بالرغم من التطور الحضاري والثقافي الذي كان يميز المجتمع في مصر القديمة قبل آلاف السنين -قياسا على غيره من المجتمعات في تلك الفترة- إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور أزمات عانى منها المجتمع، وتحول بعضها إلى ظواهر مقلقة استدعت تدخل السلطات عبر فرض القوانين لمحاربة تلك الظواهر ومنع انتشارها.
واحدة من تلك الظواهر الغريبة، والتي تناولتها دراسة تاريخية صدرت حديثا، هي ظاهرة “الهروب”! والمقصود هنا هروب الأفراد سواء داخل مصر أو خارجها، لأسباب عدة، وما كان يترتب على هذه الظاهرة من فرض عقـ.ـوبات قاسـ.ـية كانت تصل إلى المـ.ـوت في بعض الأحيان، وكانت تلك العقوبات لا تقتصر على الهارب وحده بل كانت تشمل كامل أسرته وحتى جيرانه أيضا!
ولكن مما كان يهرب المصريون في مصر القديمة؟ ولماذا؟ وإلى أين كان هروبهم؟
هذا ما أجابت عنه دراسة بعنوان “الآثار المترتبة على الهروب في مصر القديمة” للدكتور عبدالعزيز أبو درهات، مفتش آثار بمنطقة آثار البحيرة، والتي نشرت بالعدد الأخير لمجلة “الاتحاد العام للآثاريين العرب” الصادر مطلع العام الجاري.
تقول الدراسة إن أكثر أسباب الهروب شيوعا كان هروب المصريين من تنفيذ العقوبات المترتبة على ارتكاب أفعال يعاقب عليها القانون، أو الهروب من داخل السجون، كما عانى المجتمع من ظاهرة هروب الأفراد من أداء الخدمة العسكرية أو المشاركة في المعارك الحربية.
أيضا اعتاد البعض في مصر القديمة قبل نحو 4 آلاف عام تقريبا، الهروب من أداء الأعمال المطلوبة منهم في المشاريع العامة، مثل الهرب من العمل في الأراضي الزراعية بسبب مشقة العمل، أو الهرب من الوظائف المكلفين بها من قبل السلطات مثل المشاركة في تشييد المباني للسبب ذاته.
كانت السياسة أيضا لها دور في انتشار ظاهرة الهروب، فقد كان البعض يهرب لأسباب سياسية بسبب الخروج على أوامر الفرعون، أو الهرب من ملاحقة السلطات لهم أثناء إخماد التمردات ومحاولات فرض الأمن.
ولكن أغرب أسباب الهروب التي كان يعاقب عليها القانون، هو الهروب في المطلق! بمعنى تغيب الشخص لمدة محددة تصل إلى ستة أشهر بدون سبب واضح، ويظهر من ذلك أنه كان لابد لجميع أفراد المجتمع أن يكونوا حاضرين ومشاركين وفاعلين، وليس لمسموح لأي منهم بالانسحاب من المجتمع دون أسباب!
إلى أين كان يهرب المصريون؟
تكشف الدراسة اعتمادا على بعض النصوص التاريخية، أن الهاربين كانوا يفرون إلى الأماكن التي يشعرون فيها بالأمان، وتوفر لهم الابتعاد عن السلطات والملاحقات، فكانت وجهتهم دائما إلى المناطق النائية، للاختباء لفترات قد تطول وقد تقصر.
ففي نص خاص بأحد المشرفين على الصحراء الغربية في عصر الأسرة الثانية عشرة، يقول “لقد وصلت إلى الواحة الغربية واكتشفت كل طرقاتها، وقد أحضرت الهاربين الذين وجدتهم فيها”، وهو ما يظهر أن الصحراء الغربية (أرض الموتى) كانت عادة ملاذا للهاربين.
إلا أن بعض الهاربين لم يكونوا يكتفون بالاختباء في المناطق النائية، بل كانوا يفرون إلى خارج الأراضي المصرية بأكملها، وكان من اللافت أن السلطات المصرية كانت تحرص على ملاحقة هؤلاء حتى خارج حدودها!
وقد استشهدت الدراسة في ذلك، ببند ورد في معاهدة السلام التي وقعت بين الملك رمسيس الثاني وملك الحيثيين، المدونة على إحدى جدران معبد آمون بالكرنك، حيث ينص ذلك البند على ضرورة إعادة المصريين الهاربين من مصر إلى أراضي “خيتا” بعد القبض عليهم من جنود ملك الحيثيين، والتشديد على عدم توفير الحماية لهم.
ويوحي النص على ضرورة إعادة الهاربين في المعاهدة، إلى أن الهروب كان ظاهرة شائعة تشكل قلقا لدى الفرعون شخصيا حتى أنه حرص على إبرام الاتفاقات مع البلدان المجاورة لإعادة هؤلاء الهاربين، كما أن ذكر المتهمين بالهروب بصيغ الجمع غالبا في النصوص التي أشارت إليهم، يظهر أن الهروب كان أمرا منتشرا في مصر القديمة، وكان من المعتاد إعداد قوائم بأسماء الهاربين لملاحقتهم!
