تتشارك الثقافات المختلفة حول العالم في عدد لا حصر له من القصص الشعبية، التي قد تختلف في تفاصيلها لكنها تتفق في إطارها العام الذي تحكمه الإثارة والغرابة، مشكلة مجموعة من الأساطير العابرة للحدود، التي يمكن أن تجدها لدى كل بلدان الأرض وبمختلف اللغات.
من بين أشهر تلك الأساطير، أسطورة “العمالقة” التي لا تكاد تخلو منها ثقافة، والتي تتحدث عن أناس ضخام الأجسام بشكل خرافي، عاشوا على الأرض وشهدوا أحداث غريبة ومواقف مليئة بالإثارة والرعب، قبل أن يختفوا فجأة لأسباب غير محددة، تاركين خلفهم دلائل محدودة تلمح إلى أنهم مروا من هنا يوما.
ورغم أن العلوم المعاصرة -مثل الآثار والحفائر والطبيعة وغيرها- لم تجد دليلا واحدا يثبت صحة أسطورة العمالقة، إلا أن ذلك لم يوقف هوس البحث عنهم، حيث تنتشر عشرات المؤلفات والمواقع الإلكترونية التي تحاول تأكيد قصتهم، عبر الاعتماد على نظريات وتخمينات لا تستند إلى أدلة علمية.
ولكن، وبرغم كل ذلك، تظل قصة السويسري “جريجور سبوري”، وما يزعم أنه رآه في وادي النطرون بمصر، واقعة محيرة ومثيرة للجدل، خاصة وأن أي من العلماء الذين حللوا الصور التي اعتمد عليها “سبوري” في قصته، لم يصلوا إلى نتيجة قاطعة أو رأي نهائي، سواء بصحتها أو تزييفها، ليتركوا الباب مفتوحا على مصراعيه أمام هواة الغرائب لنسج مزيد من القصص والنظريات.
بدأت قصة جريجور سبوري عام 1988، عندما قرر السفر إلى مصر لهدفين، الأول هو جمع أفكار لتصميم نادي ترفيهي يحمل طابعا مصريا قديما، حيث كان يملك شركة متخصصة في التصميم الداخلي لنوادي الرقص والحانات بمدينة بازل السويسرية، والهدف الآخر هو التحقق من القوى الغامضة التي قيل إنها كانت نشطة داخل الهرم الأكبر بالجيزة منذ آلاف السنين!
كان “سبوري” في ذلك الوقت، لديه شغف كبير بالبحث عن غرائب وألغاز الحضارة المصرية، حيث كان قد تأثر بقصة نابليون بونابرت الذي قيل أنه قضى ليلة وحده داخل الهرم الأكبر رأى فيها رؤية مشئومه لمستقبله ونهاية حياته العسكرية بالمنفى.
كما كان قد تأثر بشكل كبير، بكتاب يتحدث عن الغموض في مصر القديمة للصحفي “بول برونتون” صادر في ثلاثينيات القرن الماضي، والذي قال فيه إنه قضى أيضا ليلة بمفرده داخل الهرم الأكبر مستلقيا داخل تابوت غرفة الملك، مدعيا أنه شعر بـ”إحساس ساحق بخلود روحه”!
في مساء 12 أبريل 1988، كان قد نجح “سبوري” بالاتفاق مع أحد حراس منطقة الأهرامات -بعيدا عن أعين السلطات المصرية- بدخول الهرم الأكبر لقضاء ليلة فيه، حيث استلقى داخل التابوت الحجري بغرفة الملك وظل لساعات يردد أصواته ويستمع إلى صداها المتضخم داخل المكان.
عندما لم يشعر بأي تغيرات روحية ولم تتملكه “قوى كونية” كما كان يأمل! قام “سبوري” وتجول داخل حجرات الهرم المختلفة، دون جدوى، وفي الصباح الباكر تسلق الهرم بمساعدة الحارس حتى وصل قمته، ليغادر في النهاية الهرم وقد اقتنع أن كل ما قيل عن القوى الخفية للهرم “مجرد هراء وأكاذيب”.
بعدها بيومين، وأثناء حديثه مع أحد الأصدقاء داخل بهو الفندق الذي كان ينزل فيه بمدينة القاهرة، عن الهرم وتجربته داخله، استمع إليه نادل بالفندق وظن أنه جاء بحثا عن آثار مصرية مهربة، وفي ذات الليلة، وعندما كان يستعد للرحيل إلى بازل، اقترب منه النادل وأخبره أن لديه صديق “يمتلك أشياء جميلة يريد بيعها”!
