أن ترى أينشتاين مجسدًا على الشاشة، فتلك وحدها فرصة ذهبية بلا أدنى شك، وبالأخص لو أن العمل الدرامي المقدم أمتلك ناصية التمكن وأبدع في سرد التفاصيل المعقدة بسلاسة وتشويق.

صناع المسلسل الأمريكي “جينيس/ العبقري”، الذي انتهت مؤخرًا مجموعة قنوات شبكة ناشونال جيوجرافيك من إذاعته حصريًا، إنما لم يشخصوا الفيزيائي الألماني الفذ وحسب، لكنهم حولوا نظرياته الرياضية وبالأخص أطروحته الأعظم “النسبية” وكأنها شخوصًا من لحم ودم.

بيد أن الإبداع الأكثر ألقًا في المسلسل، أنه كشف الوجه الآخر للعالم العبقري.. الجانب الإنساني المعتم عليه، أو بالأحرى من يجهله كثيرون، وبخاصة في المحيط العربي، فقير الإنجاز المفارق لنهم المعرفة.

إلا أن الفضل في إلقاء الضوء على الحياة العائلية والعاطفية والميول السياسية والتوجهات الإنسانية لا يعود في المقام الأول أو الوحيد لصناع العمل، بقدر ما يعود الفضل فيه إلى النص المكتوب الذي اعتمدوا عليه في كتابة السيناريو والحوار والحبكة الدرامية الناعمة.

روعة مسلسل العبقري، إنما تعود إلى ذلك الجهد البحثي الكبير الذي قام به الصحفي الأمريكي المرموق والتر إيزاكسون، في كتابه “أينشتاين حياته وعالمه”.

في ذلك الكتاب الضخم الممتع، وكما ظهر جليًا كذلك في المسلسل، تجسد السر الأكبر الذي يجهله محدودي العقل وسقف الطموحات، ومفاده أن المبدع الحق، تعيس دومًا في الحب والزواج والحياة الأسرية. كما أن عظمة الإنجازات لا تتحقق عادة إلا بضريبة فادحة في الشأن الخاص.

نبوءة العبقري

في شبابه تنبأ أينشتاين، في خطاب أرسله إلى أم صديقة له، أن سعادة العلم ستكون ملاذًا من العواطف الشخصية المؤلمة..

وقد كان، وثبت أن قهره للنسبية أسهل بمراحل من إيجاد معادلات تصلح لموائمة ما أسماه والتر إيزاكسون، في كتابه، وأيضًا حسبما نقل مسلسل “العبقري” عنه بأمانة، بقوى “الدوامة” داخل أسرته.

إيزاكسون ومن بعده العمل الدرامي، توقفا أمام عدد من المشاهد في حياة أينشتاين، تعكس فشله الذريع، بل وضجره الرهيب، من مسؤوليات الأبوة والزوجية.

خطاب وقح

فعلاقته بنجله الأول هانز ألبرت، الذي لم يكن قد تجاوز الحادية عشرة من عمره، أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، بدت متوترة لأقصى درجة. الولد كانت له مواقف متعارضة بقوة مع والده، حتى أنه كتب له ذات مرة خطابًا وقحًا قال فيه أنه لا يرغب في أن يراه على الإطلاق.

في المقابل كان أبو النسبية حادًا ومتسلطًا وذا شخصية قيادية أحيانًا. وكان أيضًا منعزلًا ومشتت الذهن، وقد أبعد نفسه بدنيًا وعاطفيًا عن الصبي الصغير، الذي كانت ترعاه أمه الفيزيائية مليفيا ماريتش المولعة به، وذلك بعد انفصلاها عن أينشتاين، حيث كانت تشعر بأنها أهينت على يد الأخير أثناء زواجهما.

يقول إيزاكسون إن الصبر العنيد الذي كان يتسم به أينشتاين في التعامل مع المسائل العلمية، يعادله نفاذ صبر عند التعامل مع العوائق الشخصية.

