من المبكيات المضحكات، أن فقه الدهس والطعن والهجوم على المارة بالمطارق والحجارة وما شابه من وسائل الدواعش وذئابهم المنفردة، إنما بدأ من المطبخ!!
يمكن القول باطمئنان أن العالم يعيش اليوم إرهاب المطابخ بامتياز.
هذه ليست نكتة ولا لغزًا، الأمر ببساطة يعود إلى فكرة مجنونة تبناها أحد أخطر وأعتى المنظرين في تاريخ العنف الديني المسلح في طبعة ما بعد القاعدة.
ثم ما لبثت أن أصبحت الفكرة، ورغم رحيل صاحبها عن عالمنا، أسلوب حياة للعديد من الإرهابيين وبخاصة في زمن داعش، حيث الخلايا العشوائية المستترة، وتلك غير المرتبطة تنظيميًا بأي صلات مباشرة مع أي كيان مركزي أو واضح، فيما أنها وفي الأغلب تتكون من فرد واحد ووحيد.
أنور العولقي
وحده، الأمريكي من أصل يمني، أنور العولقي، كان يدرك سر خلطته الإرهابية الدموية رغم بساطتها.. كان يعي كم ستكون نتائجها مذهلة قياسًا إلى رغبته الموتورة في الذبح والتفجير والتدمير باسم نصرة الله، وبغض النظر عن كونها وسيلة غير معقدة وغير متوقعة لإسالة الدماء.
وعمومًا، العالم أُشعل مرارًا بالبارود والرصاص نزولًا على فكرة بسيطة آمن صاحبها بأهمية تحققها ولو على حساب تدمير العالم.
أدولف هتلر فجر حربًا عالمية فاشية قتلت 55 مليونًا فقط ليحقق فكرته عن سيادة الشعب الألماني والجنس الأبيض الآري بقوة السلاح، كحقيقة واقعة على الأرض.
رموز الإرهاب لا يقلون جنونًا.. فحين يتعلق المعتقد بما يعتبره صاحبه أنه وحيًا وإلهامًا إلهيًا، وأنه مكلف من السماء، يصبح الهوس مقدسًا.
العولقي، وبلا شك، من خريجي هذه المدرسة.. لكنه أمتلك الجنون والإبداع في ذات الوقت، فحول فكرة لا تخطر على عقل ووجدان إنسان، إلى أخطر سلاح يفزع الجميع حول العالم، ولما لا وقد صار في يد الدواعش.
صناعة القنابل
وكان المؤسس الحقيقي لفقه الإرهاب العشوائي (أنور العولقي)، دشن قبل سنوات بعيدة، في مقاله الشهير في المجلة القاعدية الإنجليزية الإلكترونية المعروفة، Inspire (وحي)، فكرة صناعة القنابل والأحزمة المفخخة من مكونات بسيطة كالتي تحتويها المطابخ والبيوت.
المقال حمل اسم “كيف تصنع قنبلة في مطبخ أمك”، إنما هو دستور عمل لغالبية المتورطين في العمليات الانتحارية أو شبه الانتحارية على الساحة حاليًا، بما فيها الساحتين العربية والمصرية..
الملهم الفكري
والعولقي اغتالته الولايات المتحدة الأمريكية بالقرب من صنعاء نهاية سبتمبر 2011، بعد مطاردة امتدت سنوات، وهو يعرف بأنه الملهم الفكري الأول للقاعدة، فضلًا عن كافة رموز الجهاد العالمي، وخاصة من غير العرب، نظرًا لتمكنه التام ليس فقط من اللغة الإنجليزية، بحكم النشأة والدراسة والمعيشة في الولايات المتحدة الأمريكية لسنوات طويلة.
ولكن أيضًا لكونه كان يجيد آليات التأثير النفسي والإيديولوجي بها، حتى أن دروسه في بلاد العم سام كان يُسمع بها ذلك النحيب والبكاء من جانب المسلمين الأجانب، على غرار ما يحدث في مساجد الشرق الأوسط، بصفة عامة، على يد عدد من الشيوخ البكائين.
شقيقه الأصغر، عمار العولقي، نقل عن عن ضابط استخبارات غربي قوله: “الحقيقة أنا درست وحللت عن عمق شخصية وعقلية هذا الرجل (العولقي)، وللأمانة فإنني اندهشت لمدى التأثير والقيادة التي يملكها هذا الشاب ….، هو لا يقود جيشًا ولا مليشيًا، لا يملك المال ولا بروباجندا الإعلام، ولكنه بكلماته استطاع أن يؤثر على شريحة واسعة من الشباب المسلم في العالم الناطق باللغة الإنجليزية”.
