في مطلع عام 1922، لم يكن العالم يعرف شيئا عن ملك مصري يدعى (توت عنخ آمون)، ولكن بنهاية العام ذاته، كان توت قد أصبح أشهر ملوك مصر القديمة على الإطلاق، وواحدا من أكثر الشخصيات التاريخية المثيرة للاهتمام، بعدما نجح المستكشف الإنجليزي (هوارد كارتر) في العثور على مقبرته بكامل محتوياتها دون أن يمسها اللصوص، حيث تعد هذه المقتنيات حاليا، أهم كنز أثري عثر عليه يوما.
ونتيجة هذا الإنجاز الضخم، أصبح كارتر أحد أهم مستكشفي القرن العشرين، بعدما أهدى العالم كنوز توت عنخ آمون التي أصبحت أيقونة للحضارة المصرية عالميا، حتى أن منزله بالأقصر الذي قضى فيه 15 عاما يبحث عن قبر الملك المصري الشاب، تحول حاليا إلى مزار سياحي يحرص السائحون ودارسو الآثار والمصريات على زيارته والتجول داخله.
إلا أن الانهبار بهذا الإنجاز، جعل الكثيرين يغفلون عن أخطاء كارثية ارتكبها كارتر داخل المقبرة التي حملت رقم (KV 62) في وادي الملوك بالأقصر، أخطاء تكاد تخرجه من دائرة المستكشفين إلى دائرة أخرى لا يقبع داخلها إلا اللصوص وتجار الآثار والمزورون!
الشكوك حول الأساليب التي اتبعها كارتر في البحث والعثور على المقبرة، ظهرت منذ الأيام الأولى للاكتشاف، كما طالت هذه الشكوك أيضا اللورد الإنجليزي كارنارفون شريك كارتر وممول عملية التنقيب، إلا أنه مع مرور الوقت، وبعدما انبرى عدد من علماء المصريات لتحليل تجربة المستكشف الإنجليزي والبحث في التفاصيل المعلنة وغير المعلنة، خاصة في العقود الأخيرة، تحولت هذه الشكوك إلى أشبه ما يكون بحقائق دامغة وصادمة!
في السطور التالية، ننقب في تفاصيل هذه القصة، بهدف رسم صورة أقرب للحقيقة لما حدث في صباح يوم 4 نوفمبر من عام 1922، التاريخ الرسمي لاكتشاف أشهر مقبرة في العالم.
الرواية الرسمية.. هكذا تحدث كارتر
في كتابه “اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون” روى كارتر تفاصيل اكتشافه التاريخي، وهي الرواية التي اعتُمدت بين العلماء بشكل رسمي لسنوات عدة، والتي يقول فيها إنه عاد إلى الأقصر في 28 أكتوبر عام 1922 مع بداية موسم التنقيب -الذي يبدأ في فصل الشتاء ويستمر قرابة 7 أشهر- ثم بدأ أعمال الحفر يوم 1 نوفمبر في منطقة وادي الملوك بالقرب من مقبرة رمسيس السادس.
في يوم 4 نوفمبر، وأسفل عدد من أكواخ العمال الذين شاركوا في عمليات حفر سابقة، عثر كارتر على أول درجات السلم المؤدي إلى المقبرة التي أطلق عليها اسم (KV 62)، وفي اليوم التالي، وصل الحفر إلى حائط مسدود ومغطى بالجبس وعليه خاتم ملكي، ما يعني أن المقبرة لم تفتح من قبل.
عند هذه المرحلة أوقف كارتر الحفر، وأرسل برقية إلى اللورد كارنارفون بإنجلترا يقول فيها “أخيرا وصلت إلى أعظم اكتشاف، وهو مقبرة عليها خاتم ملكي سليم”، اللورد الذي كان يعاني من المرض لم يستسلم لآلامه واصطحب ابنته وسافرا سريعا صوب مصر، ليصل إلى الأقصر في 23 نوفمبر 1922.
بعدها بثلاثة أيام، وبالتحديد في 26 نوفمبر، توجه كارتر إلى المقبرة بصحبة كارنارفون، وأحدث ثغرة في الحائط المختوم، ومد ذراعه في الثغرة ممسكا بشمعة، وعندما سأله كارنارفون بلهفة: “هل ترى شيئا؟ أجاب “أشياء.. أرى أشياء رائعة”، ثم توالت عمليات التوغل داخل المقبرة واستخراج وتسجيل كنوزها المذهلة.
التاريخ الفعلي للاكتشاف
أول التفاصيل التي ثارت حولها الشكوك، هو التاريخ الحقيقي لاكتشاف المقبرة، وكان أول من أثار هذه القضية، هو ألفريد لوكاس أحد الموظفين الذين عملوا مع كارتر أثناء الاكتشاف.
تقول مجلة ديرشبيجل الألمانية في تحقيق موسع لها نشر عام 2010 حول قصة العثور على كنوز توت عنخ آمون، إن لوكاس أصدر تقريرا عام 1947 عن “المعلومات الخفية” التي عرفها عن اكتشاف المقبرة بحكم قربه من كارتر، والتي لم يكن أحد يعرفها حتى ذلك الوقت، وقال في تقريره إن كارتر كذب بشأن تاريخ الاكتشاف، مؤكدا أنه عثر على المقبرة قبل ستة أشهر على الأقل من التاريخ المعلن! ودليله على ذلك أنه شاهد كارتر بنفسه وهو يفتح باب المقبرة ويدخل إليها في منتصف عام 1922!
وتضيف ديرشبيجل أن تقرير لوكاس لم يحدث الجدل المتوقع منه، وذلك بسبب أنه نشر في إحدى المجلات العلمية في القاهرة عام 1947 التي لم تكن ذائعة الصيت، لذلك ضاعت اعترافات مساعد كارتر دون أن يلتفت إليها أحد.
التشكيك في تاريخ الاكتشاف يذهب إلى أبعد من ذلك في بعض التقديرات، ففي كتابه “أشهر سرقات المتاحف” يروي الدكتور صبحي الشاروني تفاصيل تحقيق بحثي علمي أجراه عالم الآثار جيرالد فاريل وعالمة المصريات لورين إيفانز خلال السنوات الماضية، توصل إلى أن كارتر اكتشف المقبرة قبل التاريخ المعلن بقرابة 9 سنوات!
يقول العالمان في تحقيقهما، إن كارتر أخفى اكتشافه بعد العثور عليه، للقيام ببعض التحركات والاتصالات “المريبة”، وعندما قرر أخيرا الإعلان عن اكتشافه، اندلعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914، حيث انقطعت المواصلات البحرية وأعلنت إنجلترا الحماية على مصر، فظل كارتر مخفيا اكتشافه على أمل أن تتحسن الأوضاع سريعا وينتهي التوتر السياسي والعسكري، إلا أن الأمور تفاقمت وتوقفت عمليات التنقيب عن الآثار بسبب الحرب، وعندما أعلن عن انتهاء الحرب وكاد كارتر يعود للتنقيب ليعلن عن اكتشاف المقبرة، توترت الأوضاع في مصر مرة أخرى بسبب اندلاع ثورة 1919، ولم تستقر الأمور بين إنجلترا ومصر إلا بعدما أصدرت إنجلترا تصريحها باستقلال مصر في 28 فبراير سنة 1922، وفور انتهاء فصل الصيف وبدء موسم التنقيب الجديد، وجد كارتر الفرصة أخيرا لإعلان الاكتشاف!
ما يقوي فرضية تزوير تاريخ الاكتشاف، هو ما يؤكده الكاتب الكبير محسن محمد في كتابه “سرقة ملك مصر”، حيث يقول إنه في عام 1918، وأثناء عمليات الحفر بحثا عن المقبرة، وعندما كان كارتر على بعد سنتيمترات من المكان الذي عثر فيه على المقبرة، قرر فجأة تغيير مكان الحفر وطالب رئيس عماله بالتوجه إلى مكان آخر بعيد! وعندما سئل لاحقا عن سبب التغيير، زعم أنه خشي أن يسد التراب الناجم عن الحفر بعض قبور الملوك الأخرى المكتشفة ويمنع السياح من دخولها!
ما يدعم ذلك أيضا، أنه عندما يئس اللورد كارنارفون من أن يجد كارتر المقبرة قرر وقف التمويل في بداية عام 1922، إلا أن كارتر سارع بالسفر إليه وتوسل له حتى يعيد إليه التمويل لموسم واحد فقط، لنفاجأ بأن الأحداث سارت بوتيرة سريعة غير متوقعة، حيث عثر كارتر على المقبرة فور بدء موسم الحفر في مطلع نوفمبر من العام ذاته وبعد أربعة أيام فقط من بدء عمليات التنقيب! وهو ما اعتبر واحدا من أقصر مواسم التنقيب عن الآثار في تاريخ مصر باعتراف كارتر نفسه في كتابه.
الجدار الشمالي في (الغرفة J)
يتفق أصحاب النظرية القائلة بأن كارتر اكتشف المقبرة قبل التاريخ المعلن رسميا، على أنه عندما عثر عليها للمرة الأولى ودخلها، لم يدخلها من الباب الحالي المفتوح للجمهور، وإنما دخلها من باب خلفي خفي، وصل إليه عن طريق الممرات التي تربط بين عدة مقابر في الجبل.
وهنا يشير فاريل وإيفانز في تحقيقهما، أن كارتر بعدما دخل المقبرة من بابها الخلفي وتجول فيها وعرف محتوياتها، قام بإغلاقه بإحكام ولكي يخفي آثار تردده على المقبرة، اضطر إلى أن يبني حائطا بين المقبرة والممرات ويرسم عليه بالأسلوب الفني المصري القديم رسوما جنائزية، إلا أن فاريل وإيفانز لا يوضحان كيف خرج كارتر من المقبرة في النهاية بعدما أغلقها وسد الجدار ورسم عليه من الداخل؟!
مجسم ثلاثي الأبعاد لمقبرة توت عنخ آمون بوادي الملوك بالأقصر
فكرة وجود باب آخر وتزوير كارتر لتفاصيله بهدف إخفائه، يؤكدها أيضا لوكاس مساعد كارتر، الذي يقول إنه بعدما شاهد كارتر يدخل المقبرة ويخرج منها، قام بترميم وإخفاء الأجزاء التي كسرها في المقبرة من أجل دخولها، مؤكدا أنه شاهد كارتر يختم الجدران بختم مصطنع مشابه لختم توت عنخ آمون بطريقة خادعة ليوحي بأن الجدار لم يفتح من قبل.
الجدار الذي هدمه كارتر لدخول المقبرة لأول مرة ثم أعاد بنائه لإخفاء آثاره، يعرف باسم “الجدار الشمالي في الغرفة J”، الغرفة المخصصة لدفن الجثمان، وهو جدار ثارت حوله كثير من الشكوك بسبب الرسوم الموجودة عليه.
ومن أشهر من تحدثوا عن تلك النقطة، عالم المصريات البريطاني نيكولاس ريفز، الذي يقول في كتابه “The Complete Tutankhamun” إن الجدار الشمالي لغرفة الدفن يظهر بوضوح أنه تم ترميمه بشكل غير جيد، وهو ما يعني أن كارتر فعل شيئا على الحائط ثم أخفى فعلته.
ويوضح ريفز أن تحليل الرسومات الجنائزية الموجودة على هذا الجدار يظهر اختلافها عن باقي رسومات ونقوش المقبرة، سواء من ناحية درجات الألوان والأصباغ المستخدمة -خاصة اللونين الأخضر والأصفر اللذين ظهرا بدرجات لمعان أكبر وأوضح- أو من ناحية تحليل الأسلوب الفني للرسم الذي يظهر وكأن من قام برسم لوحات الجدار الشمالي فريق مختلف تماما عمن قام برسم باقي جدران المقبرة!