وساطة وطلاق

ولم يفت ميكيلي أنجيلو بيسو، صديق إينشتاين الحميم، التدخل على الطريقة الريفية للتوسط بين أينشتاين وأسرته، وقال له “يجب ألا تسيء للصبي إساءة فظة”.

ورغم ان بيسو كان يرى أن مصدر الخلاف هو ماريتش (الزوجة)، لكنه مع ذلك طلب من أينشتاين أن يتذكر أنها طيبة القلب، بل وحاول أن يخفف من الأجواء بين الزوجين فنبهه إلى الصعوبات التي واجهتها والدة نجله في التعامل معه “فلم يكن دورها كزوجة لعبقري أمرًا يسيرًا قط”.

غير أن تلك المحاولات وغيرها باءت بالفشل، وانتهي الأمر بالطلاق عام 1919.

رسالة الانفصال

قصة طلاق أينشتاين، كما ينقلها إيزاكسون، مثيرة للدلالات عن دجره بالزواج. فكتب رسالة لزوجته يتوسل إليها أن توافق على الانفصال النهائي، بحيث يستطيع كل منهم ترتيب ما تبقى من حياته.

وكتب لها مجددًا قائلًا “من المؤكد أننا نستطيع تسوية التفاصيل على النحو الذي يرضيك”.

ثم قال لها بإصرار في مرة تالية “المسألة بالنسبة إليك مسألة شكلية، لكنها بالنسبة لي واجب حتمي”.

كما حاول اللعب على الوتر الإنساني لديها بالافصاح عن الضغوط التي يتعرض لها على يد عمه ليتزوج من ابنته إلسا: “هي لديها ابنتان تتعرض سمعتهما وفرصتهما في الزواج للخطر بسبب الشائعات حول علاقة أمهما غير الشرعية بي”.. “وهذا أمر يثقل كاهلي، وعلينا أن نتداركه بزواج رسمي، حاولي أن تضعي نفسك في موضعي مرة واحدة”. بينما لجأ إلى اغرائها بالمال لإتمام الطلاق.

محاولاته للهرب من قفص ماريتش رسميا بعد انفصالهما واقعيًا، استمر قرابة خمس سنوات، تدخل خلالها العديد من الأصدقاء والوسطاء فضلا عن المحامين أمام الهيئة القضائية المختصة على طريقة محاكم الأسرة في مصر وبعض الدول العربية في وقتنا الحاضر، سواء للصلح أو للطلاق بأقل خسائر للطرفين ولولديهما الصغيرين آنذاك.

حرية أينشتاين

وفي الأخير كانت الصفقة الأغرب، وربما الأغلى في حياة أينشتاين، حيث اشترى حريته مقابل التنازل عن القيمة المالية لجائزة نوبل، إلى جانب مضاعفة عدد من الامتيازات المالية الأخرى كالنفقة وما شابه مما كانت تحصل عليها الزوجة والطفلان.

ورغم أن الطلاق وقع قبل حصوله على الجائزة بعامين كاملين، إلا أنه كان على قناعة تامة وثقة عمياء أنه سيقتنصها، وهو ما حدث بالفعل، لتنال ماريتش قيمتها كاملة والتي بلغت في العام 1919 قرابة الربع مليون مارك ألماني، ما يعادل 37 ضعف لدخلها السنوي.

المثير أن أينشتاين الذي حارب للطلاق في المرة الأولى كرر خطأه بالزواج مرة ثانية من ابنة عمه إلسا.

لكنه كان زواجًا مختلفًا. لم يكن رومانسيًا أو عاطفيًا. من البداية كان له ولإلسا غرفتا نوم منفصلتان. كما لم يكن زواجًا فكريًا أيضًا، وقالت إلسا فيما بعد “إن فهم النسبية ليس ضروريًا لسعادتي”.

اقرأ أيضًا: بعد 10 سنوات من التسابق.. العالم ينتظر الفائز بجائزة جوجل البالغة 20 مليون دولار