عقوبات الدنيا والآخرة!
يكشف الدكتور عبدالعزيز أبودرهات في دراسته، أن هناك قائمة طويلة من العقوبات كانت تطبق بحق من يثبت هروبهم، وكانت العقوبة تختلف حسب أسباب الهروب وظروفه.
فإذا كان الشخص هارب من الملاحقة القانونية بسبب ارتكابه فعلا يعاقب عليه القانون، كان يقدم إلى المحاكمة عقب القبض عليه لينال عقوبته على الفعل الذي كان سببا في الهروب.
وكان السجن المؤبد مدى الحياة هو أكثر عقوبات الهروب شيوعا،
ولم يكن تطبق عقوبة الموت إلا في حالات معينة وشديدة الخطورة، مثل الهروب من ساحة القتال، الذي كانت عقوبته نصا هي “محو وجود” الهارب.
وترجح بعض الكتابات أن “الإعماء” -إفقاد الشخص بصره عمدا- كان من العقوبات التي توقع على الهاربين، وترجح الدراسة أن ممارسة هذه العقوبة عرفتها مصر عن طريق بعض البلدان في آسيا الصغرى، خاصة البلدان التي كانت تطبق قوانين “حمورابي”.
كما كانت توقع بعض العقوبات الإدارية والاجتماعية على الهارب، مثل العزل من المنصب أو الوظيفة، أو وصم الهارب بالجبن، حيث اعتبر المجتمع الهروب فعلا دنيئا ليس من شيم الشجعان.
فيما لم تكن جميع العقوبات دنيوية فقط، بل كانت تلاحق الهارب عقوبات مثيلة في العالم الآخر! فقد كان الملك يوجه لعناته الملكية لتصيب الهاربين فتقضي عليهم، وبالتالي يتحولون إلى العدم والفناء ويصبحون طي النسيان ويحرمون من الحياة الآخرة.
كما كان يتم تجريد الهارب من اسمه في بعض الأحيان، حسب خطورة ما ترتب على هروبه، وهو ما يعني حرمان الهارب من الصعود إلى السماء في العالم الآخر، فبحسب العقيدة المصرية القديمة لم تكن أبواب السماء تفتح إلا لمن يحملون أسماء فقط.
ولكن في كل الأحوال كانت محاكمة الهارب لها ضوابط وقواعد، حيث كان يفترض عدم إساءة الظن بالهارب لمجرد هروبه، وكان لابد من البحث وراء أسباب هروبه قبل تنفيذ العقوبة بحقه بحسب الدراسة.
السيئة تعم!
من أغرب ملابسات ظاهرة الهروب في مصر القديمة، أن العقوبات المترتبة على هذا الفعل لم تكن مقتصرة على الهاربين فقط، بل كانت تشمل في غالب الأحيان أسرهم أيضا، وفي أحيان أخرى كانت تمتد العقوبة إلى جيرانهم إذا ما ثبت أنهم ساعدوا الهارب على الاختباء!
فقد كان من المعتاد، وفور ثبوت هروب أحد الأشخاص، أن تقوم السلطات بسجن أسرة الهارب، كإجراء مبدئي لإجبار الهارب على العودة والظهور، وبعد الحبس كان يتم إخضاع الأسرة للتحقيق للتأكد من مدى تورطهم في هروب قريبهم من عدمه.
وكانت التستر على الهارب يستوجب توقيع نفس العقوبة التي تلاحق الهارب نفسه، سواء كان المتستر من أسرته أم لا، ففي إحدى البرديات الموجودة بالمتحف البريطاني، ينفي شخص عن نفسه تهمة أن يكون قد تستر على أحد الهاربين المتهمين بسرقة المقابر، وما يظهر أن التستر كان جريمة معاقب عليها.
واستشهدت الدراسة بقصة فتاة تدعى “تتي ابنة سنحور” من عهد الملك أمنمحات الثالث -الأسرة الثانية عشرة- كانت تعمل بالزراعة في مدينة “ثين”، وهي من أوائل المدن التي اتخذت عاصمة لمصر إلا أن موضعها غير محدد بدقة حتى الآن.
كانت “تتي” مسجلة في قوائم العمال بالأراضي الزراعية الملحقة بتلك المدينة، وقد تم تكليفها بالعمل تحت إشراف كاتب الحقول، ولكن عندما رأت “تتي” أن عملها شاق وصعب، قررت الهرب من “ثين”، فتم القبض على أفراد أسرتها لضمان عودتها وتم إيداعهم في السجن بطيبة، تحت إشراف رئيس محكمة الجنوب.
وتسببت هذه الواقعة في تسجيل “تتي” في قوائم الهاربات المطلوب البحث عنهن وإعادتهن، وعقب إجراء تحقيق مع أسرتها تم إطلاق سراحهم، بعد التأكد من عدم تورطهم في هروبها، فيما لم يعرف مصير تلك الفتاة البائسة، وما إذا كانت عادت إلى مدينتها أم واصلت اختفائها لتذهب طي النسيان.