت تفكيرنا، كان لابد لنا من الإسراع والتواصل مع الفنان رضا الجمال، وبعد محاولات اتصال عدة، هاتفناه أخيرًا، وقصصنا عليه ما لدينا من معلومات وما أخبرنا به الفنان سامي فهمي، فأجابنا رضا الجمال بكل هدوء، نافيًا صحة هذه المعلومة!
رضا الجمال أكد لنا أنه لا تربطه بميمو وجمال رمسيس أي صلة قرابة، كما أنهما ليسا قريبين لرفعت الجمال، معربًا عن دهشته مما قاله سامي فهمي، ولكي يثبت لنا صحة نفيه، أكد أنه يعلم بأن ميمو وجمال رمسيس كانا من القاهرة، بينما عائلة الجمال من دمياط!
“الرجل الذي لم نكن نتوقعه”
إرهاق وحيرة وعدم يقين، هو الوصف الدقيق لما كنا نشعر به في هذه المرحلة! فبعد كل هذه المعلومات المتضاربة التي جمعناها عن الأخوين رمسيس، بتنا على يقين أن الأمر أكبر مما كنا نظن في بداية بحثنا، إن القصة ليست مجرد قصة اثنين من الممثلين الموهوبين غادرا مصر فجأة واختفيا، بل إنها أعقد من ذلك وأغرب.
استنتاجات قائمة على فرضيات -لا تحسم الجدل- هي كل ما جمعناه في نهاية المطاف، أسئلة بلا إجابة قاطعة هي محصلتنا الأخيرة، فهل يمكن لتلك الأسئلة أن تضيء طريقاً للحقيقة عن مصير هذا الثنائي المحير؟
إن ما توصلنا إليه يشير بشكل واضح إلى أن هناك من حاول أن يصنع تاريخًا فنيًا مزيفًا لميمو وجمال رمسيس خارج مصر، وما كان اشتراكهما في الفيلم الفرنسي “ليس هناك سطو على ريكاردو” -الفيلم الوحيد الأجنبي الذي ظهرا فيه- سوى محاولة لتأكيد هذا التاريخ وإضفاء المصداقية عليه.
فمن يمكن أن يفعل شيئا كهذا في هذا التوقيت؟ وما هي الفائدة التي قد تعود عليه من وراء ذلك؟ ومن بالتحديد الذي كان مستهدفًا لأن يكون ضحية لهذا التاريخ المزيف؟
إذا سرنا خلف الرواية القائلة بأن رحيلهما عن مصر، كان بسبب خلاف مع نظام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فماذا قد يكون سبب هذا الخلاف؟ هل أثارت تحركاتهما وسفرهما الدائم بين البلاد ريبة السلطة المصرية بالفعل؟ هل هناك سر اكتشفته السلطات المصرية أدى إلى هروب ميمو وجمال رمسيس بغتة بعد افتضاحه؟ هل كان لاكتشاف تاريخهما المزيف دور في ذلك؟
هل هذا الخلاف له علاقة ببدايتهما الفنية مع فطين عبدالوهاب؟ الذي كان بمثابة المخرج الرئيسي لسلسلة أفلام إسماعيل ياسين الشهيرة التي صورها في عدد من المؤسسات الأمنية والعسكرية. وهل كان اختفاؤهما المفاجئ مرتبط أيضاً بتوقف هذه السلسلة في العام ذاته؟ حيث كان فيلم “إسماعيل يس في الطيران” إنتاج عام 1960 – نفس عام اختفاء ميمو وجمال – هو آخر أفلام هذه السلسلة! ولم تصور بعده أي أفلام عسكرية في مصر إلا عام 1974 بعد انتصار أكتوبر.
لو كنا مخطئين في هذه الفرضيات، وأن خروجهما كان أمرًا عاديًا لإدارة أعمال قريبهما في أمريكا، فلماذا كان خروجهما مفاجئًا وسريعًا ومثيرًا للجدل؟ ولماذا اختفيا تمامًا ولم يظهرا ثانية منذ ذلك التاريخ؟ ولماذا لم نعثر على أي أثر لهما في السجلات الأمريكية؟
هل مات ميمو وجمال رمسيس فور خروجهما من مصر؟ هل غيرا هوياتهما وعاشا في مكان مجهول هربًا من ماض يطاردهما؟… أسئلة كثيرة لا تنتهي سوف تظل بلا إجابات إلى أن يظهر من يكشف لنا حقيقتهما يوماً.
قد تكون للقصة بقية…
للطلاع على الحلقة الثانية من التحقيق: