تفتح لنا السينما صندوق الدنيا، فمنها يستقي الكثيرون فلسفتهم في الحياة، وبها ينقل صناعها مغزى وجوهر أحداث تاريخية حدثت بالفعل، لكنها مرت دون أن تراها العين المجردة، فقط أصحاب هذا الشريط المدهش هم من يروها، وينقلوها بخيالهم.

ربما كان الرئيس الأمريكي ترومان يرقص على أنغام الموسيقى الهادئة وهو يأخذ قرار ضرب اليابان بالقنبلة الذرية. ربما كان الطيار الذي كان يقود الطائرة التي ألقت بالقنابل نفسها يحتسى كوبا من عصير الليمون وهو يضغط على زر الإطلاق، ويعلم أن بفعلته هذه سيتغير مجرى التاريخ.

أشرار العالم ليسوا بالطبع محمود المليجي وفريد شوقي وعادل أدهم، ليس هؤلاء الذين رسموا صورة نمطية للشرير، الذي يطق الشرر من عينيه، فيرفع حاجب هنا، و”يجز” على صفوف الأسنان الخلفية هناك.

الشرير يقتل وهو مبتسما، هكذا علمنا من الراحل الرائع محمود عبدالعزيز في فيلم “البريء” لعاطف الطيب، حيث رسم وحيد حامد (مؤلف الفيلم) شخصية غير معتادة لأهل الشر في السينما، حيث جسد عبدالعزيز دور “العقيد توفيق شركس”، قائد المعتقل الذي يضم مثقفين وسجناء رأي وفكر، وهو يحمل شخصيتين، فهو في منزله وبين أهله وديع ولطيف ويقوم بدور الساحر لأطفال العائلة، أما في المعتقل فهو “سادي”، يقوم بتعذيب المعتقلين وإذلالهم والحط من شأنهم إطاعة للأوامر.

هوليوود أم السينما وأبوها، جسدت الشرير كما يجب أن يكون، فكان روبرت دي نيرو عندما جسد دور “آل كابوني” في فيلم The Untouchables الذي قدمه المخرج بريان دي بالما في سنة 1987، حيث ظهر دي نيرو وهو يبكي من شدة تأثره وهو يشاهد مشهدا أوبراليا، تبعه بضحكة تقديرا للمثل على المسرح، بينما رجاله كانوا يغتالون المحقق العجوز جيم مالون أو – شون كونري -، الذي حاز في هذا الفيلم جائزة الأوسكار كأفضل ممثل في دور مساعد.

“القتلة في السينما المصرية” عنوان ربما لم يقترب منه أحد. ربما اقتربوا من “الأشرار” في السينما، فهناك العشرات من التقارير الصحفية التي ترصد أشرار السينما، المذكورين هنا وغير المذكورين، وهناك أيضا كتاب يحمل نفس العنوان كتبه 3 باحثين هم عمرو كامل وكريم طه ومحمد الهمشري، لكنهم صبوا جل تركيزهم على أشرار السينما العالمية.

في هذا الكتاب تحديدًا فصل مهم جدًا ربما يجيب على تساؤل “من هم القتلة المبتسمون؟”، أو بمعنى أدق “كيف يقتل شخصٌ شخصًا آخرًا وهو يبتسم؟”، الإجابة أوردها الكتاب في سطور تحكي تجربة عالم النفس الاجتماعي الأمريكي ستانلي ملجرام في الستينيات، حيث حاول الرجل أن يفسر حجم وكم العنف الذي مارسته البشرية إبان الحربين العالميتين.

كان ملجرام يريد معرفة مدى إحساس مرتكبي الجرائم بأخلاقية ما يرتكبونه، فجمع المشاركين في التجربة من خلال إعلان نشر في إحدى الصحف يطلب متطوعين للمشاركة في دراسة عن الذاكرة والتعلم في مقابل 4 دولارات في الساعة، إخفاءً لحقيقة الهدف الذي كان يجري من أجله التجربة.

تقدم العشرات ما بين 20 – 50 عاما، وينتمون إلى مستويات اجتماعية وثقافية مختلفة، وشملت التجربة (نظريا) ثلاثة مشاركين، أحدهم المشرف والثاني المتطوع والثالث الممثل، ولكن في الحقيقة كان المتطوع هو فأر التجارب أو من أراد ملجرام إجراء التجربة عليه، حيث أن الممثل والمشرف ليس إلا مشاركان لملجرام في تجربته.

أما عن خطوات التجربة فيجلس المشرف والمتطوع (محل التجربة) في غرفة، بينما يجلس الممثل في غرفة أخرى. كان المشرف يسأل المتطوع بعض الأسئلة، وعند كل خطأ يستخدم وبشكل متصاعد جهازا للصعق الكهربائي تتراوح شدته من 30 إلى 450 فولت.

كان جهاز الصاعق لا يعمل في الحقيقة، إلا ان الممثل في كل خطأ كان يتظاهر وكأنه قد تعرض للصعق فعلا، إلى أن يمثل بأنه مات.

المدهش أن 65% من الذين خضعوا للتجربة أكملوا الصعق الوهمي إلى 450 فولت، أي ضعف الجهد المنزلي (220 فولت)، وبمعنى أدق فهم مارسوا قتلا بدم بارد، لأنهم اقتنعوا تماما بأنهم أصبحوا تابعين لغيرهم، وصاروا على يقين بعدم وقوع الذنب عليهم.

تجربة ملجرام بالتأكيد تشبه مقالب رامز جلال في الصحراء وعلى متن الطائرات وفي قلب البحر وداخل المقابر الفرعونية، وربما فوق المريخ مستقبلا، وبغض النظر عن “فبركة” تلك المقالب من عدمها، إلا أنها تلق نسب مشاهدة مرتفعة للغاية في رمضان، شهر الصوم والبركة والإيمان، وهذا قد يدل على أن هناك تطبيع حقيقي بين القاتل المبتسم والجمهور الذي يبتسم أيضا وهو يشاهد مشهد القتل.

ثارت السينما على الصور النمطية الواقعية لأي شيء وكل شيء، فلم يعد من الإمكان أن يعود المليجي للظهور بصورة الشرير، ولم يعد من الإمكان أيضا أن يكون كمال أبورية هو الخيّر الوحيد في العالم.