ولكن هل كان كارتر قادرا فعلا على رسم نقش مخادع إلى هذه الدرجة ولم يكن من السهل اكتشافه إلا عبر إجراء تحليل دقيق من قبل المتخصصين؟
الإجابة يمكن اكتشافها بسهولة، إذا ما عرفنا أن كارتر بدأ وهو في السابعة عشر من عمره، وبالتحديد في عام 1891 بدراسة النقوش والرسوم على جدران المقابر المصرية القديمة، خاصة مقابر أمراء مصر الوسطى في بني حسن جنوب مدينة المنيا، حيث شارك في عملية حصر وتسجيل نقوش تلك المقابر، وقد أنجز كارتر هذه المهمة كما يجب، نتيجة مهارته في الرسم التي تعلمها من أبيه الذي لقنه فن الرسم بالألوان المائية في صغره.
دليل ثان يشير إلى أن هناك مدخل آخر خفي للمقبرة غير المدخل الذي عثر عليه كارتر ومفتوح حاليا للجمهور، يتمثل في أن بعض قطع الأثاث الجنائزي الموجودة داخل المقبرة يستحيل دخولها من الباب الحالي بسبب حجمها الكبير، حيث تقول لورين إيفانز أن عرض الباب الحالي يقل قرابة نصف متر عن طول المحور بين عجلتي العربة الملكية التي كانت داخل المقبرة، معنى ذلك أن العربة إما أنها قد أدخلت المقبرة مفككة وتم تجميع أجزائها في الداخل -وهو أمر غير مألوف في المراسم الجنائزية المصرية، كما أنه يشكل إهانة للملك وغير مسبوق ولا وارد عند قدماء المصريين- وإما أنها أدخلت من باب آخر أكثر اتساعا.
ولكن يبدو أن تسلل كارتر إلى المقبرة سرا، لم يتوقف حتى بعد الإعلان عن اكتشافها! حيث تقول بعض المصادر إنه في يوم 26 نوفمبر 1922، وبعدما حضر ممول عملية التنقيب اللورد كارنارفون وابنته الليدي إيفلين وشاهدوا جميعا المدخل الخارجي للمقبرة بعد إزالة الركام عنه، توقفت عمليات التنقيب لحين حضور مسؤول من مصلحة الآثار المصرية في اليوم التالي ليتم فتح المقبرة في وجوده طبقا للوائح.
إلا أن كارتر وكارنارفون وابنته، تسللوا إلى المقبرة سرا في تلك الليلة، وأصبحوا أول من يدخل المقبرة فعليا في العصر الحديث، حيث دخلوا إلى المقبرة زحفا من خلال فتحة صغيرة أحدثوها في أحد الجدران، وتجولوا داخلها حتى وصلوا إلى غرفة الدفن، قبل أن يخرجوا مجددا، لتظهر الفتحة في اليوم التالي وكأنها من صنع لصوص المقابر قبل آلاف السنين!
من سرق مقبرة الملك؟
هنا يظهر سؤال ضروري: إن صحت هذه الشكوك، وكان كارتر قد عثر سرا على المقبرة قبل التاريخ المعلن رسميا، فلماذا أخفى اكتشافه لبعض الوقت؟ وما الفائدة التي عادت عليه من ذلك؟ ولماذا دخل وخرج من المقبرة بعدما أخفى آثار اقتحامه لها؟
الإجابة هي بكل بساطة.. أن كارتر كان لصا!
فقد أكدا فاريل وإيفانز، أن كارتر أخفى اكتشافه وقضى وقتا في التفاوض مع اللورد كارنارفون وربما غيره من الممولين للحفريات أو المتاحف التي تشتري الآثار -وعلى رأسها متحف المتروبوليتان- بهدف تحقيق أكبر مكسب ممكن من الاكتشاف وإخراجه في الصورة التي تفيد كارتر أولا وأخيرا! أي أن كارتر سرق بعض من مقتنيات المقبرة قبل إعلان اكتشافها وقام ببيعها!