لم يفهم “سبوري” في البداية ما كان يقصده النادل، ولكنه وافق على لقاء هذا القريب معتقدا أنه ربما يبيع تذكارات مميزة، فأحضر له النادل سيارة أجرة من طراز “بيجو 504” وطلب من السائق أن يقل “سبوري” إلى مكان ما خارج القاهرة للقاء البائع.
بعدما خرجت السيارة من القاهرة، سارت على طريق صحراوي باتجاه الإسكندرية، وبعد ساعتين ونصف من القيادة، وصلت إلى قرية ريفية تسمى “بير هوكر” تقع بمدينة وادي النطرون في محافظة البحيرة، حيث توقفت أمام منزل مبني من الطوب اللبن ومحاط بأشجار النخيل.
ما هي إلا ثوان معدودة، حتى خرج من المنزل رجل طويل القامة يرتدي جلابية ويبلغ من العمر حوالي 70 عاما، قال “سبوري” إنه كانت له ملامح مميزة شبيهة بملامح الملوك المصريين التي رآها مرسومة على جدران المعابد والمقابر!
بعدما قدم الشاي والتمر والشيشة إلى “سبوري” سأله صاحب المنزل بإنجليزية ركيكة “من أين أنت؟”، ليستفيض في السؤال عن كل شيء عن “سبوري” وسبب مجيئه إلى مصر وكيف عرف مكانه، ليكتشف التاجر أن “سبوري” جاء بحثا عن تذكارات، فأخبره في النهاية أن النادل -وهو ابن شقيقة التاجر صاحب المنزل- أخطأ، وأن ما يبيعه التاجر ليس ما يبحث عنه “سبوري”.
عندما شعر التاجر أن “سبوري” أحبط بعدما ضاع يومه بلا فائده، أراد ألا يتركه يغادر خالي الوفاض، فعرض عليه أن يريه شيئا مميزا كونه مهتم بالآثار المصرية وغرائبها، مؤكدا في الوقت ذاته أن هذا الشيء ليس للبيع.
حسب رواية “سبوري” فإن التاجر صارحه بكل أريحية أنه يبيع المقتنيات والكنوز المسروقة من المقابر المصرية القديمة، إلى هواة جمع التحف من الأثرياء الذين يأتون إليه من جميع أنحاء العالم، وقد اعتقد أن “سبوري” أحدهم عندما أرسله ابن شقيقته، ولكن اعتذارا عن هذا الخطأ سيريه قطعة أثرية قديمة جدا، لم يرها إلا أشخاص قليلون، وأخبره أنه عندما يشاهدها سوف يغير نظرته إلى الهرم الأكبر وإلى طبيعة الحضارة المصرية القديمة!
قاد التاجر “سبوري” إلى غرفة أخرى داخل المنزل، يوجد بها خزانة ملابس ومرآة غائمة وأريكة مغطاة بغطاء أحمر داكن، وصندوقان خشبيان، اعتقد “سبوري” أن كل هذه المقتنيات في الغالب هي أثاث إنجليزي يعود للقرن التاسع عشر!
أخرج التاجر من أحد الصندوقين حزمة طويلة ملفوفة بجلد بني، عندما قام بفكها ظهر كتان أبيض تفوح منه رائحة عفنة، وعندما أزال الكتان، ظهر داخله شيء ما محنط لم يتبين طبيعته في البداية.
عندما أمسك “سبوري” بتلك القطعة وجدها خفيفة، ووزنها قرابة مئات من الجرامات فقط، ظنها في البداية ساق ماعز مقطوعة بسبب لونها الأسود والعظم الذي يظهر من أحد أطرافها، ولكن عندما دقق فيها مليا، صدمته المفاجأة، لقد كان يحمل أصبعا بشريا عملاقا!
كان طول الأصبع المحنط ما بين 30 إلى 40 سم، وسمكه قرابة 8 سم، وله سطح أملس وجلد مخدوش بعض الشيء، بينما كان تظهر ثنيات الأصبع في عقلتين به.
لم يقتنع “سبوري” في البداية أنه يمسك بأصبع بشري بهذا الحجم، فقام بفحصه جيدا، أما التاجر فقد أعطاه عدسة مكبرة لتساعده على الفحص ليتأكد أن القطعة أصلية، كما قدم له مستندا قديما، به صور أشعة سينية للأصبع ترجع إلى الستينيات، وشهادة قال إنها تؤكد أصالة القطعة!
