يتصاعد الهلع الغربي والعربي على نحو غير مسبوق، جراء توالي موجات المقاتلين المحليين العائدين إلى بلدانهم الأصلية، بعدما انخرطوا في صفوف داعش والتنظيمات الإرهابية المسلحة بأماكن الصراعات الملتهبة بالشرق الأوسط، وبخاصة في سوريا.
المفاجأة، أنه ليس كل العائدين دواعش، أو من ذوي الزبيبة واللحية والجلباب القصير، بل قد يُصدم البعض من أن عددًا منهم من دعاة التحرر الجسدي والجموح العقلي وعلوم ما بعد الميتافيزيقيا.
صدق أو لا تصدق، أن من بين العائدين من جبهات القتال في سوريا شيوعيون وملحدون وأنصار جماعات يسارية، وأخرى فاشية، وثالثة تتصدر النافخين في الإسلاموفوبيا، أو حتى كانت مدافعة عن البيئة وحقوق المرأة والأقليات.
من بين العائدين من القتال في حلب وإدلب والغوطة، أو حتى من الموصل وتلعفر، من هم يدخنون السجائر بشراهة، ولا يمانعون في بعض الجرامات من الكوكايين أو في الماريجوانا، في حين يفضل بعضهم الويسكي الاسكتلندي على النبيذ الإيطالي أو السناجريا الإسبانية!!؟
تنظيم الـ38 الألماني
دول غربية ذات ثقل كألمانيا، تعاني صحيح من عودة جهاديين إسلاميين من مواطنيها إليها عقب سنوات من احتراف الدم والقتل والتفجير والتفخيخ وامتهان حرف الأحزمة الناسفة، لكنها وفي الوقت ذاته تشعر بصداع مؤرق جراء العشرات من العائدين من حاملي الفكر الأحمر: اليساريون المتطرفون.
المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية، حدد قائمة من 38 ناشط وناشطة (حتى منتصف يوليو 2017)، عادوا للتو من سوريا، فيما كانوا يمارسون أنشطة شبه عسكرية متقدمة إلى جانب الميليشيات الكردية (وبخاصة ميليشيات حماية الشعب الكردية) المحاربة لداعش.
بعضهم تلقى تدريبات عسكرية ميدانية، وآخرون نزلوا إلى ساحات المعارك واشتبكوا مع الدواعش، فيما كانت رصاصاتهم ومقذوفاتهم المصوبة نحو رؤوس عناصر الخلافة المزعومة، تنشد ترانيم المعادة لما يعتبرونه أفيون الشعوب.
ما يضاعف المخاوف الأمنية في برلين، أن بعضًا من اليساريين المشتبه بهم مصنفين من قبل الهيئات المعلوماتية والاستخباراتية المختصة بأنهم من أصحاب الميول العنيفة.
ويتزعم المجموعة الألمانية اليسارية 4 من العائدين، إذ يتعامل معهم الآخرون كقادة ملهمين يمتلكون “ناصية الإيديولوجية”. وهم مؤثرون ونافذون في الأوساط اليسارية بألمانيا، ومن ثم تخشى السلطات من انعكاس خبرتهم السورية ضد داعش، في عمليات داخلية مؤلمة.
تاريخ قديم
والتنظيمات اليسارية أو الشيوعية المسلحة ليست بدعة في الغرب عمومًا ولا في ألمانيا على وجه التحديد، لعل أشهرها بالنسبة للأخيرة ذلك الذي نشط أوائل السبعينيات من القرن الفائت، واستمرت صدماته الدموية، على مدار نحو 20 عامًا تالية، باسم جماعة الجيش الأحمر (Rote Armee Fraktion).
وفي خارج ألمانيا، هناك العشرات من التنظيمات غير الإسلامية التي رفعت أو لا تزال ترفع السلاح، منها على سبيل الحصر منظمة “إيتا” الإسبانية الساعية للانفصال بإقليم الباسك وتأسيس دولة اشتراكية مستقلة وهي محسوبة على اليسار الأوروبي، و”جيش الشعب الجديد”، الذراع المسلح للحزب الشيوعي الفلبيني، و”الجناح العسكري للحزب الشيوعي الكولومبي (فارك)”، منظمة “جيش الرب المضيء” البيروفية ذات التوجهات الماركسية الصرفة، وغيرها.
بالقطع غالبية تلك التنظيمات تصفها الحكومات بأنها إرهابية، بينما هي في عيون أربابها ومريديها نوافذ ثورة، في الأخير وبعيدًا عن التقييم السياسي لها، إنما تعد جميعها كيانات غير إسلامية، وبالأحرى محسوبة على المعسكر الأحمر، رفعت السلاح كأداة في وجه النظم العسكرية أو اليمنية أو تلك الرأسمالية.