وأكبر دليل على صحة اتهام كارتر بالسرقة، هو وجود قطع أثرية ترجع إلى مقبرة توت عنخ آمون موجودة حاليا بعدد من متاحف العالم وأسواق بيع التحف والآثار، بعض هذه القطع حصلت عليها المتاحف قبل التاريخ المعلن للعثور على المقبرة!
يقول الدكتور وسيم السيسي في كتابه “المسكوت عنه في التاريخ” أنه كانت هناك 5398 قطعة أثرية في مقبرة توت عنخ آمون، تمت سرقة كثير منها، مثل بوق إعلان الحرب الموجود الآن في مقر إذاعة BBC بلندن، والخاتم الذهبي الشهير الموجود بمتحف المتروبوليتان في نيويورك، بالإضافة إلى عدد من البرديات التي لم يعثر عليها حتى الآن، حتى أن “مرقص باشا حنا” -مدير مصلحة الآثار في وقت العثور على المقبرة- اضطر إلى منع كارتر من التنقيب بعد عدة أشهر على اكتشافه للمقبرة، بعدما فاحت رائحة سرقاته!
وهو نفس ما يؤكد ريفز الذي يقول إن 60% من الحلي الصغيرة والمجهورات التي كانت داخل المقبرة قد ضاعت!
بالدخول إلى الموقع الإلكتروني لمتحف المتروبوليتان والبحث بين مجموعات المتحف، يمكن للقارئ أن يعثر بكل سهولة على عدد من القطع الأثرية التي ترجع إلى مقبرة توت عنخ آمون.
أهم هذه القطع، الخاتم الذهبي للملك توت عنخ آمون، والذي يقول المتحف أنه حصل عليه كهدية من إدوار هاركنس عام 1922 -نفس عام العثور على المقبرة!- وهي القطعة التي يتفق جميع الأثريين على أن مكانها الأصلي هو مقبرة الملك، أي أنها بكل بساطة قطعة مسروقة! بالإضافة إلى قطع أخرى، منها قلادة مميزة مصنوعة من الفخار يقول المتحف إنه اشتراها من مصدر مجهول عام 1966.
كما يمكن العثور على تمثال أوشابتي مصنوع من الخزف الأبيض موجود ضمن مقتنيات متحف اللوفر بباريس، وهو واحد من التماثيل الجنائزية التي كانت موجودة داخل مقبرة توت عنخ آمون لخدمة الملك في العالم الآخر، والتي يقول المتحف إنه حصل عليها عام 1967، بالإضافة إلى قطع أخرى منها جعران لازوردي حصل عليه عام 1938، وهو ما يرجح أن نعثر على قطع أخرى شبيهة إذا ما بحثنا في مواقع متاحف عالمية أخرى.
محاولة الاستيلاء على نصف المقبرة
ولكن يبدو أن أطماع كارتر لم تتوقف عند قطع الحلي والمقتنيات الصغيرة، بل كان يخطط للاستيلاء على ما هو أكبر، ولكن هذه المرة بطريقة معلنة وأمام أعين العالم!
تقول مجلة ديرشبيجل الألمانية، إن كارتر كان يخطط من البداية -بحسب ما لديها من وثائق- لنقل نصف محتويات المقبرة إلى كل من إنجلترا وأمريكا، إلا أن مصلحة الآثار المصرية أفسدت عليه مخططاته.
ولكن كيف كان يأمل كارتر في تنفيذ هذه الخطة الغريبة وهي الاستيلاء على نصف محتويات المقبرة بكاملها؟
هذا ما يوضحه محسن محمد الذي يقول في “سرقة ملك مصر” إن تصريح التنقيب الذي حمله كارتر كان ينص على أن يتم تقسيم تحف المقابر التي يتم العثور عليها مناصفة بين مصلحة الآثار وصاحب الترخيص مكافأة له على تعبه، وذلك في حال ثبوت تعرض المقبرة للسرقة في أزمان سابقة، أما في حال اكتشاف مدفن سليم وكامل فإنه يؤول بكامل محتوياته إلى السلطات المصرية.
