عقب دخول الديانة المسيحية إلى مصر، فُرض على المصريين استخدام الحروف اليونانية، ومع الوقت اختفت اللغة المصرية القديمة ولم تعد تستخدم، وأصبح هناك شبه حاجز كبير بين المصريين وبين تاريخهم الفرعوني، حيث باتوا عاجزين عن فهم الرسومات المدونة على جدران المعابد والمقابر المنتشرة في ربوع مصر.
وظل الأمر كذلك حتى تمكن العالم الفرنسي “شامبليون” من فك رموز اللغة الهيروغليفية، بعدما عثر على حجر رشيد، لتبدأ عملية اكتشاف التاريخ الفرعوني والتعرف على كل تفاصيله الحقيقية.
ولكن قبل هذا الاكتشاف، لم يستسلم المصريون -وبالتحديد بعد دخول المسلمين إلى مصر- لفكرة عجزهم عن فهم تاريخ الحضارة الفرعونية، فكانوا يختلقون الكثير من القصص التي يعتمدون فيها على تفسيرهم الشخصي للرموز الهيرغليفية التي كانوا يعتقدون أنها ليست حروفا بالمعنى اللغوي، وإنما أدلة ترمز لأشياء خفية.
ومن هنا ظهرت العديد من الأساطير التي ارتبطت بالتاريخ المصري، ومع مرور الوقت، تجمعت هذه القصص والروايات، لتشكل تاريخ موازي لمصر، ولكنه تاريخ أسطوري غير حقيقي، ومن هنا جاء مصطلح “تاريخ مصر الخرافي”.
وكان الاعتماد الأول الذي بني عليه هذا التاريخ الأسطوري، هو ما ورد في القصص الديني، في القرآن والإنجيل والتوراة، فأي رواية تتعلق بمصر ذكرت في الكتب السماوية، كان المؤرخون يعتمدون عليها كأساس لقصص أطول وأضخم يضيفون إليها استنتاجاتهم وما يتناقله العامة ويضعون نهايات درامية مؤثرة من وحي خيالهم تتناسب مع العظة والعبرة التي يعتقدون أن القصة الدينية تريد إيصالها.
ومن هذه القصص، قصة موسى وفرعون، ويوسف وبني إسرائيل ودخولهم إلى مصر، وزيارة نبي الله إبراهيم إلى مصر، وقصة قارون، وغيرها من القصص الديني.
وبالرغم من وجود بعض المؤلفات التاريخية لرحالة ومؤرخين أجانب، مثل هيروديت وبلوتارك، كتبت عن فترة مصر الفرعونية بنوع من الموضوعية وبشكل علمي نسبيا، إلا أن المصريين ارتكنوا إلى التاريخ الخرافي الذي كان يستهويهم واعتمدوا عليه لفترة طويلة، لذا كان الغرب أعلم بحقيقة التاريخ المصري في تلك الحقبة من المصريين أنفسهم!
ويرى كثير من المؤرخين الأجانب، إن الأتراك والفرس والعرب، لم يكونوا ينظرون إلى آثار مصر كما يراها الأوروبيين، بل كانوا يرونها عجائب ومخابئ سحرية لكنوز دفينة تحرسها التماثيل والصور، وهو ما أثر في رواياتهم وتصوراتهم للتاريخ الفرعوني الذي كانوا يجهلونه بشكل كامل.
لذا، نرى أن مؤرخ كبير مثل المقريزي، يعتبر حجة في تاريخ مصر الإسلامية، ويشهد له بالحيادية والتزامه أسلوبا علميا فذا، وبالرغم من ذلك، عندما كان يكتب عن تاريخ مصر الفرعونية، كانت قصصه تمتلئ بالخرافات والأساطير، وكان لغياب الأدلة ينقل العديد من الروايات الوهمية التي يختلقها الآخرون أو يرددها العامة.
ونتيجة لذلك، كان هناك سلالة كاملة من الملوك الأسطوريين الخرافيين الذين لم يوجدوا أبدا، اعتقد العرب لسنوات أنهم حكموا مصر قبل آلاف السنين.
ومن هؤلاء الحكام الخرافيين، حاكم اسمه “خصليم” قال المؤرخون العرب إنه أول من بنى مقياس النيل، وحاكم آخر اسمه “مصرايم بن بيسر”، وهو أول حاكم تولى السلطة في مصر بعد الطوفان بحسب التاريخ الخرافي، وأول من بنى السفن.
ومن أشهر الملكات اللاتي ذكرن في التاريخ الخرافي، الملكة “دلوكة”، التي اعتقد العرب أنها ملكت مصر بعدما هلك فرعون موسى وجيش مصر ولم يبق في مصر من الرجال سوى العبيد، فتولت دلوكة الحكم وكانت تبلغ من العمر 160 عاما، وبنت سور شهير يعرف بـ”حائط العجوز” نسبة إليها، كي يحمي مصر من الغزاة في ظل غياب الجيوش التي تستطيع حمايتها.
أما عن الأهرامات، فكان بعض مؤلفي التاريخ الخرافي يرون أن من بناها هو “شداد بن عاد” بمساعدة من العماليق! بينما يرى آخرون أن باني الأهرامات هو الملك سوريد بن سلهوق وكان من سكان مدينة الأشمونين، حيث وضع في الأهرامات تاريخ الملوك والكثير من الأموال وجثث الحكام والكتب العلمية لحمايتها من الطوفان الذي تنبأ به أحد الحكماء في ذلك الوقت.
ورواية شبيهة يرددها المؤرخ ابن تغري بردي عن الأهرامات، ولكن يرى أن من بناها هو “هرميس”.
أما عن نهاية التاريخ الفرعوني، فكان يرى المؤرخون طبقا للتاريخ الخرافي، أنه انتهى مع غرق فرعون موسى، الذي كان يطلق عليه اسم “طلما ابن قومس” ووفاة جيشه بالكامل، حيث كانت دلوكة التي ذكرت سابقا، هي أول الملوك من الأقباط.
وعلى هذا المنوال، ظل المصريون يعتمدون في معرفة تاريخه على هذه المصادر الوهمية، حتى عثر عام من قبل أحد جنود الحملة الفرنسية على مصر، عام 1799، بالقرب من مدينة رشيد.
وهو حجر من الجرانيت الأسود، نقش قبل عام 196 قبل الميلاد، يتضمن مرسوما صادر عن الملك بطليموس الخامس، وكتب هذا المرسوم بثلاثة لغات، هي الهيروغليفية، والديموطيقية، واليونانية القديمة، وهو ما ساعد العالم الفرنسي شامبليون على فك رموز الحجر، وبالتالي فهم اللغة الهيروغليفية التي ظلت لغزا محيرا للمصريين لسنوات طويلة.