كتب – محمد سيد بركة
يحاول الدكتور خالد عزب مدير المشروعات السابق بمكتبة الإسكندرية في كتابه “فلسفة الحياة في الحضارة الاسلامية” الصادر عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة مطلع هذا العام، إعادة تأسيس علم العمران من جديد حيث يذهب إلى أن هذا العلم وجد في الحضارة الإسلامية منذ العصور المبكرة، فغاص المؤلف في كتب التراث والآثار والروايات والوثائق الحجج ليستخرج هذا العلم ويعيد بناؤه، كأنَّ علم العمران في حاجة إلى تأسيس ينطلق منه إلى فهم أعمق لمعطيات الحضارة الإسلاميَّة يحيى قيمتها ويثمن منجزاتها، وننطلق منه نحو المستقبل، ومن ثم بنى رؤيته لعلم العمران.
جاء الكتاب في خمسة فصول، تناول الفصل الأول ماهية العمران معرفًا العمران في الحضارة الإسلامية كعلم تبلور منذ القرن الثاني الهجري، متتبعًا تطور دلالة لفظة العمران في المعاجم اللغوية، ثم مؤكِّدًا أن العدل هو أساس العمران على الأرض.
وفي الفصل الثاني تحدث عن الفلسفة الناتجة عن ذلك، والتي ارتكزت على: الإتقان، الإبداع، الجمال، لينتقل في الفصل الثالث إلى أدوات العمران في الحضارة الإسلامية التي ارتكزت على العلم والعمل، ثم في الفصل الرابع تحدث عن أطر العمران، أي وسائل عمله في المجتمعات، أو ما يسميه القواعد التي تنظِّم مجالات العمران وفضاءه، وهي السياسة الشرعية وفقه العمران، لينتقل في الفصل الخامس لتطبيقات العمران كعلم في التجارة والصناعة والزراعة وغيرها.
عرّف الدكتور خالد عزب العمران، بأنه علم الحياة الذي أسس في هذه الحضارة، علم يؤدي بنا إلى أن نعرف كيف نحيا على هذه الأرض، ونتمتَّع بكل ما أعطاه الله لنا من نعم ونتحدَّث بهذه النعم كما ذكر الإمام جلال الدين السيوطي في مذكراته التحدّث بنعمة الله، وبين أن مجالات علم العمران هي الأنشطة الإنسانيَّة على الأرض وما يترتب عليها من تفاعلات حضريَّة سواء في مجال المستقر الحضري (مدن/ قرى/ بدو) أو في مجالات الإنتاج (زراعة/ صناعة) أو في مجالات الخدمات المختلفة، أو التجارة، وما يتصل بذلك من تطورات معرفيَّة وفكريَّة تعكس نمو وارتقاء الإنسان عبر العصور، بما فيها ممارسة السلطة في مستواياتها المتعددة.
كما يرى خالد عزب أن اللغة تعطينا دلالات المصطلح بأبعاده فالعمران ليس هنا هو البناء المادي، بل الفعل البشري بمستوياته المتعددة التي تؤدي إلى عمارة الأرض، هذا يقودنا إلى مواكبة اللغة العربيَّة منذ بدايات حضارة الإسلام لفعل العمران فأعطتنا قواميس اللغة العربيَّة التعبير الدقيق الذي هو أحد مفاتيح ولوجنا إلى هذا العلم، فهذه اللغة لغة الدين الإسلامي موقعها المركزي في هذه الحضارة أدى إلى تطويعها لتعطى كل شيء مدلول دقيق حتى أن أصعب العلوم تفهم بوضوح إذا ألممت بهذه اللغة.
ويخالف خالد عزب ما ذهب إليه ابن خلدون حول البدو في مقدمته، فنجد عنده المقابلة بين البادية والحضر عند العرب أساسها الحركة والسكون، أو التجول والثبات (الاستقرار)، أو الارتحال والإقامة الدائمة، ثم ما قد ينتج عن هذا الأمر من اختلاف في وجوه المكاسب والمعايش، ومستوى المعيشة على عائد الحرفة، ونمط المسكن (من حيث كونه دائما أو مؤقتا، وكذلك شكله الخارجي وحجمه).
لكن في حقيقة الأمر أن البدو الرحّل ليسوا رحّل مع الزمن، إذ الارتحال في هذا المفهوم يعني الانتقال من إلى بصورة مستمرة، كما أن درجة درجات الاستقرار طبعت هذه القبائل فصارت مستقرة في حدود جغرافيَّة محدودة، بل صارت لها مراكز حضوريَّة مستقرة كالقصور أو الواحات أو المضارب، قامت حياتها على الرعي أو الزراعة أو حراسة القوافل وقد تجمع بين أكثر من مهنة.
ففي رأي عزب أن المستقر الحضري أيا كان، هو مكان الإنسان الذي تبدأ منه الحياة بتفاعلاتها، فالإنسان وسعادته وعيشه مطمئنًا من الغايات التي بحثت بعمق في حضارة قامت على العمران، لذا استخلص السعادة في الحياة الدنيا من الراغب الأصفهاني الذي ألف كتابا يسميه “تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين”، تحصيل السعادة في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، فكان البحث عن السعادة في الحياة الدنيا واجبة وجوب البحث عن السعادة في الحياة الآخرة.
وهذا ما ذهب إليه الراغب الأصفهاني في الإنسان غايَّة الوجود فيقول: “في كون الإنسان هو المقصود من العالم وإيجاد شيئًا بعد شئ هو أن يوجد الإنسان، فالغرض من الأركان أن يحصل منها النبات، ومن النبات أن تحصل الحيوانات، ومن الحيوانات أن تحصل الأجسام البشريَّة ومن الأجسام البشرية أن يحصل منها الأرواح الناطقة، ومن الأرواح الناطقة أن يحصل منها خلافة الله تعالى في أرضه فيتوصل بايفاء حقها إلى النعيم الأبدي كما دل الله تعالى بقوله {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة : 30] وجعل الله تعالى الإنسان من سلالة العالم وزبدته وهو المخصوص بالكرامة كما قال تعالى {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلًا} [الإسراء : 70]، وجعل ما سواه كالمعونة له كما قال تعالى في معرض الامتنان {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة : 29].
ومن ثم يرى خالد عزب أن ابن خلدون لم يكن مؤسسا لعلم العمران بل كان حلقة مثلت ذروة هذا العلم، وكتابه المقدمة هو في حقيقة الأمر جاء في الدراسات البينيَّة الإنسانيَّة سابقا به الكثيرين في عصرنا، ليؤسس العلاقة بين علوم مختلفة مما يجعلها تنتج معارف جديدة.
والكتاب حافل بالتفاصيل التي يصعب اختصارها، لكنه يقدم رؤية تستحق المناقشة والوقوف عندها، إذ إنه مثلًا لا يرى أن هناك خصومة بين التقدم العلمي والإسلام، بل يرى أن الإسلام كان محفِّزًا عبر قواعد العمران على الإنتاج العلمي والابتكار.
خالد عزب، كاتب مصري، حاصل على الدكتوراة في الآثار الإسلامية، عمل رئيسا لقطاع المشروعات والخدمات المركزية بمكتبة الإسكندرية، كما عمل رئيسا لمفتشي الآثار في عام 1994 حتى 2001، وتولى منصب نائب مدير في أحد المراكز البحثية التابعة لمكتبة الإسكندرية -مركز الخطوط- منذ عام 2003 وحتى 2009، كما أنه شغل عضوية مؤسسات وجمعيات علمية عديدة منها عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وعضو جمعية الآثار والفنون الإسلامية، وعضو اتحاد كتاب مصر، وعضو جمعية إحياء التراث العلمي للحضارة الإسلامية؛ وغيرهم.
من مؤلفاته:
روائع الخط العربي بجامع البوصيري، وعاء المعرفة: من الحجر إلى النشر الفوري، الحجر والصولجان: السياسة والعمارة الإسلامية، الفسطاط النشأة.. الازدهار.. الانحسار، العمارة الإسلامية من الصين إلى الأندلس، بقلم جمال عبد الناصر، مع ابن خلدون.. في رحلته، فقه العمران: الدولة والمجتمع والعمارة في حضارة المسلمين، 2012، وبخارى الشريفة تاريخها وتراثها الحضاري.
حصل على جائزة أهم كتاب عربي من مؤسسة الفكر العربي عن كتابه “فقه العمران: العمارة والمجتمع والدولة في الحضارة الإسلامية” عام 2014، ونال جائزة الدولة للتفوق في فرع العلوم الاجتماعية من قبل المجلس الأعلى للثقافة في مصر عن كافة أعماله البحثية، عام 2016.