في عام 1927، كان قد مر على دار الآثار العربية (الاسم القديم لمتحف الفن الإسلامي) ما يزيد على عشرين عاما في مقرها الجديد الذي نقلت إليه بميدان باب الخلق بالقاهرة، بعدما ضاق مقرها القديم -الذي كان عبارة عن الإيوان الشرقي بجامع الحاكم بأمر الله الفاطمي- بمحتويات المتحف التي تزايدت مع الوقت.
في ذلك التاريخ، كان المصري حسن محمد الهواري يعمل أمينا بالمتحف، حيث كلف من قبل مدير دار الآثار العربية في ذلك الوقت، المستشرق الفرنسي جاستون فييت، بجرد قرابة 3 آلاف قطعة أثرية من الأحجار والرخام، كانت موجودة ببدروم الدار، وهي عبارة عن شواهد قبور عليها كتابات ونقوش، جمعت من أقدم الجبانات الإسلامية بالقاهرة وأسوان.
أثناء جرد ودراسة الهواري لهذه الشواهد، وجد أن المئات منها مسجلة تسجيلا إجماليا، أي بدون تفاصيل خاصة بكل قطعة، كما أن هذه القطع لم تكن قد خضعت بعد لدراسة واضحة مفصلة، ما يعني أن أحدا حتى ذلك التاريخ لم يكن قد اكتشف محتويات هذه القطع بدقة ولا تم تحديد تواريخها، لذا قرر الهواري تسجيل كل شاهد من هذه الشواهد بشكل منفصل، ووصفها فنيا وعلميا.
في البداية، ظهر للهواري بوضوح أن أقدم هذه القطع يرجع إلى أواخر القرن الثاني للهجرة -ابتداء من عام 174هـ تقريبا- بينما يرجع معظمها إلى القرن الثالث، ورأى الهواري أن أهميتها ليست في قدمها، ولكن فيما ستضيفه إلى دراسات تطور أشكال الخطوط العربية خلال القرون الأولى للإسلام، إلا أن الأثري المصري كان على موعد مع مفاجأة لم يتوقعها!
ففي أثناء عملية الجرد، عثر الهواري بين تلك القطع على شاهد قبر من الحجر الجيري، مؤرخ بتاريخ لم يكد يصدقه في البداية، كونه إن صح، سيجعل ذلك الحجر بمثابة أقدم أثر إسلامي معروف في مصر حتى ذلك التاريخ! فقد كان الشاهد مؤرخ بعام 31 هجريا، أي في فترة خلافة الصحابي عثمان بن عفان!
سريعا، لم يتردد الهواري، وقرر أن يدرس هذا الشاهد بشكل معمق وعلمي، ليتأكد من عمره وليثبت ما إذا كان بالفعل أقدم أثر إسلامي في مصر أم لا، ليبدأ رحلة طويلة من البحث العلمي انتهت به إلى كشف استثنائي، لم يخل من بعض المغالطات!
آثار مصر الإسلامية قبل 31هـ
قبل أن ننطلق في رحلة البحث خلف الأثر الذي اكتشفه الهواري والتأكد من صحته، علينا أولا أن نتساءل: إن كان ذلك الأثر سيعتبر الأقدم لمجرد أنه مؤرخ بتاريخ 31هـ، فأين ذهبت كل الآثار الثابتة والمنقولة وأشكال الفنون التي خلفها المسلمون في مصر منذ بدء الفتح الإسلامي في 18هـ وحتى التاريخ المنقوش على شاهد الهواري؟!
يقول الباحث في الآثار الإسلامية محمود غزالة ، إن الفترة الأولى من تاريخ الإسلام اتسمت بالزهد والتقشف والاهتمام بإرساء قواعد الدين الجديد وتطبيق تعاليمه ونشره في أرجاء المعمورة، ولم تتضح ملامح الفن الإسلامي إلا بعد استقرار الدولة في مطلع القرن الثاني الهجري.
