اختار المخرج الأمريكي جيم جارموش لنفسه خطا مغايرا لما تطرحه سينما هوليود، بعيدا عن حساباتها التي تضع عينيها على شباك التذاكر، بغض النظر عن القيمة الفنية أو الجمالية للأعمال السينمائية.
طريق صعب سار فيه جارموش المولود في 1953، لكنه أصر عليه، مقدما مجموعة من الأعمال الهامة، منها “:رجل ميت – 1995″ و”جوست دوج.. طريق الساموراي – 1999” و”زهور محطمة – 2005″، و”فقط المحبون هم الخالدون 2013″، و”باترسون – 2016″، رافضا المسير في الطريق الذي سار فيه الجميع من قبله، فمن وجهة نظره، مشكلة ستوديوهات هوليود تكمن في أنها “جبانة للغاية” لأنها تسير على المألوف والمعتاد دون خوض تجارب أخرى واكتشاف طرق بديلة.
يحمل جارموش رؤية مختلفة عما تراه هوليود وهو ما جعل أفلامه تحمل نكهة مختلفة، ربما جاءت من تعرفه مبكرا وخلال إقامته في باريس في العشرين من عمره، على تجارب سينمائية من البرازيل واليابان إضافة بالطبع إلى السينما الفرنسية والأوروبية بوجه عام.
وتتميز أعمال جارموش بالخروج عن النمطية، خاصة في الحبكة الدرامية، إضافة إلى اهتمامه بالأدب وتحديدا الشعر، وهو عنصر بارز في العديد من أفلامه، وكذلك اهتمامه بفئات من المجتمع يمكن أن نسميها “عير مرئية”.
الحبكة
لا توجد في أفلام جارموش حبكة بالمعنى المتعارف عليه في السينما التقليدية، فالأحداث تبدو كأنها تسير في خط أفقي دون وجود لتصاعد درامي، أو العقدة ثم الحل، لذا من الصعب حكى أفلام جارموش أو تلخيصها في كلمات، ففي فيلمه “جوست دوج” يتحدث عن قاتل محترف يذهب في مأمورية لاغتيال شخص ما لا نعرفه ولا نعرف أيضا الأسباب التي سيقتل من أجلها، الفيلم يتحدث عن رحلة القاتل في الوصول إلى هدفه دون الخوض في التفاصيل أو صنع حبكة درامية مشوقة، أما فيلم “رجل ميت” وهو من نوعية أفلام الغرب الأمريكي، فيدور حول شاب يتورط في عملية قتل ويهرب إلى الغابة من مطارديه، ليلتقي رجلا من الهنود الحمر، ويتحدثان في قضايا وجودية وأدبية.
أفلام جارموش تعرض مواضيعها بشكل غير مألوف، فهو يبتعد عن كل ما قيل من قبل وتم تناوله، ملقيا الضوء على نقطة لم تحظ باهتمام كاف أو يتناولها من زاوية أدبية وربما فلسفية، ففيلم “رجل ميت” مثلا، يبدو بعيدا عما تعوده المشاهد من أفلام الغرب الأمريكي “الويسترن”، بصراعها بين الخير ممثلا في القانون والشر الذي يمثله قطاع الطرق والقتلة، وتحمل محاورات البطل الذي أدى دوره جوني ديب، مع الهندي الأحمر والذي لعب شخصيته جاري فارمر، طابعا أدبيا، حتى أن نهاية الفيلم تبدو وكأنها رحلة إلى العالم الآخر بواسطة مركب يبحر ببطء في بحيرة حاملا البطل وسرعان ما يختفي بعيدا، أما في “جوست دوج” فلا تنتظر طلقات الرصاص أو مشاهد أكشن وسباق السيارات وصافرات عربات الشرطة ومطاردتها للقاتل، كما يحدث في مثل تلك النوعية من الأفلام، حيث أنه يكتفي باستعراض رحلة القاتل للوصول إلى هدفه، وكأنها أيضا رحلة تأمل للحياة وللوجود.
ويبرر جارموش اختياره لتلك النوعية من الأفلام، بأن الأفلام التقليدية لا تجذبه، فهي تختزل حياة البطل في اللحظات الدرامية القصوى فقط، ويرى أن ذلك أمر خاطئ، لأن تلك اللحظ ومهما كانت، لن تعطينا صورة حقيقية ووافية حول الشخصية، فهو يسعى بدأب لصنع صورة غير مزيفة للشخصية التي يتناولها وهذا لن يحدث باستخدام الأساليب التقليدية.
