نشأت السينما كفن يحاول تسجيل لحظة ومن ثم إعادة خلقها مرة تلو الأخرى؛ ليصبح بمقدورنا تثبيت تلك اللحظات وتسجيلها وإعادة رؤيتها، فنستطيع السيطرة عليها بواسطة طبع تلك الثواني أو الدقائق أو الساعات على شريط فيلم، مما جعل من أهم ما أحدثته السينما –بخلاف جمالياتها والمتعة المتحققة من خلال المشاهدة- فكرة تثبيت الزمن!
وهذا ما يحدده الشريط السينمائي بشكل حاسم في اختلافه عن بقية الفنون الأخرى بخلق خصوصية للصورة السينمائية.
من المعروف أن أول عرض سينمائي في العالم أتيح للمتفرجين مقابل تذاكر مدفوعة الثمن كان بباريس في الصالون الهندي بمقهي “جراند كافية” يوم 28 ديسمبر سنة 1895 وكان العرض يتضمن عددا من الأفلام القصيرة التى لا يزيد طول أيا منها على دقيقة واحدة، وكانت تتم إعادة العرض كل نصف ساعة أمام متفرجين آخرين.
واعتبر هذا التاريخ بداية الإنتاج السينمائي في فرنسا وظهور الفن السابع وتصديره للعالم.
ويُعد الأخوان لوميير The Lumière Brothers رائدا اختراع جهاز العرض السينمائي، هما الأيقونة أو كما يُقال الآباء الروحيين لفن السينما في العالم، فكانا أول من صنعوا آلة للتصوير وآلة للعرض معًا، وهي الآلة التي كان يطلق عليها حينها اسم (السينماتوغراف) في عام 1895 في فرنسا، والتي اشتق منها كلمة (سينما) الدارجة حتى والآن، وهى كلمة يونانية الأصل.
وكان اهتمام “لوميير” موجه إلى تسجيل الحركة، فكان أي شيء يتحرك يصلح لأن يكون مادة لأفلامهم، فكانوا يضعون آلات التصوير في الهواء الطلق ويثبتونها على حامل، ويتركونها دائرة حتى ينتهى شريط الخام في الفيلم، فكان أول أفلامهم وأول فيلم في التاريخ هو “الخروج من المصنع”، لمجموعة من العمال يغادرون المصنع بعد انتهاء يوم عملهم، ويعد أول فيلم وثائقي أيضا، لأنه أظهر كيف كان شكل العمال والموظفين وشكل ملابسهم في تلك الفترة.
وكذلك فيلم “وصول القطار”، الذي شاهده الجمهور لأول مرة فظنوا أن القطار الذي يقترب نحوهم في الشاشة سيقوم بدهسهم، فخافوا وحاولوا الهرب، ليكتشفوا في النهاية أنها محض صورة متحركة!
كما قاموا بتصوير طفل على مائدة الطعام، ومجموعة رجال يلعبون الورق وغيرها من اللقطات الحية المتحركة مسجلين بها أحداث حياتية اعتيادية، والتي كانت بمثابة بذور الواقعية في السينما.
كانت مصر في وقت اختراع السينما، بؤرة اهتمام عالمي، حيث وصلت إلى الإسكندرية أول بعثة لإقامة أول عرض سينمائي بها، ونشرت ذلك مجلة “لاريفوم” الفرنسية في عددها الصادر في صباح الجمعة 6 نوفمبر 1896 ونصحت قراءها بمشاهدة هذا الإنجاز الأخير الدال على التواصل الإنساني.
وأقيم العرض السينمائي الأول في بورصة “طوسون باشا ” من الخامسة مساءا وحتى الحادية عشر، مع تكرار العرض مرة كل نصف ساعة، وبعدها بأيام انتقل العرض إلى القاهرة ونشرت جريدة “المؤيد ” في عددها الصادر في 30 نوفمبر سنة 1896 تقول: “في الأمس في حمام شنيدر بعمارة حليم باشا شاهدنا الصور المتحركة الأولى الواردة من أوروبا في مصر”.