وبهدف الاستفادة من هذا البند، تقول ديرشبيجل إن كارتر زعم بأن لصوصا اقتحموا المقبرة “مباشرة بعد انتهاء طقوس الدفن”، بمساعدة من المسؤولين عن حراستها، ونهبوا بعض المقتنيات من مختلف غرف المقبرة، وبعدها بسنوات، تسلل إلى المقبرة لصوص آخرون سرقوا زيوت التجميل.
ولكي يثبت كارتر هذه الادعاءات قال إن الأبواب التي مر من خلالها حتى وصل إلى الغرف، كانت أبواب سبق وفُتحت عنوة، قبل قيام الكهنة بإعادة إغلاقها وختمها مرة أخرى، بل إنه تمادى ووصف مجموعة من القطع الأثرية التي سرقها اللصوص مثل تمثال من الذهب الخالص يبلغ طوله 30 سم، مضيفا أن اللصوص حاولوا كذلك سرقة مزهريات مصنوعة من المرمر ولكنها سقطت منهم داخل المقبرة قبل خروجهم.
عالم المصريات الألماني رولف كراوس، قال لديرشبيجل، تحليلا خاصا فيما يتعلق بمسألة تعرض المقبرة للسرقة في الماضي، مفاده أن هذا الادعاء يكاد يكون ملفقا بالكامل!
وأوضح كراوس، أن كارتر -وفي سبيل إثبات تعرض المقبرة للسرقة- صوّر آثار أقدام قال إنها “آثار أقدام آخر لص دخل إلى المقبرة قبل آلاف السنين”، ولكن كراوس بعدما درس الصور التي التقطها كارتر، توصل إلى “إن هناك أثر قدم واضحة بالفعل في الصور، ولكن تحليلها يظهر أنها لم تكن أثر قدم لصندل مصري كما هو متوقع، بل أثر قدم يرتدي حذاء حديث له كعب!” ليفجر مفاجأة أكبر بقوله “يمكن أن تكون هذه آثار أقدام هوارد كارتر نفسه!”.
ولكن يبدو أن ادعاء كارتر بتعرض المقبرة للسرقة في الماضي لم يكن فقط بهدف الاستيلاء على نصف محتوياتها، بل كان له أغراض أخرى!
فقد كان ذلك الادعاء حجة يمكن بها تبرير أي أدلة قد يعثر عليها داخل المقبرة وتثير الشكوك حول سابقة دخول كارتر إلى المقبرة سرا قبل إعلان العثور عليها، وكذلك حتى يبرر اختفاء بعض القطع الأثرية من المقبرة، وهي القطع التي سرقها كارتر بنفسه بحسب ما أثبتت الأدلة.
ولكن في كل الأحوال، فإن مخطط كارتر للاستيلاء على نصف محتويات المقبرة باء بالفشل، حيث كانت مصلحة الآثار عدلت نصوص التصريح المعطى له في عام 1918 دون أن يلتفت كارتر إلى ذلك، حيث قامت المصلحة بإضافة تعديل على التصريح نصه: “ليس المعني بكلمتي (مدفن سليم) -الواردة في التصريح- أنه مدفن لم يمس بتاتا، بل المعني بهما مدفن يشتمل على أثاثه بحالة حسنة، ويؤلف مجموعة صحيحة، حتى ولو كان اللصوص قد دخلوه لأخذ الجواهر كما حدث في مدفن والد الملكة تي ووالدتها”.
