تعد مغامرات البحر والقراصنة والبحث عن الكنوز المخفية في الجزر المجهولة، من القصص المحببة للجمهور، سواء كانت مكتوبة على شكل روايات أو قصص مصورة “كوميكس”، أو دراما تليفزيونية وسينمائية مثل مغامرات القرصان (جاك سبارو).
ودائما ما كان يتم عرض صورة القرصان في شكل الرجل الشرير، الذي يرفع علما مرسومًا عليه جمجمة وعظمتان متقاطعتان، وهى صورة شكلها البحارة الذين تمكنوا من النجاة من هجماتهم في أعماق المحيطات، وهى صورة تحمل الكثير من الصدق، فالقراصنة كانوا إضافة إلى الظواهر الطبيعية، أعداء التجارة العالمية والدول الكبرى، سواء في البحر المتوسط “فترة الحروب الصليبية وما بعدها”، وأدى إلى تأثر حركة التجارة بين موانئ جنوب أوروبا وشمال إفريقيا، أو المحيطات الكبرى، وقطع طرق التواصل مع العالم الجديد “أمريكا وأستراليا”.
جاك سبارو غير وبشكل مذهل، الصورة الذهنية عن القراصنة، التي ظلت في مخيلتنا منذ فترة قراءات قصص ومغامرات مرحلة الصبا، ليجعل الجميع بما فيهم الأطفال والكبار يحبون تلك الشخصية، وأصبح زيه المميز بالقبعة الجلدية والشريط الأحمر على الرأس، وسيلة التنكر المفضلة للأطفال في اعياد الهالوين والحفلات التنكرية.
سر جاك سبارو
يكمن السر في تميز جاك سبارو في سلسلة أفلام “قراصنة الكاريبي”، بأجزائها الخمسة حتى الآن، إلى شيئين، أولا: النجاح في رسم الشخصية على الورق بشكل مختلف ومغاير لما هو متوقع أو موروث في الوعى، بحيث جاءت تحمل قدرا من المشاعر الإنسانية، وبعيدا عن نمطية الشر أو الخير المطلق أو حتي التركيز على الشكل الخارجي للشخصية، كالملامح القاسية الشريرة التي تنفر المشاهد منها، وتمنعه من التعاطف معها، فجاك سبارو تم رسمه كشخص طبيعي من لحم ودم، يمكن تقبله وتصديقه، أما الأمر الثاني: فهو جوني ديب – الذي لا يمكن بل ربما يستحيل تخيل ممثل آخر يمكن أن يؤدى الدور بدلا منه.
تميز جوني ديب في أداء دور سبارو، يأتي لأنه ممثل من مدرسة ينتمي لها ممثلون آخرون مثل جاك نيكلسون ومارلون براندو، مدرسة تسعى وراء تقديم الأدوار الغريبة والتجريب في الأفكار والأداء والبحث عن غير المألوف، حتى لو لم يحقق ذلك نجاحا جماهيريا أو ماديا، وهو ما فعله ديب في أفلامه السابقة مثل: “العثور على نيفر لاند”، أو في فيلمه “رجل ميت” للمخرج المستقل جيم جارموش، أو “أحلام أريزونا” مع اليوغسلافي كوستاريتسا.
والغرائبية هنا لا تعنى الشكل أو الظهور باكسسوارات مبالغ فيها، وإنما تعنى “الدور نفسه”، الشخصية المكتوبة التي ربما يرفضها أو لا يفهمها أخرون، لكن أمثال جوني ديب سيتمسكون بها بقوة، بل ويضيفون لها من روحهم، فهي تعبر عن شيء ما كامن بداخلهم، وتمثل جزء من شخصياتهم.
ممثل عبقري
بالتأكيد أضاف جوني ديب لشخصية جاك سبارو الكثير من الأشياء التي لم تكن مكتوبة في السيناريو، سواء على مستوى الشكل أو الأداء، وهو ما يفعله الممثلون العباقرة، فمارلون براندو مثلا أضاف لشخصية كورليونى في فيلم “الأب الروحي”، طريقة الكلام والصوت الأجش وشكل الوجه وتسريحة الشعر، وطبقا لتقارير صحفية فإن الكثير من اكسسورات جاك سبارو كانت من اختيار جوني ديب، والمتابع لأعماله السابقة سيكتشف بسهولة بصماته على “سبارو”.