ومنذ ذلك التاريخ البعيد بدأت صناعة السينما، أنشئت الاستوديوهات ودارت الكاميرات وأنتجت أعمال سينمائية مليئة بفن أصحاب مواهب حقيقية راصدة وموثقة على مدى تاريخها لكل مشاهد الحياة على أرض مصر.
المهرجانات السينمائية المصرية
بينما كانت بدايات السينما المصرية متزامنة مع بدايات السينما فى العالم، تأخرت فكرة الاحتفاء بالإنتاج السينمائي سواء المحلي أو العالمي بإقامة مهرجانات بفعاليات متعددة عن الأفلام وصانعيها، فشهدت عدد من عواصم ومدن العالم تدشين مهرجانات سينمائية ضخمة وواسعة الانتشار والتأثير منذ الثلاثينيات والأربعينيات، فى حين تأخرت مصر فى التفكير فى تأسيس مهرجان فني سينمائي دولي يضعها على خارطة الدول الكبرى في صناعة وتقدير السينما حتى السبعينات، حيث أطلقت أول دورة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
إلا أن مهرجان القاهرة السينمائي لا يمكن اعتباره أول مهرجان سينمائي مصري –على إطلاق العبارة- حيث سبقته بعد المحاولات لإقامة مهرجانات فنية سينمائية في مصر.
فقد احتفت مجلة الكواكب سنة 1956 عبر إصدار عدد خاص، بمهرجان أقامته مصلحة الفنون التابعة لوزارة الإرشاد القومي في نفس العام، حيث أشارت إلى أن مهرجان وزارة الإرشاد لم يكن المهرجان السينمائي الأول، وأنه سبق مهرجان آخر للسينما في مصر أقيم عام 1936، ثم تلاه مهرجان ثان عام 1938 من قبل جماعة كانت تطلق على نفسها اسم “جماعة الاقتصاد القومي” حيث كان ينظر إلى السينما حينها على أنها دعامة من دعائم الاقتصاد.
وأشارت “الكواكب” إلى أن هذين المهرجانين لم تكن لهما صيغة رسمية كالمهرجان الذى أقيم عام 1956، ولكن كانا يشبهان ندوتين عقدت كل منهما فى مكان عام وشهدهما المشتغلون بالسينما وهواتها وجمهورها.
وذكرت المجلة أن عبدالرحمن باشا رضا كان من المعنيين وقتها بالاقتصاد القومي، فعرضت عليه الجماعة رئاسة المهرجان وتولى بنفسه الدعوة لحضور أول مهرجان سينمائي يعقد فى مصر، واختيرت دار سينما الأزبكية مكانا لهذا المهرجان الذى أقيم في 23 يناير عام 1936.
فيما لم تكن لجنة المهرجان خصصت جوائز أدبية أو مادية لأحسن الأفلام التى عرضت فى هذا الوقت، وكان من المعروف حيننها أن من أبرز الداعمين لهذا المهرجان وقتها، المنتجة والممثلة المصرية عزيزة أمير.
مهرجان القاهرة السينمائي
ولم ترق تلك المحاولات المبكرة إلى وصف المهرجان السينمائية بشكلها الذي نعرفه حاليا، حتى بدأت الخطوة الجادة من قبل كمال الملاخ في أوائل سبعينيات القرن العشرين، مع تأسيس جمعية “كتاب ونقاد السينما المصريين” عام 1973، بالتزامن مع حرب أكتوبر، حيث حرص الملاخ عقب تأسيس الجمعية على تأسيس مهرجان سينمائي دولي يحمل اسم “القاهرة” عقب ذلك التاريخ بثلاث سنوات، لتنطلق الدورة الأولى من المهرجان عام 1976.
كان الهدف الأهم لدى كمال الملاخ من إنشاء المهرجان -حتى في ظل غياب الإمكانيات المادية التي تساعد على إقامته بالشكل اللائق- هو حق السبق لمصر دون إسرائيل في جعل أول مهرجان دولي للسينما في المنطقة، مصري، وسريعا تم تطوير الفكرة لتأخذ حيز التنفيذ بمساعدات فردية من قبل بعض أصدقاء الملاخ من الفنانين والمثقفين وبعض المسؤولين بالدولة بشكل شخصي.
