“كان ضياعه حكما على مدرسة الكروتة والاستهانة والاستخفاف بعقول الناس، وكان سقوطه دليلا على أن الجماهير تمهل ولا تهمل، وأن حاسة التذوق عندها لم تمت”..
بتلك الكلمات وغيرها أطلق الكاتب الصحفي الساخر محمود السعدني رصاصة الرحمة على نجم اهتزت له دور السينما في مصر وخارجها على نحو قد يمتد لخمسة عشر عاما، أكل فيها الأخضر واليابس من كل منافسيه، وبزغ كالنجم ظهر سريعا وانزوى في الظلام سريعا.
إسماعيل ياسين الذي صار حديث الصحف والمواقع المصرية على خلفية انتقاد الفنان المصري محمد رمضان له في حواره لجريدة “المصري اليوم” لتجسيد الفنان الراحل لدور عسكري في الجيش المصري، واصفا تلك الأدوار بالمسيئة للجيش المصري.
وتعرض رمضان لهجوم حاد على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن رمضان خرج لينفي ما أذيع في عنوان حواره مع الجريدة، واعتذر لأسرة إسماعيل ياسين، إلا أن المصري اليوم نشرت تسجيلا تثبت فيه ما قاله رمضان عن “سمعة”.
ما بين انتقاد من رمضان لياسين، وهجوم من الجمهور على رمضان، يظهر تساؤلا: هل كان محمد رمضان أول من انتقد أفلام إسماعيل ياسين؟
في كتابه الذي أصدره قبل عام واحد من وفاة إسماعيل ياسين، كتب الناقد الساخر، الراحل محمود السعدني عن أبرز نجوم الكوميديا بداية من نجيب الريحاني وحتى الشاب عادل إمام في كتاب أسماه بـ”المضحكون” عام 1971، متحدثا عن مميزات كل فنان منهم وما رآه فيهم من عيوب، وجاء الدور في كتابه على إسماعيل ياسين الذي أسماه بـ”الغلبان”.
لماذا كان إسماعيل غلبانا؟
يرى السعدني أن إسماعيل ياسين فنانا موهوبا ودمه خفيف إلى أبعد الحدود، له حضور لدى الجمهور، وهو أقدر الناس على إضحاك البسطاء لأنه بسيط مثلهم، وغلبان مثلهم، وضعيف الحيلة مثلهم، لكن اللوم كله يقع على عاتق أبو السعود الإبياري.
نعود إلى الوراء قليلا.. فقد حدث لإسماعيل كل شئٍ فجأة، ارتفع إلى السماء فجأة وسقط فجأة “وعندما بدأ إسماعيل ياسين رحلة حياته العجيبة لم يكن يحلم بأكثر من أن يكون منلوجستا يضحك المعازيم في الأفراح والليالي والملاح، لكنه بالصدفة صار أشهر منلوجست في مصر، وصارت له مدرسة وأصبح له أتباع، ثم بالصدفة أيضا دخل السينما وصار بين الممثلين، ثم بالصدفة أيضا أصبح بطلا، ثم أصبح البطل الوحيد للسينما المصرية، واستطاع أن يفرض اسمه على شباك التذاكر وعلى الموزعين طيلة خمسة عشر عاما”.. كما يقول السعدني.
نجاح إسماعيل تخطى فكرة ظهور بطل فيلم، بل أصبح الفيلم يحمل اسمه، في ظاهرة لم تشهدها السينما العربية آنذاك إلا مع ليلى مراد..
فبداية من عام 1955 كوّن هو وأبو السعود الإبياري مع المخرج فطين عبد الوهاب ثلاثياً من أهم الثلاثيات في تاريخ السينما المصرية، أنتجوا فيها أفلام تحمل أغلبها اسم إسماعيل ياسين، منها إسماعيل ياسين (في متحف الشمع – يقابل ريا وسكينة – في الجيش – في البوليس –في الطيران –في البحرية –في مستشفي المجانين – طرزان – للبيع).
يتحدث عنها السعدني في كتابه: “صار اسمه بعد ذلك هو اسم الفيلم، إسماعيل ياسين أولا ثم يبدأ البحث عن اسم للفيلم، إسماعيل يس في البحر، وإسماعيل يس في البر، وإسماعيل يس في الأرض، ليس مهما أين يوجد أو أين يستقر ولكن المهم إسماعيل يس في الأول ثم بعد ذلك فليكن ما يكون!”.
وفجأة.. حدث ما لم يتوقعه أحد
فبدون سابق إنذار تدحرج إسماعيل يس من القمة إلى النسيان، كان سقوطه رهيبا وخاطفا -وفقا للسعدني- كأن يحمل بعض الناس فردا على الأعناق إلى قمة جبل، ثم يقذفون به فجأة إلى الهاوية.