شخصية جاك سبارو في قراصنة الكاريبي، تأثرت ببيئتها، فشخص يقضي معظم حياته وسط الأمواج والعواصف لابد أن ينطبع ذلك عليه، وهو ما تفعله الجغرافيا في الإنسان، فأبناء الصحراء مختلفون عن أبناء الريف أو المدينة أو السواحل، فالمكان لا يمنحنا فقط رؤيتنا للعالم بل ويساهم في صقل ذواتنا وأدائنا الحركي واللغوي أيضا، وهنا كان البحر حاضرا في شخصية جاك سبارو، فهو هائج أحيانا وهادئ في أحيان أخرى، متقلب المزاج، غاضب ومرح، من الممكن أن يقدم المساعدة للآخرين لكنه في لحظة مستعد لأن يكون قاتلا، الانتقال بين كل تلك الحالات المتناقضة يتم بسهولة وسرعة، مثل حال البحر تماما، حتى حركته المتطوحة، السكرانة، وكأنه يكاد أن يسقط على الأرض، تشبه حركة الموج.
لو عددنا صفات جاك سبارو سنجد الكثير، فهو مرح ومغامر وانتهازي ولص وجبان ومقاتل ومخادع ومراوغ ومحظوظ ومقامر وقائد، وهى صفات يرغب في معظمها الكثير من الناس، فهو يحقق بشكل ما رغبات مكبونة بداخل المشاهدين، أو ما يتمنون أن يحيونه من مغامرة بدلا من الركود وروتين الحياة، فبداخل كل منا جاك سبارو صغير، يعبر عن نفسه في مغامرات المراهقة وجموح الشباب والتمرد على سلطة الأسرة والمدرسة والمجتمع، رغبة في تحطيم القيود والانطلاق بحرية والوصول للمعرفة عن طريق التجربة لا التلقين، فشخصية القرصان تحقق لنا ذلك في ظلام قاعة السينما وما يتبقى في ذاكرتنا من جاك سبارو.
لمسات فنية
لم يكتف صناع العمل بالتركيز على المعارك أو عوالم الكاريبي المفاجئة، لكن بعض المشاهد حملت لمسة فنية عالية، مما جعلها لا تمحى بسهولة من الذاكرة، ففي أحد أجزاء “قراصنة الكاريبي” يستيقظ جاك سبارو ليجد نفسه في صحراء بيضاء شاسعة وبجواره سفينته، تخيلوا ذلك، سفينة قابعة تحت الشمس وبعيدة بمئات الأميال عن الماء، وسيلة نجاة القرصان الوحيدة بلا فائدة، سلاحه في يده لكنه لن يستطيع استخدامه، ما كم المرارة التي سيشعر بها جاك سبارو وهو يرى بيته بلا قيمة، مشهد سيريالي مستلهم من عوالم السيرياليين الكبار خاصة سلفادور دالي، لينتهي المشهد بسريالية أعمق، حيث تتحول قطع الصخور الصغيرة إلى سرطان البحر، العشرات ثم المئات والآلاف، تتشقق الصخور مثل البيض وتفقس الكابوريا، التي تحمل السفينة وتذهب بها بعيدا نحو البحر.
جاك سبارو ليس قرصانا حقيقيا إنه قرصان أدبي، مختلف عما يحدث في الواقع، وهنا يكمن سحر الخيال الذي يستطيع إقناعنا بأي شيء، ويجعلنا نتعاطف مع الشر مثلما نتعاطف مع الخير، في فيلم “كابتن فيليبس – 2013” للنجم توم هانكس، والمأخوذ من قصة حقيقية، تم تقديم القراصنة المعاصرين قبالة سواحل الصومال، وقام بأداء دور قائدهم الممثل الصومالي الأصل “برخاد عبدي”، وترشح عنه لجائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد، والذي أدى الدور باقتدار، ولكن لأنهم قراصنة حقيقيون لم يتمكنوا من الحصول على حبنا.
أما سبارو فدخل نادي الشخصيات الأسطورية الخالدة، مثل جليفر أو أليس أو حتى جيمس بوند، فتحول إلى أيقونة يصعب تكرارها بنفس النجاح في أفلام لاحقة، وبخلاف الشخصيات السابقة، فإن سبارو لم يكن البطل الأوحد لفيلمه، وإنما واحدا من ضمن طاقم العمل، ورغم ذلك نجح في أن يتابعه المشاهدون وربما “يسرق الكاميرا” من باقي النجوم، ويلعب الدور الأكبر في نجاح “قراصنة الكاريبي”، حتى أنه لا يمكننا تخيل السلسلة بدون القرصان سبارو.
اقرأ أيضًا: أهم 10 أفلام لـ”آل باتشينو” عليك مشاهدتها