من الوارد أنهم لم يشاهدوا دييجو.. ربما يحكمون عليه بمنظور أخلاقي.. يبدو أنهم متدينون.. صدمهم حديثه العفوي المراوغ عن يد الله التي ساعدته، بينما كان يسرق الفوز من الإنجليز..
مارادونا رمز للاستثناء.. مقارنة ليونيل به تظلم الأخير لا محالة.. تهبط بمكانة معشوق التانجو الأول.. ميسي مبدع، فذ، خارق، مقاتل، فوق التصور.. لكن حامل كأس الذهب والمرمر 86 من كوكب آخر.. هنا يكمن السر.
ميسي المتوهج في الأصل ابن الموهبة الفطرية الأرجنتينية.. نفر أعمى القلب والبصيرة من أبناء جلدته رأوه لا يصلح للجلد المقوس.. نعم.. حكموا على مسيرته الكروية بالإعدام قبل أن تبدأ.. كان ضئيلًا عمرًا وبنيانًا.. العالم كاد يفقد أحد رسل الشبق.
تدخل نحات أوروبي.. أطباء البارسا عالجوا ضعف الجسد وقصره.. نفخوا فيه الروح من جديد.. أهدوا الأرض تحفة فنية قبل أن تندثر.. وهل يستوى المصنوع مع نبت التربة، مع مطر السماء، مع فيض الأنهار؟.. بالقطع لا..
طبعوا على الصغير الميكانيكية.. الإلتزام.. نظام الحياة الصارم.. ليونيل حرم من روعة الفوضى، ونزق البوهمية، وجمال العشوائية.. شب على المعادلات الرياضية.. لم يهرول خلف الكرة في حواري وأزقات بيونس ايرس أو كوريينتس أو كوردوبا.. منذ نعومة الأظافر أحد حجاج الكامب نو.
المستديرة لعوب بطبعها.. تخضع صحيح للتعامل الصارم.. تقبل أقدام سيدها الذي يجلدها بحذائه.. لكنها قد تتمرد عليه أيضًا.. تعصيه.. تتمنع عليه.. تدير له ظهرها.. هي تهوى الإثارة.. تعشق الشخص المجرب.. تنهار على وقع الهدهدة.. تخلع ملابسها لمحترفي الإجرام.. تحب الرقص مع السكارى.. ليونيل كاوبوي متألق.. دييجو مغامر متسكع.. الاثنان من أمراء العشب الأخضر.. الصغير أوروبي التربية والطبع.. الكبير لاتيني الثورة والنكهة.
دييجو حالة تغيب مريديها عن الوعي.. يسراه ساحرة.. أهدافه خيالية.. بطولاته إعجازية.. من كان يعرف نابولي قبله.. دييجو دموع تنهمر لخسارة كأس.. للطرد من ملعب.. لعناق ضائع بين الجلد والخيط في معقل السيليساو.. دييجو معارك فوق الميدان بالأفخاذ والأذرع.. بالبوكس.. دييجو كوكايين ومافيا ومحاولات اغتصاب.. دييجو كروت حمراء وصفراء ومنشطات وإيقافات.. دييجو شتائم واتهامات وفشل وفساد.. دييجو مرآة للإنسانية.. ليو.. ليو.. ليو.. إنجاز الثورة الصناعية.
ليو ودييجو في بيزنس المستديرة سلعة بلا شك.. مشاعر ملايين ملايين العشاق والمشجعين حول العالم تترجم مليارات الدولارات في خزائن أباطرة الملاعب ومتعهدي النجوم.. لكن ليو يغسل أكثر بياضًا على طريقة إعلانات مساحيق التنظيف.. ارتداء قميص قديم، متهاك، باهت، أكثر حميمية لدى كثيرين.. دييجو طعم ولون ورائحة.. ليو معلب.
ليو تقيء في موقعة الحسم أمام الماكينات (نهائي كأس العالم 2014).. مشهد طالما تكرر في الليجا.. البرسا تقول لا داعي للقلق.. الفحوصات مطمئنة.. الأوراق سليمة.. غير مسموح لليو بالصراخ.. آه.. محرمة عليه.. يتقيء ويواصل النزال.. لا مكان للألم.. لا وقت للراحة.. الملايين تحت أقدامك.. المليارات في ركلاتك.. السوق لا يحتمل غيابك.. ليو فقد سحر الطبيعة.
ليو تائه مع التانجو.. ملك مع البرسا.. جندي درك قليل الحيلة مع الأبيض والسماوي.. دييجو كان امبراطورًا.. لعب وسط أقرانه.. من شبوا على نفس نمط الحياة.. على نفس أسلوب التفكير.. ليو غريب في بيته.. أرجنتيني في جواز السفر.. أسباني القدم والعقل.. سر الداء هنا.. التانجو لن ترفع الكأس بأقدام ليو إلا إذا استرد جنسيته فوق العشب..
* فصل من كتاب (الدين والجنس والثورة في كرة القدم)، علاء عزمي، دار دلتا للنشر، 2015