البداية كانت قوية وبخطوات سريعة تليق بالحدث، فبمطالعة أعداد صحيفة الأهرام نهاية السبعينيات، يتضح أن التجهيز للمهرجان بدأ فى مايو من العام ذاته.
فقد نشرت الأهرام في عددها الصادر بتاريخ 23 مايو 1976، موضوعا تحت عنوان “اعتراف الاتحاد الدولي بمهرجان القاهرة السينمائي”، قالت فيه إنه”تم أول أمس تسجيل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأول الذي تنظمه الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، باعتباره أول مهرجان دولي يقام في إفريقيا، ووافق على توزيع جوائزه الدولية، حيث تم تشكيل لجنة دولية من كبار الشخصيات السينمائية العالمية لمشاهدة الأفلام وتقرير الجوائز، فيما أبرقت أمس أمريكا وفرنسا والجزائر وإنجلترا وإيطاليا وتونس واليونان ويوغوسلافيا والمجر والسويد، بموافقتهم على الاشتراك بالأفلام”.
ليصبح بذلك مهرجان القاهرة أول فعالية سينمائية تحمل الصفة الدولية في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث انطلقت دورته الأولى في 16 أغسطس 1976.
ونصت لوائح المهرجان في نسخته الأولى، على منح الفيلم الفائز الجائزة الكبرى، وكانت عبارة عن تمثال حتحور من تصميم مأمون الشيخ والمثال منير زكي، بينما تم اختيار الكاتب الكبير يوسف السباعي، الرئيس الفخري للجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، ومحمد رياض، وزير الإعلام بالنيابة، وسعد الدين وهبة، وكيل أول وزارة الثقافة، لتقديم الجوائز.
وعن أماكن عرض الأفلام المشاركة، فقد جاءت العروض الخاصة بالضيوف والصحفيين السواريه بالهيلتون، أما الحفلات الماتينية كانت بالشيراتون، بينما عرضت أفلام المهرجان للجمهور في سينمات قصر النيل والليدو، أما سينما رمسيس فقد اقتصرت على عروض الأفلام العربية المشاركة.
وكانت من المفارقات المهمة، هو أن دولة السودان شاركت في المهرجان حينها، بأول إنتاج سينمائي سوداني على الإطلاق، وهو فيلم “عرس الزين” عن رواية أديب السودان الطيب صالح ومن إخراج المخرج الكويتي خالد صديق، الذي استضافته جمعية كتاب ونقاد السينما مع بطلي الفيلم تحية الزروق وعلي المهدي للحديث عن تجربتهما السينمائية الهامة، فيما عرض للإمارات والسعودية أيضا أفلام تسجيلة قصيرة على هامش المهرجان.
ووصل عدد الدول المشاركة في النسخة الأولى من المهرجان 33 دولة، بينها الاتحاد السوفيتي والصين واليابان حتى فرنسا وبريطانيا وأمريكا مع يوغوسلافيا وإيران والهند وباكستان وأستراليا، وبلغ عدد الأفلام التي تقدمت للمشاركة في أقسام المهرجان الثلاث أكثر من 82 فيلما، حيث عرض 28 فيلما منهم ضمن المسابقة الرسمية، مما أضفى ثقلا للمهرجان الوليد منذ دورته الأولى.
وفى يوم 16 أغسطس كان حفل الافتتاح بدار سينما قصر النيل بحضور رئيس الوزراء ممدوح سالم، الذي أعلن بدء الدورة الأولى من مهرجان القاهرة السينمائي، في حضور وفود سينمائية من كل أنحاء العالم.
بدأ حفل الافتتاح الذي قدمه الفنان سمير صبري في تمام الثامنة، بكلمة من رئيس جمعية كتاب ونقاد السينما كمال الملاخ، ثم بدأت وفود الدول في الصعود إلى المنصة تباعا، وصولا للوفد المصري المتمثل في أبطال فيلم المذنبون المشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان.
