“في القاهرة بالمحلات الكبرى بالمدينة مثل شيكوريل وشملا أو الصالون الأخضر، كان العمل يجري على النسق المعتاد بكل ما كانت تعرضه واجهات المحلات من فاخر الزجاج والأواني المنزلية والمنسوجات وأدوات التجميل.
جروبي أشهر مقاهي القاهرة كان يعبق برائحة البن المحمص والحلويات الطازجة المصنوعة بزبدة صافية.
في فندق شبرد لم تنضب الأرصدة من أنواع المشروبات والشمبانيا الفاخرة لغاية عام 1943، وحتى في ذلك الحين لم يكن ثمة نقص في أنواع الأنبذة الواردة من الجزائر أو فلسطين أو جنوب أفريقيا.
كان تقنين التموين قد سرى مفعوله لمدة تسعة أشهر في إنجلترا في حين أن المحلات والبقالات اليونانية بالقاهرة كانت حاشدة بأنواع الزبد والسكر والبيض والكيروسين، وأصناف البرتقال، وأنواع البلح كانت مرصوصة في سلال مستديرة في محلات الفاكهة والخضر، وكذلك كانت أكوام من الفاصوليا والذرة ذات أحجام ضخمة وقد أنتجتها تربة الدلتا بكل خصوبتها ودفئها”.
هكذا أخبرتنا الكاتبة الإنجليزية أرتيميس كوبر في كتابها “القاهرة في الحرب العالمية الثانية”، عن جزء من شكل القاهرة لبعض الناس أثناء الحرب من واقع الوثائق.
أخبرنا كامل التلمساني أيضا عن شكل آخر مغاير ومتزامن مع الصورة السابقة للقاهرة ذاتها في الفترة ذاتها بفيلمه الأول والأهم “السوق السودا”.
نشأ كامل التلمساني في عائلة ثرية لأم من أصول تركية وأب من أصول جزائرية يمتلك عزبة في ريف شبين القناطر.
وتغيرت ظروف العائلة ماليا فاضطروا للرحيل مع نهاية الربع الأول من القرن العشرين للقاهرة، وهذه النقلة الطبقية التي حدثت في حياة عائلة التلمساني، وفي حياة كامل شكلت وعيه وانحيازاته اللاحقة..
ففي بدايته، تأثر كامل بأستاذه يوسف العفيفي مدرس الرسم بمدرسة السعيدية الثانوية، الذي سافر لبعثة إلى إنجلترا لدراسة الفنون الحديثة ليعود برؤى تقدمية عن الفن، نقلها لتلاميذه الذين استوعبوا توجهاته الفنية والنظرية، ومستجدات المدارس الفنية الحديثة في أوروبا التي سلخت الفن التشكيلي عن أرستقراطيته، وتوجهت إلى الطبقة الوسطى عبر أفكار الفنانين التقدميين المتمردين على الأكاديمية الكلاسيكية.
وعي كامل التلمساني، تشكل في بداية الثلاثينيات قبل أن يكمل عامه العشرين، عبر احتكاكه بأعضاء “جماعة المحاولين”، وكُتاب الصحيفة التي كانت تصدر عن الجماعة باللغة الفرنسية، تحت عنوان “آن إيفور”. وكان يوسف العفيفي هو الجسر الذي وصل عبره كامل التلمساني إلى هذه الأوساط والدوائر الثقافية.
وفي عام 1936، دخل كامل التلمساني كلية الطب البيطري، لكن بسبب اهتماماته الفنية التمردية، لم يستطع استكمال دراسته بها، واتخذ لنفسه مرسما بدرب اللبانة بالقلعة، بدأ في العام نفسه يكتب مقالات ويعد رسومات تصاحب نصوص أدبية من كتابته وكتاب آخرين مثل طه حسين وألبير قصيري وغيرهم في مجلة “مجلتي”، وهناك تعرف على أنور كامل، ثم جورج حنين، لتبدأ مشروعاتهم المشتركة معاً، منها تأسيس جماعة “الفن والحرية” فيما بعد.
وقد لعبت هذه الجماعة ومجلتها دورا رياديا في ربطن الفن بالمجتمع، ولمع اسم كامل التلمساني وتألق نجمه في عالم الفن والكتابة، وأقام عـدة معارض حققت نجاحات، واستطاعت لوحاته أن تثير عاصفة من الجدل والنقاش في الأوساط الفنية، وذلـك باعتبارها صادرة من فنان مبدع ومفكر يحمل رؤية فنية متميزة ورأي حر وأسلوب مختلف.
وسعى التلمساني ليكون فنه في خدمة الشعب، وقضية تنويره وبث الوعي الجمالي التقدمي والحداثي فيه، ليكون معبراً عن جدلية الواقع المادي وصراعاته وتناقضاته بسبل فنية حداثية وفوق واقعية.
ورغم كل هذا النجاح وهذه الشهرة التي أحاطت بالتلمساني في الثلاثينات وبداية الأربعينات، إلا أنه أحس فجأة بالذنب في أنه لم يقم بواجبه كما أراد، فقد تبين له بأن لوحاته تشترى من الأغنياء المقتدرين، ومن ثم تُـزيّن بها جدران القصور لتكون حلية ومتعة للناظرين، دون الشعور بما تنطوي عليه من تعبير عن الفقر، وأحس بأنه يستقبل في المجتمعات الراقية بالحفاوة والترحيب، في حين أن البعد يشتد ويزداد يوماً بعد يوم بينه وبين أفكاره وبينه وبين الناس، لذلك وفي لحظة حاسمة توقف عن الرسم وقطع كل علاقته به، وتوجه إلى السينما، حيث بواسطتها يمكن إعادة الحوار بينه وبين الناس، الناس الذين أحبهم وتعلق بهم وبهمومهم.