ويقول محسن محمد أن هذا التعديل المفاجئ في نص التصريح، والذي لحسن الحظ حمى كنوز توت عنخ آمون من النهب، لم يكن ما يبرره حينها، ولكنه يوحي بأن مدير مصلحة الآثار ربما كان يعلم بمخطط كارتر وربما علم بأنه عثر بالفعل على المقبرة وأنه يخطط لشيء ما.
جنازة.. و9 معزين فقط!
بعد الإعلان الرسمي لاكتشاف المقبرة، بدأت عملية حصر مقتنياتها وتسجيلها، وهي العملية التي استغرقت عشر سنوات كاملة، انتهت في نوفمبر من العام 1932، وخلال تلك السنوات، شهدت العلاقة بين كارتر ومصلحة الآثار المصرية الكثير من الشد والجذب، بسبب رغبته في السيطرة على كل ما يجري داخل المقبرة وعلى طريقة العمل، ما كان سببا في توقف عمليات الحصر لأكثر من مرة.
خلال تلك السنوات العشر، كان قد توفي اللورد كارنارفون، حيث أصيب بلدغة بعوضة أثناء إقامته بالقرب من المقبرة، ما سبب له تسمما في الدم، وبعدما نقل لتلقي العلاج في القاهرة وافته المنية أثناء وجوده بفندق كونتيننتال في 19 مارس عام 1923، حيث نقل رفاته لاحقا ليدفن في إنجلترا.
أما كارتر، فقد تقاعد عن العمل بالاستكشاف والتنقيب بعد انتهاء حصر مقتنيات مقبرة توت عنخ آمون في 1932، وبعدما أقام لفترة في منزله بالأقصر انتقل ليقضي سنواته الأخيرة في لندن، ومع تراجع الاهتمام باكتشافه، قضى تلك السنوات في عزلة كبيرة، خاصة وأنه لم ينجب ولم يتزوج.
وفي 2 مارس 1939 توفي كارتر عن عمر يناهز 64 عاما بعد إصابته بمرض تضخم الغدد اللمفاوية، لتظهر بوفاته مزيد من الأدلة التي تثبت تلاعبه وسرقته لمحتويات أهم اكتشافاته على الإطلاق.
حيث يقول الكاتب هاري وينستون في كتابه “هوارد كارتر واكتشاف مقبرة توت عنخ آمون”، إن كارتر قبل وفاته أوصى بأن يتولى عالم المصريات هنري بيرتون إدارة أمواله وممتلكاته بعد موته، حيث اكتشف بيرتون بعد عمليات حصر التركة، أن كارتر كان يمتلك قرابة 2000 جنيه استرليني بالإضافة إلى 18 قطعة حصل عليها من مقبرة توت عنخ آمون دون علم السلطات المصرية.
ويضيف وينستون، أن بيرتون شعر بأنه في ورطة، ولم يكن يدري ما عليه فعله بهذه القطع، خشية أن تحدث أزمة بين مصر وإنجلترا حال اكتشافها، وفي النهاية نصحه البعض بأن يهدي هذه القطع أو يبيعها إلى متحف متروبوليتان للفنون بنيويورك، وهو ما تم بالفعل، قبل اكتشاف تلك السرقة وإعادة القطع كلها إلى المتحف المصري في القاهرة لاحقا.
وفي النهاية، دفن كارتر في مقبرة “بونتي فالي” في لندن بعد مراسم جنائزية حضرها 9 أشخاص فقط من أصدقائه المقربين، حيث وُضع فوق قبره شاهد كُتبت عليه جملة مقتبسة من كأس أمنيات توت عنخ آمون تقول “فلتعش روحك، فلتحيا ملايين السنين، يا من تحب طيبة، جالسا ووجهك إلى ريح الشمال، وعيناك تنظران إلى السعادة”.
بعد رحلة البحث تلك، لا يمكن إنكار أهمية الاكتشاف الذي قام به هوارد كارتر، ولا بقيمته على مختلف المستويات، إلا أن تقييم تجربته من كل نواحيها أمر هام وضروري، لفهم حقيقة ما قام به، ووضعه في المكان الذي يستحقه بالتاريخ.