استمرت فعاليات المهرجان الأول لمدة سبعة أيام، واكتسب حالة من الزخم السينمائي والفني، وحالة من التوهج العام شملت مدينة القاهرة بأكملها.
وكانت تكريمات الدورة الأولى للمهرجان للشخصيات التى أثرت بأدوارها في السينما، فكانت من نصيب نور الشريف وكمال الشناوي عن فيلم الكرنك، وماجدة عن فيلم النداهة، وحسين كمال عن مولد يادنيا، وتكريم نجيب محفوظ عن الكرنك، ويوسف إدريس عن النداهة، ويوسف السباعي عن حوار فيلم “حتى آخر العمر”، ونهاد بهجت عن ديكور “ڤيڤا زالاطا”، بالإضافة لجائزة تقديرية لشادية عن بطولتها فيلم “أمواج بلا شاطئ”، وثلاث جوائز تقديرية إلى كل من الفنانين يوسف وهبى وعبدالوارث عسر وبهيجة حافظ.
واختتمت الدورة الأولى بحفل إعلان الجوائز وتكريم الفائزين الذى أقيم بالشيراتون وحضره عددا كبيرا من نجوم السينما المصرية والعالمية.
حيث بدأ حفل الختام بتقديم أعضاء لجنة التحكيم لجمهور الحاضرين، ثم قام رئيس اللجنة الأمريكي توماس كيرتس بإعلان نتيجة المسابقة، قبل أن يوزع جوائزها يوسف السباعي وحصد الفيلم المصري المذنبون جائزتين، أحسن ممثل لعماد حمدي، والأخرى جائزة اتحاد النقاد العالمية للمخرج سعيد مرزوق.
أزمة فيلم “المذنبون”
لم تمر الرقابة على المصنفات الفنية في مصر بأزمة كالتي مرت بسبب فيلم “المذنبون”، فقد أدى سماح الرقابة للفيلم بالعرض إلى معاقبة كل الكوادر الرقابية المسؤولة عن هذا السماح، حيث تم فصل 15 موظف بقرار مباشر من الرئيس السادات، كما أدى أيضا إلى صدور قوانين رقابية جديدة.
عرض الفيلم في المسابقة الرسمية لأولى دورات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي واستقباله بشكل جيد من النقاد العالميين جعل الرقباء يميلون إلى السماح بعرض الفيلم، خاصة أن فيلم الكرنك والذي دارت حوله نفس المشاكل الرقابية فى نفس الوقت مع فيلم المذنبون كان قد تقرر عرضه بقرار سياسي.
ولكن تقدير الرقباء لهذا الوضع كان خاطئا، حيث فوجئوا في النهاية بردود الأفعال الرسمية الغاضبة التي انتهت إلى هذا القرار السابق، بحق الفيلم الذي كتب قصته نجيب محفوظ وكتب السيناريو والحوار له ممدوح الليثي، وكان رابع فيلم روائي يخرجه سعيد مرزوق.
وكانت الجوائز الكبرى من نصيب ألمانيا وإيطاليا كما أهدت اللجنة مع الجمعية جائزتين خاصتين إلى كلوديا كاردينالي والمخرج الإيطالي العالمي ألبرتو لاتوادا، تقديرا لمشوارهما الفني.
ثم أقيم حفل استقبال بعد إعلان الجوائز أحياه بالغناء كل من شادية وعبد الحليم حافظ، ليختتم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي دورته الأولى، على وعد بتجديد اللقاء بالسنة التالية.
وهو اللقاء السنوي الذي ظل يتجدد منذ ذلك التاريخ وحتى وصلنا إلى دورته الثالثة والأربعين، ليظل المهرجان منذ ذلك التاريخ يحمل في طياته سحر السينما والجمال ما بين الماضي والحاضر وخصوصية القاهرة وخصوصية مهرجانها دون غيره.
وفيما يلي مجموعة من الصور للدورة الأولى وأهم حضورها والفائزين فيها والفعاليات التي أقيمت بها: