من أغرب الأشياء التي يمكن أن تصادفها في شوارع القاهرة المليئة بالغرائب، هو أسماء تلك الشوارع نفسها التي تجمعت على مر العصور المختلفة، فتجد أسماء شوارع باليونانية وأسماء بالقبطية وأسماء بالتركية، والتي لا يعي الكثيرون معناها أو سبب تسميتها في الغالب.
ومن أكثر أسماء الشوارع اللافتة، اسم شارع “قنطرة الذي كفر”، وهو اسم كان يطلق على أحد شوارع القاهرة حتى أربعينيات القرن الماضي، وهو شارع صغير متفرع من شارع بورسعيد، في المنطقة الواقعة بين مسجد السيدة زينب وميدان باب الخلق بالقرب من قصر عابدين.
فور سماعك لهذا الاسم، لا تملك سوى أن تتساءل: من هو الذي كفر؟ ولماذا تسمت إحدى القناطر باسمه ومن ثم أطلق الاسم على أحد الشوارع بالتبعية؟ وما هو السبب الذي قد يدفع المصريين لتمجيد شخص يتهمونه بالكفر وتخليد ذكراه بهذا الشكل؟ هل هو للعبرة والعظة من فعلته والجزاء الذي لاقاه؟ أم لأنه اتهم ظلما فأرادوا إنصافه؟
هذه الأسئلة أثارت جدلا واسعا على صفحات جريدة “المقطم” في عشرينات القرن الماضي، بين عدد من المتخصصين، للبحث في سبب تسمية هذا الشارع بذلك الاسم، وقد شارك في هذا الجدل مؤرخون، وموظفون بوزارة المعارف، وآخرون بمصلحة “تنظيم مصر” التي كان منوط بها تسمية الشوارع في ذلك الوقت.
البحث عن أصل التسمية
يقول علي باشا مبارك في كتابه الضخم “الخطط التوفيقية”، إنه كانت هناك قنطرة بالقرب من مسجد “الحين” يطلق عليها اسم قنطرة “الذي كفر”، وذلك عندما كان شارع بورسعيد لايزال خليجا تجري فيه المياه، ويؤكد علي مبارك إنه لم يستطع معرفة تاريخ إنشاء هذه القنطرة ولا منشئها، لافتا إلى أن المقريزي لم يذكرها في خططه لأنها أنشئت بعد وفاته.
فيما يقول محمد الششتاوي في كتابه “متنزهات القاهرة في العصرين المملوكي والعثماني”، إن الذي أنشأ هذه القنطرة، هو الأمير عبدالرحمن كتخدا عام 1762م، لذا كان يطلق عليها قديما قنطرة “عبدالرحمن كتخدا”، وفي خرائط الحملة الفرنسية، أطلق عليها اسم “القنطرة الجديدة”، كاشفا أنه لم يطلق عليها اسم “قنطرة الذي كفر” إلا في عصر أسرة محمد علي، دون أن يوضح سبب التسمية.
المهندس الإيطالي
في يوم 11 نوفمبر 1923، نشرت جريدة “المقطم” رسالة من أحد القراء، يوضح فيه سبب تسمية شارع “قنطرة الذي كفر” بهذا الاسم، كمشاركة منه في حملة أطلقتها الجريدة للتعرف على أسماء شوارع القاهرة وأصولها وأسباب تسميتها.
وأورد ذلك القارئ -الذي لم تنشر الجريدة اسمه- رواية مخالفة لما رواه الششتاوي، تتعلق بمنشئ هذه القنطرة، حيث قال إن من أنشأها مهندس إيطالي من الذين استقدمهم محمد علي باشا في بدايات القرن التاسع عشر، وكان اسم المهندس “Cavarelli” وتنطق بالعربية “كفريللي”، فسميت القنطرة باسمه، وكان العامة ينطقون الاسم على مقطعين “كفر” و”اللي”.