الشعر
جارموش الذي درس الأدب الانجليزي في جامعة كولومبيا قبل أن يتجه لدراسة السينما في أكاديمية نيويورك، مكث في شبابه تسعة أشهر في باريس قضاها متنقلا بين دور السينما، متعرفا على المدارس المختلفة عن هوليود، وقد أهتم في أفلامه فيما بعد بالاهتمام بالشعر، والذي دائما ما كان حاضرا وبقوة، ومثل عنصرا أساسيا في بعض أفلامه، سواء كان بشكل مباشر مثل فيلمه “باترسون” أو بشكل غير مباشر.
فلم يكن غريبا إذن أن يختار لبطل فيلم “رجل ميت” اسم وليام بليك، على اسم الشاعر الإنجليزي الشهير الذي ولد 1757 وتوفي في 1827، أو أن يصنع فيلما كاملا مستلهم من ديوان وحياة شاعر أمريكي هو ويليام كارلوس ويليامز “١٨٨٣ – ١٩٦٣”، ويدور حول سائق حافلة اسمه باترسون يعيش فى مدينة باترسون ويهوى كتابة الشعر، أما في فيلم “جوست دوج” فيستعين بمقطع من قصيدة لمحمود درويش تلفيها الفنانة الفلسطينية هيام عباس، التي تقوم بنقل القاتل إلى هدفه، بحيث تكون تلك القصيدة هي جملتها الحوارية الوحيدة لها في الفيلم، علما بأن البطل لا يفهم لغتها العربية، وقد كرر استخدامه للثقافة العربية مرة أخرى في فيلمه “فقط المحبون هم الخالدون” والذي يدور حول قصة حب خالدة بين اثنين من مصاصي الدماء، مستخدما الموسيقي والأغاني العربية.
هوليود
اهتمت أفلام جارموش بفئات بمكن أن نطلق عليها اسم “غير المرئيين”، وهم الفئات التي لا تحظى باهتمام من قبل الآخرين وكأنهم عير موجودين معنا في هذا الكوكب، مثل شخصية الهندي الأحمر في فيلم “رجل ميت”، وإمعانا في السخرية عرف نفسه عندما سأله البطل عن اسمه بأنه “الذي لا اسم له”، في دلالة واضحة على شعوره بعدم وجوده في الحياة أصلا، حتى أن شخصيته بدت متراوحة بين الواقع والخيال، في المنطقة الوسطى بين هذين العالمين، وكأنه مجرد فكرة في عقل البطل المطارد من قبل الآخر، والذي تحول بدوره إلى كائن هامشي تسعى وراءه كلاب المتتبعين لأثره للانتقام منه وقتله. أو تسليط الضوء على شاعر أمريكي كبير هو ويليام كارلوس ويليامز، الذي غطت على قيمته الشعرية شهرة ابن جيله الشاعر إزرا باوند، في فيلمه الأخير “باترسون”، حيث ظل كارلوس ويليامز في مدينته باترسون مخلدا ناسها وثقافتها في شعره باحثا عن طريق مختلف في قصائده، ليظل رغم اسهامه في تطور الشعر الأمريكي المعاصر، بعيدا عن النقد والشهرة، على الأقل خلال فترة حياته.
أفكار جارموش التي قدمها في أفلامه، لن تفلح مع صناع السينما في هوليود، لذلك كان عليه أن يبحث عن منتجين لأفلامه خارج أسوارها، ليصبح من أبرز المخرجين المستقلين في الولايات المتحدة، على الرغم من أن ستديوهات أمازون أنتجت له فيلمين، إلا أن علاقته بهوليود لم تتحسن، وتبدو كعلاقة الأعداء، وقد صرح جارموش، بأنه ستكون معجزة كبيرة لو أنتجت هوليود فيلما يحمل فكرا جديدا، متهما إياها بالخوف وعدم القدرة على تسويق الأعمال المختلفة، فستديوهات هوليود تمارس السينما من منطلق صفقات العمل “بيزينس”، وليس كعمل فني.
ربما تحمل رؤية جارموش تحاملا كبيرا على هوليود، فهي تعبر أكثر عن حالة من الغصب تجاه نمط من السينما يلعب في المضمون، ويخاف من التجربة في إعمال جديدة، مجرد صناعة تفكر أكثر في العائد المادي للفيلم قبل القيام بتصويره، وحرصها على تقديم الوصفة المضمونة والمعتادة.
ينتمي جارموش إلى سينما المؤلف، حيث يكتب أفلامه بنفسه، وأخرج حوالي 12 فيلما طويلا، إضافة إلى عدة أفلام قصيرة، وبدأ إعماله الطويلة بفيلم “أجازة لا تنتهي” عام 1982، وآخرها “باترسون – 2016”.