ويضيف، أن خلال فترة التكوين الأولى تلك، ظل الفن الإسلامي يتأثر بفنون الحضارات المحيطة به والتي دخل أبناؤها الإسلام أو فتحها الإسلام حتى بدأت المدرسة الإسلامية في الفنون تنضج ويصبح لها هويتها المميزة، وهذا ما يفسر قله أو عدم وجود آثار تنسب إلى الفن الإسلامي قبل الدولة الأموية.
ويتابع أنه حتى المساجد التي بنيت في الفترة المبكرة من الإسلام كانت تؤسس على الطريقة ذاتها التي بني بها مسجد قباء في المدينة المنورة -أول مسجد بني في الإسلام- حيث كانت المساجد عبارة عن مساحة مسورة ومغطاة بالجريد، تأثرا البيئة الصحراوية التي نشأ فيها الإسلام في شبه الجزيرة العربية، وهو ما حدى بالمسلمين بعد استقرار أوضاع الدولة الإسلامية وامتداد مساحتها الجغرافية إلى إزالة المباني القديمة وإعادة تعمير المساجد بما يتناسب مع قوة الدولة الإسلامية في عصر الأمويين والعباسيين.
المساجد والدور والقبور
ما يقوله غزالة ينطبق بشكل واضح على المساجد الثلاثة التي بنيت في مصر قبل عام 31هـ، وهي مسجد سادات قريش بمدينة بلبيس بمحافظة الشرقية الحالية، والذي أطلق عليه هذا الاسم تكريما للصحابة الذين استشهدوا أثناء الفتح ضد الرومان، ومسجد عمرو بن العاص الشهير في مدينة الفسطاط، وأخيرا مسجد عمرو بمدينة دمياط والذي قام بإنشائه الصحابي المقداد بن الأسود قرابة عام 21هـ.
فقد كانت حالة المساجد الثلاثة في بداية إنشائها بدائية وبسيطة البنيان، وهو ما كان سببا في تعرضها لعمليات هدم وتوسعة متكررة، جعلت شكلها الحالي لا يتضمن أي شيء على الإطلاق من بنيانها الأول، أي أنها لا تشتمل على أي آثار أو قطع ترجع إلى ما قبل عام 31هـ.
ففي كتابها الهام “موسوعة مساجد مصر” تشير الدكتورة سعاد ماهر إلى حجم التغير الذي حدث في مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط والذي بني بحسب أغلب الروايات في عام 21هـ، حيث كانت مساحته في البداية لا تزيد عن 50×30 ذراعا، وكان سقفه منخفض جدا، ولا يوجد به صحن، وهو ما كان سببا في قيام مسلمة بن مخلد الأنصاري -والي مصر من قبل الخليفة معاوية ابن أبي سفيان- بهدم المسجد سنة 53هـ وتقويته وزيادة مساحته ليستوعب أعداد المسلمين التي كانت في ازدياد، وهو نفس السبب الذي دفع عبدالعزيز بن مروان في عام 79هـ لهدم المسجد مجددا لتوسعته، وهكذا ظلت تتوالى التوسيعات في المسجد حتى وصل إلى مساحته الحالية البالغة قرابة 24 ألف ذراع!
ولهذا السبب يعتبر الأثريون أن جامع أحمد بن طولون الذي بني عام 263هـ هو بمثابة “شيخ مساجد مصر”، أي أقدم مساجد مصر الباقية على حالتها التي بنيت عليها، وليس جامع عمرو بن العاص.
هذا عن المساجد التي بنيت قبل تاريخ 31هـ، أما عن المنازل والدور التي بناها المسلمون في مصر قبل ذاك التاريخ، وبالأخص في مدينة الفسطاط -أول مدينة إسلامية بمصر- فلم تكن أكثر حظا من المساجد، حيث كان اختفائها حتميا تبعا للعديد من الظروف والأحداث التاريخية.
وفي هذا الشأن يقول الأثري المصري الشهير علي بهجت -أول من قام بالحفر والتنقيب في الفسطاط- في كتابه “حفريات الفسطاط”، أنه عندما بدأ الحفر عام 1911م كانت الفسطاط عبارة عن تلال وخرائب، حيث تعرضت المدينة لكوارث وأوبئة وحرائق أودت بتاريخها العريق وبتراثها الأثري، وحتى هذه الخرائب كانت معرضة للنهب والتدمير وهو ما أضاع أي كنوز ترجع إلى الفترة الأولى للإسلام.
ويوضح بهجت أن أطلال مدينة الفسطاط كانت تستخدم لاستخراج الأحجار وإعادة استخدامها في عمليات البناء في العصر الحديث، وهو ما عرّض ربع المدينة للنسف بحسب قوله، حيث كان يُستخرج منها الآجر القديم لإعادة استخدامه، وفي سنة 1905م، أريد ردم بعض منخفضات جزيرة الروضة فأخذت الأتربة اللازمة للردم من تلال الفسطاط.
ويشير بهجت أن ما شهدته أطلال الفسطاط في العصر الحديث من نهب وتخريب وتدمير، كان صورة مصغرة لما حدث لها طوال العصر الإسلامي، حتى أن المؤرخين كانوا يطلقون عليها “خرائب الفسطاط” منذ القرن الخامس الهجري! وهو ما يوضح كيف كانت المدينة عرضة للنهب في ظل هجر أهلها لها نتيجة الكوارث التي شهدتها، حيث كان الناس إذا رغبوا في بناء بيوت لهم بمدينة القاهرة الفاطمية، أتوا إلى الفسطاط وأخذوا منها ما بقي من مواد البناء لإعادة استخدامه، وذلك لعدة قرون.
حتى أن أقدم دار إسلامية وعربية عثر عليها في مصر، والتي اكتشفت عام 1912 على يد علي بهجت، بين منطقة كوم الجارح وجامع أحمد بن طولون، يرجع تاريخها إلى عهد الدولة الطولونية، أي بعد الفتح الإسلامي بقرابة 250 عام!
وبما أن الحديث عن شاهد قبر يرجع إلى 31هـ، فإن الأمر يستدعي أن نتساءل أيضا عن شواهد القبور الأخرى التي أقيمت في مصر قبل هذا التاريخ.
ويشير تتبع تاريخ الفتح الإسلامي لمصر، إلى وجود العديد من المواضع التي دفن بها الصحابة الذين شاركوا في الفتح، والذين استشهدوا نتيجة المعارك، أو الذين ماتوا بعد الفتح أثناء إقامتهم في مصر، ومن هذه المواضع، قبور الصحابة في مدينة بلبيس التي سبق الإشارة إليها، وقبور أخرى في مدينة الإسكندرية، وقبور شهداء فتح البهنسا بصعيد مصر، وقبور أخرى ترجع لسنوات الإسلام الأولى بمصر في أسوان، بالإضافة إلى مواضع أخرى في قرافة المقطم والجيزة لمن استمرت إقامته في مصر من الصحابة.
إلا أن الثابت أن كل هذه القبور تقريبا اختلفت معالمها وضاع شكلها الأول، حيث لم يكن يهتم المسلمون في ذلك الوقت بإقامة الأضرحة كما عرفت في العصور اللاحقة، بل كانوا يكتفون بوضع أحجار بسيطة باعتبارها شاهدا للتمييز بين القبور، حتى دون كتابة في غالب الأحيان، وهو ما كان سببا في أنه لم يصل إلينا أي شيء من شواهد قبور هذه المرحلة المبكرة من عمر الإسلام في مصر.
حتى القبور التي ترجع إلى التابعين ومن أقام في مصر من المسلمين من غير الصحابة، ضاعت بفعل عوادي الزمن وبفعل العديد من الأحداث التي قضت عليها، مثلما حدث في مقابر أسوان، حيث يكشف الدكتور فريد الشافعي في كتابه “العمارة العربية في مصر الإسلامية” أنه كان يوجد في منطقة النوبة -التي أغرقتها المياه بعد بناء السد العالي- بقايا مدافن عربية إسلامية لها قيمة معمارية وأثرية نادرة، إلا أنه للأسف تركت ولم يتم إنقاذ شيء منها، على العكس من الآثار المصرية القديمة التي تم إنقاذها في عملية دولية كبرى برعاية اليونسكو.
الآثار النبوية في مسجد الحسين
ولكن بعيدا عن الآثار الثابتة، ألم يكن هناك أي آثار منقولة متبقية من هذه الفترة؟ الحقيقة أن مصر تمتلك عددا لا بأس به من الآثار التي يَعتقد الكثيرون أنها ترجع إلى ما قبل عام 31هـ، بل يجزمون أنها ترجع إلى زمن ما قبل الفتح، إنها الآثار النبوية في مسجد الحسين!
ففي مسجد الحسين بالقاهرة، خصصت حجرة يطلق عليها حاليا اسم “حجرة المقتنيات النبوية” تشتمل على عدد من الآثار التي تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، من بينها سيف وجزء من قميص وبقايا عصا من الخشب ومكحلة، بالإضافة إلى مصحف يعتقد أنه يرجع إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأربعة شعيرات يزعم البعض أنها من شعر رأس ولحية الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتقول الدكتورة سعاد ماهر في كتابها “مخلفات الرسول في المسجد الحسيني”، عن قصة هذه الآثار، أنها آلت في بداية الأمر إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم بطريق الميراث، وبعضها آل إلى الصحابة عن طريق الإهداء، وبقيت كذلك حتى جاءت الدولة الأموية، فاستطاع خلفاؤها أن يحصلوا على كثير منها بطريق الشراء في أغلب الأحيان بقصد التبرك والتشريف، ولما سقطت الدولة الأموية سنة 132هـ، وتولى العباسيون الخلافة، كان من الطبيعي أن يحرصوا على أن تؤول إليهم مقتنيات الرسول صلى الله عليه وسلم، كونهم أولاد عمه وأولى بها.
وتضيف أن كل من كتب من المؤرخين عن المخلفات النبوية الموجودة بالقاهرة، أجمع على أنها كانت عند بني إبراهيم بمنطقة ينبع، ويقال إنهم تلقوها بالميراث عن آبائهم وأجدادهم، في أجيال متعاقبة تمتد إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي القرن السابع الهجري، اشترى هذه المخلفات من بني إبراهيم وزير مصري اسمه الصاحب تاج الدين، ثم نقلها إلى مصر وبنى لها رباطا على النيل، عرف فيما بعد برباط الآثار، ويعرف الآن باسم “أثر النبي”.
وتنقل عن السيوطي قوله إنه في القرن الحادي عشر الهجري كان لايزال هذا الرباط عامرا مأهولا بالمصلين والزوار حتى تبدلت الدول واختلت الأحوال فنقلت منه الآثار الشريفة خوفا عليها من السرقة، حيث نقلت إلى داخل خزانة موجودة بقبة السلطان الغوري.
وتشير سعاد ماهر إلى أن الآثار النبوية بقيت داخل قبة الغوري أكثر من ثلاثة قرون، حتى كانت سنة 1275هـ، فتم نقلها إلى مسجد السيدة زينب، ثم نقلت بموكب حافل إلى خزانة الأمتعة بالقلعة واستمرت بها إلى سنة 1304هـ، ثم نقلت إلى ديوان عموم الأوقاف، ثم في سنة 1305 نقلت إلى سراي عابدين، وهناك أمر الخديوي توفيق بأن تنقل الآثار إلى المسجد الحسيني، فوضعت في دولاب جميل الصنع أقيم في الحائط الشرقي للمسجد من الجهة القبلية، حيث نقلت إليه الآثار في العام ذاته 1305هـ قرابة عام 1888، ولاحقا وفي عام 1311هـ، أمر الخديوي عباس حلمي الثاني بإنشاء قاعة خاصة للمخلفات تقع وراء الحائط الشرقي للمسجد الحسيني، وهي الحجرة التي تشتمل على الآثار حتى الآن.
وبالرغم من محاولة سعاد ماهر إثبات صحة نسب هذه المقتنيات إلى نبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن الشكوك تحوم حولها بشكل كبير، ويرى من يشككون في هذه الآثار وفي علاقتها بالنبي، أن الصحابة وآل البيت لم يعرف أنهم اهتموا بحفظ مقتنيات الرسول وتوارثها والتبرك بها، بل على العكس كان الصحابة في هذا الوقت المبكر من عمر الدولة الإسلامية -عقب وفاة الرسول- يحاولون بدأب محاربة أي شيء يمكن اعتباره من “الشركيات”.
كما يستند من ينكرون صحة هذه الآثار، إلى حديث ورد في البخاري عن عمرو بن الحارث قال فيه: “ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا، ولا عبدا ولا أمة، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضا جعلها صدقة”، ما يعني أنه لم يكن للنبي أي مقتنيات باقية، سوى سلاحه الذي لا يمكن التأكد من صحته.
كما أن كل هذه الآثار غير مؤرخة وهو ما يجعل تحديد عمرها بشكل علمي أمر بالغ الصعوبة، حيث يذهب الدكتور عبدالحميد عبدالسلام رئيس إدارة التدريب والنشر العلمي بمتحف الفن الإسلامي إلى أنه لا يمكن التأكد من صحة هذه المقتنيات ولا من صحة نسبها إلى النبي ولا تحديد عمرها بشكل تاريخي دقيق.
شاهد قبر من الحجر الجيري
بعد هذه الرحلة، وبعدما رأينا كيف ضاعت الآثار الإسلامية الأولى ولم يعد لها وجود، وكيف بات العثور على أحدها أمر شبه مستحيل؛ نعود أدراجنا إلى شاهد القبر الذي عثر عليه حسن الهواري في بدروم دار الآثار العربية عام 1927.
فبعدما استشعر الهواري قيمة ذلك الأثر النادر، بدأ في دراسته بشكل علمي دقيق للوصول إلى حقيقة تاريخه.
كان الشاهد مصنوع من بلاطة من الحجر الجيري، تبلغ مقاساتها 38×71 سم، وعليها نقش بالخط الكوفي العادي بطريقة الحفر الغائر، اشتمل على ثمانية أسطر، كتبت كالآتي:
1- بسم الله الرحمن الرحيم هذا القبر
2- لعبد الرحمن بن خير الحجري اللهم اغفر له
3- وادخله في رحمة منك وأتنا معه
4- استغفر له اذا قرأ هذا الكتب
5- وقل امين وكتب هذا ا
6- لكتب في جمدى الا
7- خر من سنت احدى و
8- ثلثين
ويظهر من قراءة هذا النقش، أن الأثر كان عبارة عن شاهد قبر لشخص يدعى “عبدالرحمن بن خير الحجري”، يوثق تاريخ وفاته في شهر جمادى الآخر من عام 31هـ، أي في زمن الخليفة عثمان بن عفان، ويدعو صانع الشاهد بالرحمة والمغفرة للمتوفى، ويمكن قراءة النص بشكل صحيح كالآتي: “بسم الله الرحمن الرحيم هذا القبر لعبد الرحمن بن خير الحجري، اللهم اغفر له وأدخله في رحمة منك وآتنا معه، استغفر له إذا قرئ هذا الكتاب وقل آمين، وكتب هذا الكتاب في جمادى الآخر من سنة إحدى وثلاثين”.
ويوضح الهواري في دراسة نشرت له بمجلة “الهلال” في عدد أغسطس 1930، أن هذا الشاهد كان يمتاز عن بقية الشواهد المحفوظة بدار الآثار العربية بعدة أمور، أولها أنه من الحجر الجيري، حيث كان يندر أن توجد قطعة من هذا النوع من الأحجار استعملت في القرون الخمسة الأولى من الهجرة كشاهد قبر، حيث كان من الشائع استعمال شواهد قبور من الرخام أو الحجر الرملي.
أما الأمر الثاني، فهو أن الشاهد كان مكتوب عليه بشكل غير منتظم، حيث كتبت الحروف في الأسطر العلوية صغيرة بينما ظهرت كبيرة في الأسطر السفلية، كما لم يتوافر في الكتابة التوازي والاستقامة والتناسب، بعكس شواهد القبور في الفترة ذاتها التي كانت أكثر دقة وانتظاما، كما أن بعض الكلمات مقسمة على سطرين، خصوصا السطرين السادس والسابع، في كلمات “كتب” و”الآخر”.