الغائب الحاضر
ودومًا كان العولقي حاضرًا في حوادث إرهابية ضخمة هزت العالم، ولكن في الخلفية أو في الكواليس، عبر علاقات مباشرة أو صلات روحية بمنفذي الجرائم الكبرى،
من أحداث 11 سبتمبر، إلى عملية نضال مالك حسن، الذي قتل ثلاث عشر جنديًا أمريكيًا، في قاعدة فورت هود في تكساس، قبل 8 سنوات، ناهيك بمحاولة النيجيري عمر فاروق، تفجير طائرة نورث آير لاين 253، المتجهة من أمستردام بهولندا إلي ديترويت/ ميشيجان، في الولايات المتحدة الأمريكية، يوم عيد الميلاد (25 ديمسمبر) 2009، وصولًا إلى الهجوم على صحيفة “شارلى إبدو” مطلع العام 2015.
والآن يدين له مختلف الذئاب المنفردة والانتحاريين الدواعش، الذين فجروا ودهسوا وقتلوا وطعنوا، في برلين، ولندن، واستوكهولم، ونيس، وباريس، والقاهرة، والإسكندرية، وطنطا، والمدينة المنورة، والكويت، وسوسة، وبرشلونة، وفنلندا وغيرها، بأنه من منحهم آليات العدمية، آليات قتل النفس والغير بدم بارد.. وللسخرية انطلاقًا من المطبخ.
سيرة ذاتية
قيادي القاعدة الراحل يبدو في بعض الأحيان، أخطر من أسامة بن لادن نفسه. الأمر يرتبط ربما بتميزه، مثله مثل باقي قادة التنظيم الكبار، بتعليم جيد وأصل اجتماعي رفيع، ما منحه فرصة لتنمية مهاراته ومنطلقاته الفكرية والذهنية.
سيرته الذاتية تقول إنه ولد لأب وأم يمنيين في مدينة نيو ميكسيكو.
والده ناصر العولقي حصل على الماجستير في الاقتصاد الزراعي في جامعة ولاية نيو مكسيكو في العام 1971، ثم على الدكتوراة في جامعة نبراسكا، قبل أن يعمل في جامعة مينيسوتا بين عامي، 1975-1977،
لتعود بعدها الأسرة إلى اليمن حيث درس أنور العولقي في مدارس آزال الحديثة، فيما شغل والده منصب وزير الزراعة ورئيسًا لجامعة صنعاء، كما عين علي محمد مجور، وهو أحد أقرباء العولقي، رئيسًا لوزراء اليمن في 2007.
أنور العولقي نفسه عاد إلى كولورادو بالولايات المتحدة الأمريكية، مطلع تسعينيات القرن الماضي، بمنحة دراسية من الحكومة اليمنية، لينال البكالوريوس في الهندسة المدنية عام 1994، فضلًا عن شهادة الماجستير في القيادة التربوية من جامعة ولاية سان دييجو. ناهيك باشتغاله على درجة الدكتوراه في تنمية الموارد البشرية في واشنطن جورج وكلية الدراسات العليا جامعة التربية والتعليم والتنمية البشرية من يناير إلى ديسمبر 2001.
الانبهار والافتتان به من جانب جموع الجهاديين له سبب منطقي إذن.. الرجل يجمع في رأسه العلم والإيديولوجيا وروح الحضارة الغربية في التفكير، وبالتالي فتأثر الجهاديين/ الإرهابيين الجدد، وبخاصة الذئاب المنفردة والخلايا العشوائية الصغيرة، كبير و بشدة.
قنابل المطابخ
ولم يجد الدواعش ما يمنع في الاستعانة باستراتيجية العولقي للإرهاب العشوائي المفاجئ المستوحى من قنابل المطابخ “قليل الكلفة من الناحية الاقتصادية/ الفردي أو القائم على خلايا قليلة العدد جدًا”.. إذا ما تعلق الأمر بإسالة الدماء تسقط كل الخلافات الإيديولوجية بين التنظيمات..
بحق نحن نعيش زمن إرهاب العولقي، إرهاب مطابخ الأمهات، ولكن في ثوب داعشي.. إرهاب الخفافيش والخلايا الصامتة والضربات العشوائية فقيرة التكلفة، إرهاب رخيص ماديًا ومعنويًا، غير أنه باهظ في النتائج الموجعة.
اقرأ أيضًا
دماغ “دواعش اليسار”.. سجائر وماريجوانا وويسكي اسكتلندي
غزوات عيادات التجميل.. دواعش “البوتكس” يتنكرون بنفخ الشفايف ورفع الحواجب