تابع صفحتنا على Facebook ليصلك كل جديد
وبعد سنوات -بحسب رواية القارئ- ظن الناس أن اسم الموصول “اللي” ورد بعد الفعل “كفر” بالخطأ، ليتم تحريف الاسم إلى “اللي كفر”، وعندما بدأت مصلحة التنظيم في توثيق أسماء الشوارع بالقاهرة، أبدلت اسم الموصول من العامية إلى الفصحى فأطلقت على الشارع بشكل رسمي اسم “قنطرة الذي كفر”.
وبحسب هذه الرواية، فلم يكن هناك شخص اتهم بالكفر كما قد يظن البعض من الاسم للوهلة الأولى، وإنما هو تحريف لاسم أجنبي.
الجاني المتهم بالكفر
ولكن القصة لم تنته بعد، فما أوردناه حتى الآن، هو مجرد رأي من الآراء التي قيلت في سبب التسمية، حيث أن هناك رأي آخر يرى أن الاسم لم يحرف من اسم أجنبي، بل هو اسم عربي من الأصل، وكان يقصد به من البداية شخص اتهمه العامة بالكفر!
فقد نشر مقال للدكتور زكي مبارك، في أحد أعداد مجلة “الاثنين والدنيا” أواخر عام 1945، أورد فيه قصة مغايرة تماما لسبب تسمية شارع “قنطرة الذي كفر” وهو الاسم الذي كان لايزال مستعملا حتى وقت نشر المقال.
حيث طرح الدكتور زكي مبارك تساؤلا في بداية مقاله عمن هو “الذي كفر”؟ وما هي مكانته في التاريخ حتى يرتبط اسمه بأحد شوارع العاصمة؟
ويجيب على هذه الأسئلة، بالقول إنه كان هناك أمير يدعى “عصام الدين” -لم يحدد في أي عصر عاش- كان يمتلك دارا واسعة بالقرب من بركة الفيل، حيث اكتشف هذا الأمير علاقة آثمة بين جارية من جواريه وأحد العبيد، فتوجه إليهما الأمير وضبطهما في وضع مخل داخل طاحون منزله، فقام بقتلهما على الفور، وألقى جثتيهما في عرض الطريق، فقال الناس: “تعالوا شوفوا اللي كفر، تعالوا شوفوا اللي كفر” وكان بالقرب من الموضع الذي ألقيت فيه الجثامين قنطرة، ومع مرور الوقت، أطلق اسم “الذي كفر” على القنطرة.
وطالب الدكتور زكي مبارك، أن يتم تغيير اسم الشارع إلى شارع “عصام الدين”، كاشفا أنه استقى هذه المعلومات من نسخة فرنسية لكتاب “ألف ليلة وليلة”!
فيما أورد أحمد تيمور باشا، قصة شبيهة كتبها على هامش كتاب “الخطط التوفيقية” في النسخة الخاصة به والمحفوظة بدار الكتب، قال فيها إنه كان بالقرب من هذه القنطرة دار لأحد أمراء محمد علي، وقد علم في أحد الأيام بوجود علاقة آثمة بين واحد من خدمه وجارية من جواريه، فقام الأمير بقتلهما وعهد إلى خادم من خدمه بإلقاء جثتيهما في بئر بالقرب من القنطرة، إلا أن الخادم صدم من مشهد القتل وتأثر عقله وأصيب بالجنون، فصار يخرج من الدار ويقف على القنطرة ويصيح “آدي اللي كفر” -أي هذا الذي كفر- وبقي على هذه الحالة مدة يومين إلى أن فارق الحياة، فعرفت القنطرة بهذا الاسم منذ ذلك الحين.
تغيير التسمية
وبغض النظر عن أصل تلك التسمية وسببها، إلا أن المصريين شعروا مع الوقت أنها باتت غير مناسبة لأن تطلق على أحد شوارعهم، ورأوا أنه لم يعد هناك من داع لتخليد ذكر هذا المتهم بالكفر.
وبالفعل، تم تغيير اسم الشارع في وقت لاحق إلى اسم “مصطفى عبدالرازق”، نسبة إلى الشيخ مصطفى عبدالرازق، الذي تولى مشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف في عهد الملك فاروق، وكأنما أراد المصريون أن يعتذروا عن السنوات التي ظلوا فيها يرددون اسم “الذي كفر”، باستبداله باسم عالم جليل بأصول الدين والفقه.