وفي عام 1943 التحق التلمساني باستوديو مصـر، وبدأ مشواره السينمائي بالعمل كمساعد في الإخراج والمونتاج والإنتاج، كما بدأ الكتابة للسينما أيضا.
وأتم كامل التلمساني سيناريو فيلم (الـسوق الـسوداء) خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وقدمه إلى مدير الإنتاج في استوديو مصر في ذلك الوقت أندريه فينو.
تناول التلمساني في الفيلم واحدة من أخطر القضايا التي كانت مثارة في فترة الحرب، وهي مشكلة السوق السوداء، أو تجّار وأغنياء الحرب، واستطاع أن يطرح من خلال قصة بسيطة عن محمود أفندي الساكن فوق سطح بيت من بيوت حارة بحي قاهري، وقصة حبه مع نجية بنت الفرّان والذي تورط في الإتجار بالسوق السوداء بالشراكة مع سيد البقال المحرض له على استغلال الظرف السياسي والاقتصادي الراهن وتزيين حلم الثراء السريع المنتظر في خياله.
وما بين بين تردد الفرّان في قبول التحريض، وتنفيذ الاتفاق، وسريان المال، والرفض يدور حوار أشبه بالمونولوج الداخلي الصامت، ولكن بحضرة شريكه وسماعنا له يقول:
“عارف الصناديق والبراميل والشولة والصفايح دي اللى احنا مخزنين البضايع فيهم، متهيأينلي كأن كل صندوق من البضايع دي نعش، زي ما يكون نعش ميت تمام، وأنا مدفون في كل واحد فيهم”.
اهتم كامل بنقل وضع الحارة وأهلها على المشاهد، وسمح بتطور شخوصها وبنائها دراميا مع التطور التصاعدي للأحداث، وكثف ردود أفعالهم وتفاعلاتها وسمح لهم بالتعبير عن أحلامهم وأنفسهم كل بطريقته؛ فلكل شخصية ملامحها الخاصة حتى الشخصيات الثانوية منهم، ولذلك شعرنا بهم شخصيات حية، صادقة، ثرية، وزادهم ثراء حوار بيرم التونسي وكلمات أغانيه التي وظفت كجزء من الحوار أحيانا ومعلقة على الأحداث أحيانا، فكانت الروح الشعبية الهادئة والصياغة الشاعرية حاضرة مستوعبة أبعاد الشخصيات وأبعاد قضية الفيلم بدلالاتها المتداخلة.
وجاء أسلوب كامل التلمساني كمخرج ليكمل تفرد الفيلم، فأجاد إدارة الكاميرا وإدارة الممثلين وأظهر لغة فنية سينمائية بروح الفن التشكيلي، فكانت اللقطات دقيقة التكوين، سخية التفاصيل كأنها لوحات مرسومة بعناية، ساعده في ذلك تصوير أحمد خورشيد المميز واللعب بالظل والنور، مما أضفى جمالا ملحوظا على الشاشة.
وبرغم رأي كامل التلمساني بأن السرد الفيلمي يعتمد على تتابع الصور وتكوينها البصري أكثر من اعتماده على الحبكة الدرامية أو الحوار، إلا أنه أجاد دمج كل تلك العناصر معا.
ومع كل هذا الجمال فشل الفيلم..
فلم يحقق نجاحا جماهيريا، ولذلك أسباب عديدة منها ما حددها الناقد والمؤرخ السينمائي أحمد كامل مرسي، في أن الفيلم: “كان سابقاً لأوانه من ناحية، ولأن الرقابة عبثت به من ناحية أخرى…”.
فقد تم قص أكثر من 30 دقيقة من نيجاتيف الفيلم لمنع ظهور الفقراء والحفاة، وعدم إظهار “وجه مصر السيئ” سواء فقراء أو متسولين أو غيرهم، وعدم تصوير مناطق قد تبدو مسيئة من وجهة نظر الرقيب وقتها.
إن الفشل الذي صاحب الفيلم جعل كامل التلمساني يصاب بإحباط شديد وهو الذي كان يراهن كثيراً على تجاوب الجماهير مع ما قدمه لهم، لذلك توقف عن العمل واختفى عن الوسط السينمائي لفترة، قبل أن يعود ليخرج عددا قليلا من أفلام تجارية متفاوتة المستوى، بعد اقتناعه بأن الظروف لم تكن تسمح آنذاك بإخراج أفلام واقعية أو فوق الواقعية كما أراد، وكما قدم لنا في فيلم السوق السوداء.
كتبت ذات مرة الروائية والشاعرة الإنجليزية أوليڤيا ماننغ، وقد كانت لاجئة في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية تقول: “إن بؤس مدن الدلتا شكل لنا صدمة مريعة، ليس البؤس فقط، ولكن رضا الناس بهذا البؤس”.
هذا الوصف وجزء من أسباب وجوده أخرجه لنا كامل التلمساني فيلما سينمائيا كاشفا سابقا ناجحا، حتى لو لم يكن الأمر كذلك وقت عرضه ومشاهدته الأولى.
نشر بجريدة القاهرة بتاريخ 18 يوليو 2023