يضيف السعدني: “لم يكن إسماعيل أول من سقط ولن يكون آخر من تدحرج، ولكن أهمية سقوطه أنه كان نهائيا وحاسما، فجأة اختفى كأنه المدمرة إيلات عندما ضربتها الصواريخ المصرية، لا مسرح ولا سينما ولا حتى في مسلسلات الإذاعة والتليفزيون، لم يعد أحد يهتم بالرجل الذي كان يوما ما علما على الفكاهة في مصر، وانزوى الرجل الضاحك الغلبان وكأنما هو الآخر استعذب الاختفاء وضاع إسماعيل ياسين”..
إسماعيل ياسين.. (أبوللو 13)
يرى السعدني أن “ضياع إسماعيل ياسين كان حُكما على مدرسة الكروتة والاستهانة والاستخفاف بعقول الناس، وكان سقوطه دليلا على أن الجماهير تمهل ولا تهمل، وأن حاسة التذوق عندها لم تمت، وأنها أقوى من تجار الفن وأقدر”، مؤكدا أن مأساة إسماعيل لا بد أن تكون درسا لكل المضحكين اللامعين الآن.
“إسماعيل بدأ وكأنه مثل (أبوللو 13) التي مرقت في العلالي حتى القمر ثم انفجرت فجأة، ولكن الفرق الوحيد بين إسماعيل ياسين و(أبوللو 13) أن الأخيرة انفجرت رغم كل الحسابات الدقيقة التي وضعها العلماء لكي تحول دون هذا الانفجار، ولكن إسماعيل لم يعمل حسابا لشئ كأنه كوكب يجري في فلك معلوم، أبو السعود الإبياري يكتب وإسماعيل يقوم بالتشخيص، وهلافيت السينما المصرية عند الباب في الانتظار، والمسرح في الليل عامر بالزباين”.
في سرد خطايا الإبياري
يحكي السعدني عن المسرح الشهير لإسماعيل ياسين، “كان المسرح الوحيد في العالم القادر على تقديم رواية كل أسبوع”، مضيفا: “إذا كان عرض الرواية يستغرق 3 ساعات، فإن أبو السعود قادر على تأليف الروايات في ثلاث ساعات أيضا، وهو لا يحتاج أكثر من 100 ورقة فلوسكاب وتدخين أربع شيش ودمتم والسلام، ولا شئ يهم إذا كانت الرواية الجديدة فيها نفس حوادث الرواية القديمة، ولا يهم إذا كان إسماعيل يردد نفس النكت التي رددها من قبل!”.
لم يظهر إسماعيل على المسرح وحده بل سيظهر حوله ممثلون وبعض هؤلاء الممثلين لهم أسماء لامعة وشهرة عريضة، ولكنهم سيكونون -وفقا للسعدني- مجرد بطانة تقوم بمهمة الفرش لإسماعيل وترييحه، ولذلك سنشاهد على مسرح إسماعيل عشرات الممثلين الكبار ولكنهم سيهربون جميعا واحدا وراء الآخر.
نظرية “الجمهور المغفل”
“من شدة إيمانه بنظرية (الجمهور المغفل) لن يهتم أبدا برعاية موهبة جديدة أو تنمية فنان موهوب، وهو سيعمى تماما، عن رؤية الموهوبين، ليس حقدا عليهم ولكن استخفافا بهم، وهو بدأ من نقطة الاستخفاف بالجمهور ولكنها ستجره إلى الاستخفاف بكل شئ بعد ذلك، عبد المنعم إبراهيم سيقضي مدة سنيدا في مسرح إسماعيل ثم يهرب، وستيفان روستي سيقف مثل خيال المآتة على خشبة المسرح حتى يموت، حتى الممثل الكبير محمود المليجي سيتدحرج إلى الحضيض كل ليلة على خشبة مسرح إسماعيل ياسين، لأنه لا يجد دورا يقوم به، ولا يجد كلاما ينطق به، ولكنه سيظهر على المسرح كل ليلة يتقاضى الأجر المتفق عليه”.. كما يقول السعدني.
“بهذا الأسلوب دخل إسماعيل ياسين السينما، المهم أن يكتب الإبياري وأن يقوم بالتشخيص إسماعيل ياسين، ثم أي ناس وأي حاجة، وكان الله يحب المحسنين”.
الكون تغير وسمعة لم يتغير!
يقول السعدني: “مضت سنوات طويلة، وتغير كل شئ حول إسماعيل ولكنه لم يتغير، ولم يستطع أن يرقب حركة نمو المجتمع، وصحيح أنه يشترك في أفلام ولكنه لم يشاهد أفلاما قط، ويشترك في مسرحيات ولكنه لم يشاهد مسرحيات قط، وهو يجيد القراءة والكتابة ولكنه لا يقرأ قط ولا يكتب قط، ووقع إسماعيل بين مخالب أسرته وأنياب أبو السعود الإبياري، على هؤلاء التفكير والتدبير وعليه التنفيذ، وبالضبط! استيقظ ذات صباح ليجد أن كل شئ قد رحل بعيدا”..
وبعد قراءة وجهة نظر الساخر محمود السعدني، هل كان رمضان محقا في انتقاده لاسماعيل ياسين؟