قال التاجر لـ”سبوري” إنه حصل على هذه البقايا من والده الذي تسلمها بدوره من جده، بينما رفض أن يخبره عن الموضع الذي عثروا فيه عليها، مؤكدا أنه عرف بأنها أصلية عندما قام ابنه بفحصها في عيادة أحد الأطباء قبل سنوات بالأشعة السينية.
بعد ساعة من الفحص والذهول، طلب “سبوري” من التاجر أن يبيعه هذه البقايا، فرفض بشكل قاطع، مؤكدا أنها بمثابة إرث للعائلة لا يمكن التفريط فيه، واكتفى بأن سمح له بتصويرها فقط مقابل 300 دولار، قبل أن يغادر “سبوري” بير هوكر وكله يقين أنه كان يحمل بقايا عملاق مصري عاش في وادي النطرون يوما ما.
بعدها بأيام، عاد “سبوري” إلى سويسرا، ولكنه لم ينس أبدا ما رآه في وادي النطرون، وظل منشغلا بحقيقة ما لا نعرفه عن الحضارة المصرية القديمة، حتى قرر في عام 2008، أي بعد عشرين عاما من زيارته الأولى إلى مصر، أن يستقيل من عمله ويتفرغ تماما للبحث عن خبايا الحضارة المصرية.
في العام التالي، 2009، سافر “سبوري” إلى مصر مجددا، وكله عزم على أن يبدأ بحثه من عند التاجر مرة أخرى، إلا أنه لم يعثر عليه ولا على المنزل، كما فشل في العثور على النادل الذي أرشده إليه.
إلا أن سبوري لم يستسلم، وبدأ رحلة بحثا موسعة عن الحضارة المصرية، اعتمد فيها على الكتب التي تناولت طبيعة الأساطير المتعلقة بمصر القديمة، وهي الرحلة التي انتهت بتأليفه كتابا بعنوان “الإله المفقود.. يوم القيامة”! وموقع إلكتروني يتضمن قصته والصور التي التقطها لتلك البقايا البشرية، باعتبارها الدليل المادي الوحيد الذي يمتلكه على قصته.
حتى ذلك التاريخ، لم يكن الكثيرين حول العالم يعرفون شيئا عن صور “سبوري” وبقايا عملاق وادي النطرون، ولكن في هذا العام تحديدا، وبعدما أصدر كتابه وموقعه الإلكتروني، توجه “سبوري” إلى صحيفة “بيلد” الألمانية وعرض عليها الصور، لتنشر الصحيفة بدورها تقريرا عنها، وتبدأ في تناقلها كل المواقع والمدونات المهتمة بغرائب الحضارات القديمة، وتصبح مادة دائمة في النقاش حول حقيقة الحضارة المصرية وما لا نعرفه عنها.
الأبحاث التي أجراها “سبوري” لاحقا على تلك البقايا معتمدا على الصور فقط، أظهرت له أن الطول الدقيق للأصبع يبلغ 38.4 سم، وهو ما يعني أن هذا الأصبع يعود لشخص عملاق كان يبلغ طوله في يوم من الأيام حوالي خمسة أو ستار أمتار تقريبا!
وأظهرت أبحاث “سبوري” أن البقايا كان لها نفس النسب التشريحية لأصبع الإنسان العادي، من أظافر وأطراف ومفاصل، حيث رجح أن تكون تلك البقايا هي الأصبع السبابة في اليد المنى لشخص ما، مشيرا إلى أنه تبين له أن الأصبع تم قطعه من الجسد بالقوة باستخدام شفرة كبيرة (منجل مثلا)، وهو ما يؤكده وجود عدة إصابات بالأصبع، مثل كسر في الظفر وخدوش متعددة على الجلد.
عندما عرض “سبوري” الصور على بعض الأطباء، قالوا إن أصبعا بهذا الحجم لا يعني بالضرورة أنه يعود إلى عملاق كما قد يظن للوهلة الأولى، فهناك أسباب يمكن أن تجعل أصابع الشخص العادي تصل إلى هذا الحجم!