اليسار العربي المسلح
في المنطقة العربية، هناك تجارب سابقة حاولت محاكات الفصائل اليسارية الغربية المسلحة، منها في مصر على سبيل الإشارة لا الحصر كل من التنظيم الناصري المسلح، وكذا تنظيم ثورة مصر (أحد مؤسسيها خالد نجل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر)، وهو المحسوب أيضا على تيار اليسار.
التنظيمان تم ضربهما من قبل الأمن في ثمانينات القرن الماضي، لكن لاعتبارات تتعلق بالتزامات الدولة الخارجية، إذ أنهما وعلى خلاف الجماعات الدينية المسلحة التي كانت ترفع السلاح في وجه السلطة والحكومة، كانا يستهدفان مواجهة التطبيع السياسي والاقتصادي الرسمي مع تل أبيب، الذي دخل حيز التنفيذ الفعلي في أعقاب معاهد كامب ديفيد في العام 1979، وذلك عبر احتشاد مجموعة من الشباب القومجي الناصري واليساري في خلايا صغيرة تنتهج “العنف الثوري” في سعيها إلى ضرب السياحة والمؤسسات والمصالح والشخصيات الإسرائيلية المتواجدة على ضفاف النيل.
في لبنان وسوريا وفلسطين، اندمج عشرات الخلايا والتنظيمات اليسارية الاشتراكية والماركسية تحت لواء الجماعات المسلحة، بيد أن هدفها جميعًا كان مقاومة الاحتلال الصهيوني.
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي حزب يساري بنكهة ماركسية، أبرز مثال في هذا الإطار، فنضالها المسلح انصب على عمليات خطف طائرات واغتيالات ونسف مطارات بهدف مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
حاليًا، عدد من اليساريين والقوميين العرب، يساندون بشار الأسد سياسيًا، ولا يترددون في حشد وفود تضم فنانين ومثقفين ونجوم مجتمع لزيارته بدمشق بشكل دوري، ومن بين هؤلاء رموز في الحزب الناصري المصري، بزعم مواجهة قوى الاستعمار الجديد، ودحض كيانات التطرف الديني.
نعم، لم يتحول هؤلاء إلى أعضاء في خلايا مسلحة أو شبه مسلحة، لكنهم يعتبرون مبادرات الدعم للأسد ورجاله، ومن ثم التغاضي عن ديكتاتوريته وجرائمه غير الإنسانية، جزءًا من “مقاومتهم الثورية” ضد ما يعتبرونه مؤامرة المصالح بين الرأسمالية وقوى التطرف الديني.
في المحصلة، فإن التنظيمات اليسارية المسلحة عربية الطبعة، هي أقرب لكيانات مقاومة ضد عدو يكاد يكون مشتركًا، هو تل أبيب، بيد أن الأمر في الغرب مغاير إلى حد كبير، إذ أن الهدف في الأغلب هو تغيير وجه الحكم القائم أو على الأقل الإطاحة بسياساته الجائرة اجتماعيًا.
قائمة المستدفين
وفي حالة اليسار المسلح الحالي، كما هو الحال مع الألمان غير الإسلاميين العائدين من سوريا حيث قاتلوا ضد داعش، فإنهم يوجهون سلاحهم وكهدف رئيسي ضد الجاليات الإسلامية، والتيارات السلفية والجهادية المقيمة أو الوافدة أو حتى ضد المسلمين المهاجرين.
عملية دهس بعض المصليين في بريطانيا، قام بها شخص مسيحي موتور، استشاط غضبًا من تواجد الفلسطينيين في المملكة المتحدة، فيما ارتكب جريمته تحت تأثير الخمور، غير أن هدفه تبدل فجأة من محاولة قتل نشطاء الأراضي المحتلة إلى سرقة الحياة من الوافدين إلى بيت الله للصلاة.
الخطورة الكبرى بالنسبة للغرب هم هؤلاء.. المحسوبون على تنظيمات أو أحزاب أو منتديات يسارية (دواعش اليسار)، أو حتى غير المنتمين إلى أي كيان، وبخاصة إذا ما كانوا طواقين إلى التغيير بالدم، فتراهم يستهدفون المسلمين عقابًا على جرائم داعش غير الإنسانية، وفي الوقت ذاته يلاحقون الحكومات بالمظاهرات والصدامات مع الأمن اعتراضًا على ما يعتبرونه تواطؤً منها مع الرأسماليين والعولميين كما هو الحال في صدامات هامبورج الأخيرة على هامش قمة العشرين، وأيضًا مع اليمين المتشدد المستورد من الشرق الأوسط.