كما سقطت بعض الحروف من الكتابة، مثل حروف الألف المتوسطة في كلمتي “الكتب” و”جمدي” بالإضافة إلى حروف العلة المتوسطة، وهو أمر كان شائعا ومتداولا في صدر الإسلام، حيث كان من المعتاد أن تكتب كلمات “عثمن” و”مرون” وصلح” بدون ألفات، كما كان هناك التباس في تاء التأنيث في كلمة “سنة” التي كتبت بتاء مفتوحة.
هذا فيما يتعلق بالعناصر الشكلية للأثر، فماذا عن مضمونه، أي شخص عبد الرحمن الحجري الذي يوثق الشاهد تاريخ وفاته، فهل كان شخص بارز في التاريخ أم مجرد مسلم عادي عاش في مطلع القرن الهجري الأول في مصر؟
البحث عن “عبد الرحمن الحجري”
الملفت في هذا الاسم “الحجري” -بحسب الهواري- أنه يمكن أن يقرأ بأكثر من طريقة، فإذا قرئ “الحَجْري” فقد يعود إلى واحدة من ثلاث قبائل كانت كل منها تدعى باسم “حَجْر”، في كل من حمير ورعين والأزد، أما إذا قرئ “الحُجْري”، فقد يكون نسبة إلى مكان في اليمن يدعى “حُجْر”.
وقد رجح حسن الهواري قراءة الاسم “الحَجْري” نسبة إلى قبيلة “حَجْر” الأزدية، والسبب في ذلك أن بعض أبناء هذه القبيلة كانوا ضمن جيش عمرو بن العاص، وكانوا ضمن جنوده الذين قرروا أن يقيموا في الجيزة عام 21هـ بعد الانتهاء من فتح الإسكندرية.
واعتبر الهواري بناء على ذلك، أن عبد الرحمن الحَجْري هذا قد يكون واحدا من أبناء هذه القبيلة التي هبطت مصر منذ الفتح وسكنت الجيزة، وأنه توفي عام 31هـ ودفن بالقرافة بالقرب من الفسطاط، مشيرا بقوله “ربما كان طفلا أو رجلا عاديا مات بعد الفتح بعشر سنوات”.
ومما جعل الهواري يتمسك بهذه الفرضية أكثر، أنه عثر داخل مجموعة الشواهد ذاتها التي كانت موجودة بدار الآثار العربية، على شاهد قبر آخر يرجع لسيدة تدعى “شادة بنت محمد الحجري” متوفاة في سنة 228هـ، معتبرا أن ذلك دليلا على أن أفرادا من هذه القبيلة كانوا ما يزالون موجودين حتى سنة 228هـ بالفسطاط.
إثبات عمر الأثر
من شدة قدم هذا الأثر، ظن البعض أنه ربما نقش في عام 131هـ، وليس عام 31هـ، وأنه ربما سقطت كلمة “مئة” أو كتبت بشكل غير واضح، إلا أنه يمكن التأكد من عدم صحة هذه الفرضية بمجرد النظر للنقش بدقة، حيث لا يظهر أن كلمة “مئة” قد وردت في النص إطلاقا ولا حتى أي خدوش قد توحي بأن المقصود منها هذه الكلمة، ما يعني أن كاتب النص تعمد بشكل واضح أن يؤرخه بتاريخ 31هـ.
هذا التاريخ جعل الهواري يبدأ عملية بحث موسعة، لإثبات أن هذا الأثر هو أقدم أثر إسلامي مكتشف في العالم حتى تاريخ نشره لدراسته، أي في عام 1930، لذا قام بمقارنة هذا الشاهد بكل النقوش والآثار والكتابات الأخرى المكتشفة حتى ذلك التاريخ والتي يرجع عمرها إلى الحقبة ذاتها.