وأوضح الأطباء أن هناك بعض الاضطرابات الهرمونية التي تصيب الإنسان، وتتسبب في تضخم أنسجة طرف من أطرافه أو أصابع يديه أو قدميه بشكل كبير جدا، وهو ما يرجح أن يكون صاحب هذا الأصبع -إن كان يرجع إلى إنسان حقا- قد يكون مصابا بهذا الاضطراب.
وبالرغم من إيراد “سبوري” لرأي الأطباء صراحة في موقعه، إلا أنه رد عليه بالقول أن الاضطرابات الهرمونية التي يشير إليها الأطباء تصاحبها حالة من عدم التناسق في الطرف المصاب، موردا مجموعة من الصور التي تظهر أشكال هذه الاضطرابات، مشيرا إلى أن هذا لا ينطبق على بقايا وادي النطرون، لأن الأصبع متناسق في الحجم وقياساته تتوافق ونسب الأصابع العادية للإنسان العادي ولكن مع فرق الضخامة.
وأضاف كذلك أن تلك الاضطرابات والتشوهات التي ذكرها الأطباء تكون في الأنسجة -اللحم والجلد- فقط ولا تشمل عظم الحالة المصابة، مشيرا إلى أن العظام واللحم والجلد لهم نسب متناسقة في بقايا وادي النطرون، وهو ما تؤكده صورة الأشعة السينية الرديئة الوحيدة التي رآها للبقايا.
ومن العلماء الذين عرض عليهم “سبوري” الصور أيضا، عالم الطبيعة الدكتور Carl Bader، الذي أكد أن الأصبع يرجع في الغالب إلى شخص عملاق حقا -إن صحت الصور- ولكنه تمسك في الوقت ذاته بأن العلم، ومن وجهة نظر بيولوجية تطورية بحتة، لم يشهد مثل هذه المخلوقات مطلقا، ولم يقم دليل على أنها عاشت على الأرض يوما.
أيضا عرض “سبوري” الصور على خبير المومياوات السويسري الدكتور Frank J. Rühli من جامعة زيورخ، الذي قال نصا “إن ما تظهره الصور هو حالة مثيرة، التقييم النهائي والمعتمد على الصور غير ممكن للأسف، ومع ذلك، الظفر ودمجه مع الأنسجة وحالة السطح وإصابات أنسجة الجلد الظاهرة تبدو جميعها طبيعية جدا”.
وتابع بقوله “ربما كان متلازمة البروتين أو شابه، كما أن جذع العظم غريبا بعض الشيء، إنه أقرب إلى عظم حيوان، لأنه يبدو سميكا جدا بالنسبة إلى أصبع إنسان، ونظرا لعدم وجود صور مقطعية للعظم، فإن بياني تخميني بحت، إذا كانت هذه البقايا مزورة -وهو ما لا يمكن استبعاده نهائيا- فإنه عمل جيد جدا، أوصي باستشارة جراح بيطري لاكتشاف طبيعة هذا العظم”.
بناء على هذه النصيحة، عرض “سبوري” الصور على عالم الأحياء الألماني دكتور Mark Benecke، والذي قال نصا “لسوء الحظ، لا يمكن الإدلاء بأي بيان على أساس الصور… أعتقد أن فحص ما إذا كانت هذه القطعة ترجع إلى إنسان أو حيوان أو ربما أي أنسجة أخرى، هو أمر غير ممكن إلا في حال توفر عينات من الأصبع، فهي القادرة عبر الحمض النووي في تأكيد نوع هذا الشيء”.
وتابع بقوله “ولكن على أساس الصور فقط -ومع الوضع في الاعتبار احتمالية التزوير- فإنه لا يوجد أي تغيير في الأنسجة أو شيء غير طبيعي، ولكن بدون عينات الأنسجة لا يمكنني قول المزيد عن هذه الحالة”.
في النهاية، وبالرغم من أن “سبوري” قد تجاوز السادسة والستين من عمره في الوقت الحالي، إلا أنه متمسك باعتقاده أن ما شاهده في وادي النطرون بمصر كان بقايا عملاق غامض، وأن الحضارة المصرية لم تبح بكل أسرارها بعد، ولا يزال لديه أمل في العثور على من يملكون هذه البقايا وإقناعهم بنشرها على العلن ليتمكن العلماء من فحصها والتوصل إلى نتيجة قاطعة بشأن حقيقتها.
التفاصيل والصور نقلا عن موقع “جريجور سبوري”: gregorspoerri.com
وكتابه: LOST GOD: Day of Judgment