وتوصل الهواري إلى أن كل النقوش المكتشفة السابقة في التاريخ لهذا الشاهد، كانت من العصر الجاهلي، وهي ثلاثة فقط، أقدمها “شاهد قبر امرئ القيس” الذي يعود تاريخه إلى سنة 328م، ثم “نقش زيد” المؤرخ بعام 512م، وهو نقش كتب بثلاث لغات العربية واليونانية والسريانية، ثم يليهما “نقش حران” المؤرخ بعام 568م، ويظهر بوضوح أنها جميعا سابقة لظهور الإسلام، أي لا يمكن اعتبارها آثار إسلامية، بل عربية فقط.
أما بعد ظهور الإسلام، فلم يكن قد اكتشف حتى عام 1930م، إلا عشرون نقش من القرن الأول الهجري، أقدمها كان يعتقد أنه يعود إلى عام 22هـ إلا أن دراسته بشكل علمي أثبتت أنه يصعب الوثوق في هذا التاريخ واعتماده تاريخيا لعمر النقش.
أما باقي العشرين نقشا، فكانت جميعها تأتي في تواريخ لاحقة لتاريخ شاهد عبد الرحمن الحجري، وكان أقدمها مؤرخ في سنة 65هـ، وكانت معظم هذه النقوش الإسلامية موجودة في بيت المقدس والفسطاط.
وهو ما جعل الهواري يعتمد بشكل نهائي، شاهد قبر عبد الرحمن الحجري بوصفه “أقدم أثر إسلامي” مكتشف على الإطلاق، في مصر والعالم، وهو العنوان الذي وضعه على رأس دراسته المنشورة بمجلة الهلال.
إلا أن إعادة قراءة ما توصل إليه الهواري، كشفت لنا بعض الأخطاء التي وقع فيها هذا الأثري المصري الهام.
ليس الهواري.. وليست الفسطاط!
أول شيء يمكن ملاحظته من كلام الهواري، أنه أغفل الإشارة إلى من قام باكتشاف هذا الأثر من خلال عمليات الحفر التي كانت تقوم بها دار الآثار العربية في ذلك التاريخ، ولم يشر إليه أبدا في دراسته، معتبرا أنه هو مكتشف الشاهد لمجرد أنه عثر عليه في البدروم، متغافلا عن الشخص الذي قام بالدور الأهم في العثور على هذا الشاهد من الأصل وإحضاره إلى الدار.
النقطة الثانية، أنه يظهر من الفرضيات التي أوردها الهواري، أنه لم يطلع بشكل دقيق على سجلات الدار التي كانت تحوي بيانات شواهد القبور التي عثر عليها في البدروم، والتي قال إنها كانت مسجلة بشكل إجمالي، والتي كان من الممكن أن تدفع الهواري لتغيير الكثير من الفرضيات التي توصل إليها بخصوص هذا الأثر.
أهم الفرضيات التي لم يوفق فيها الهواري، هي القول بأن الأثر تم العثور عليه في مقابر الفسطاط، ولو كان ذلك صحيحا، لكان من البديهي أن يكون المكتشف الأصلي للأثر هو “علي بهجت”، الذي كان أول من قام بعمليات الحفر والتنقيب في الفسطاط، بدءا من عام 1910م، إلا أنه بالرجوع إلى كتاب “حفريات الفسطاط” الذي وثق فيه بهجت ما عثر عليه خلال التنقيب بالفسطاط، نجد أنه لا يشر بأي حال من الأحوال إلى أنه عثر على شواهد قبور، بل كان كل ما عثر عليه عبارة عن قطع من الخزف الملون بالمينا، وقطع الزجاج المطلي، وقطع أثاث وأدوات ولعب أطفال، وأوراق بردي مكتوبة باللغة العربية وتيجان أعمدة رخامية وزخارف جصية.
من بين أخطاء الهواري أيضا، قراءته للاسم المنقوش على الشاهد بقراءة واحدة وهو “الحجري” حيث ظهر أثريون آخرون قرأوا الاسم بطرق مختلفة مثل “الحجاري” أو “الحجزي” أو “الحاجري”، وهو ما كان يمكن أن يساعده في تحديد المكان الأصلي للشاهد بشكل مختلف.
وبالعودة إلى مسؤولي متحف الفن الإسلامي الحاليين، كشف لنا الدكتور عبدالحميد عبدالسلام رئيس إدارة التدريب والنشر العلمي بالمتحف، أن شاهد عبدالرحمن الحجري مسجل برقم (20 / 1508)، وأنه مكتوب في سجل المتحف أنه وارد من جبانة أسوان وليس من الفسطاط، وكان مسؤول التنقيب في هذه الجبانة الأثري “حسين راشد” الذي تولى أمانة المتحف في فترة من الفترات، ما يعني أن راشد هو في الغالب المكتشف الأصلي لهذا الأثر، وأن الاسم المنقوش على الحجر قد يقرأ “الحجري” وقد يقرأ “الحجازي”.
وأوضح عبدالسلام أن شاهد عبد الرحمن الحجري يعد حاليا، أقدم وأول نموذج للكتابات في الفن الإسلامي بمصر مكتشف حتى الآن، وهو ما يجعله واحدا من أهم التحف الفنية الباقية في الفنون الإسلامية، لافتا إلى أن هناك العديد من الدراسات التي أجريت عليه أثبتت قدمه وصحته، بل إن البعض تناوله بالدراسة قبل حسن الهواري نفسه! مثل جاستون فييت الذي كتب عدة مجلدات عن شواهد القبور الإسلامية وكان من بينها شاهد عبد الرحمن الحجري.
وحاليا يوجد شاهد عبد الرحمن الحجري أو “الحجازي” داخل قاعة الكتابات والنقوش في متحف الفن الإسلامي بوصفه أقدم أثر داخل المتحف، إلا أنه رغم هذه القيمة وضع في مكان منزوي لا يسلط الضوء الكافي على قيمته وأهميته، وهو ما يدعونا للمطالبة بنقل هذا الأثر الهام ووضعه في الصالة الرئيسية للمتحف -قاعة رقم 1- ليكون أول ما يشاهده زوار المكان.
اكتشافات ما بعد عام 1930م
بقي في النهاية أن نشير إلى أن هناك بعض الاكتشافات لكتابات ونقوش ظهرت بعد عام 1930م -تاريخ الدراسة التي نشرها حسن الهواري- أزاحت شاهد عبد الرحمن الحجري من على رأس قائمة أقدم الآثار الإسلامية في العالم، لذا اكتفى المتحف بالقول في النص التعريفي المجاور للشاهد بأنه “أقدم تحفة مؤرخة في الآثار الإسلامية بمصر”.
ومن بين هذه النقوش، “نقش زهير” الذي اكتشفه الدكتور علي إبراهيم غبان في عام 1999 في جبل يقع بين “العلا” و”الحجر” بالمملكة العربية السعودية، ويؤرخ هذا النقش لوفاة شخص يدعى عمر في سنة 24هـ، وبحسب الموقع الرسمي لمنظمة اليونسكو على الإنترنت، فإنها تعتبر هذا النقش بمثابة أقدم نقش إسلامي في العالم، وأنه يؤرخ لوفاة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث ضمته إلى قائمة الذاكرة الإنسانية، إلا أن هناك بعض الشكوك ثارت حول هذا النقش بالرغم من اعتماد اليونسكو له، أهمها أن حروف النقش كانت منقوطة، وهو ما يخالف الشائع من أن وضع النقاط على الأحرف لم يظهر إلا في عهد الأمويين.
كما عثر على نقش آخر بالقرب من ينبع في السعودية، كتب بخط كوفي، لم يشتمل سوى على كلمتين فقط “كتب سلمى” وبجوارها رقم 23، وهو ما اعتبره البعض تأريخ لنقش يعود إلى عام 23هـ، إلا أن عدم وضوح النقش وقلة المكتوب فيه، جعلته غير معتمد بشكل نهائي كأقدم نقش إسلامي مؤرخ.
* نشر هذا التحقيق بمجلة “أخبار الأدب” في عدد 12 أبريل 2020.