تعد الأسطورة حكاية غريبة يغلب عليها الخيال ويجتمع فيها التراث الشعبي والديني والتاريخي، كما تتجلي فيها المخيلة الشعبية والتصور الأدبي في تحويل الواقع إلى مبالغات وخرافات تجسد صراعات الآلهة والملوك والأنبياء والفرسان.

ولعل في قصة بلقيس ملكة سبأ والملك النبي سليمان ما يجسد تحول القصة واختلافها ما بين الأسطورة الشعبية عند العديد من الأمم والقصة الدينية في الكتب السماوية الثلاثة (العهد القديم والجديد والقرآن الكريم)، حيث تنوع تصويرها ما بين التمجيد والتنزيه والتهميش والتخطيء.

واختلفت الروايات على مكان وزمان مملكة سبأ فمعظمهم قال أنها “تيمن” أي اليمن وبعضهم قال بأنها كانت ملكة على مصر وإثيوبيا، وقد غالى البعض، فخلط بينها وبين “زنوبيا” ملكة شمال سوريا، إلا أن الأثريين يؤكدون على عدم وجود أية أدلة أثرية على وجود المملكة.

والأسطورة اليمنية تشطح بخيالها فتعود ببلقيس إلى عالم الجن، حيث يُقال بأن جنية غاية في الجمال كانت تعيش في سبأ وتزوجها مستشار “مكرب سبأ”، وأنجبا ابنة رقيقة أسموها بلقيس وأرسلوها إلى الصحراء لتربيتها مع أخوالها من الجن، ولما كبرت علمت أن بمأرب “مكرب” ظالم فعقدت العزم وذهبت إلى المدينة وتسللت إلى فراشه وهو نائم وطعنته بخنجرها المسموم فقضت عليه وخلصت اليمن من بطشه وحكمه، ولأنها كانت حكيمة وعاقلة ولا تعبد إلا ما تراه رؤي العين فقد عبدت وأهلها الشمس.

أما في الأسطورة الإثيوبية، وكما جاء في كتاب (مجد الملوك) والذي يؤسس لتاريخ قومي لأثيوبيا، فإنهم يسمونها بأسم “ماكيدا”، ويقولون إن بلقيس “ماكيدا” كانت عاشقة للحكمة، ولما سمعت عن سليمان وحكمته توجهت إليه لتختبر حكمته وتتعلم منه وإنه قد افتتن بها وحاول إغواءها، ولما باءت محاولاته معها بالفشل لجأ معها للخديعة، ففي آخر ليلة حاول أن يغويها فيها قدم لها طعاما شهياً وبه الكثير من الملح، وطلب منها الرحيل في الصباح واشترط عليها ألا تأخذ شيئاً من قصره عند رحيلها وتركها، ولكنه وضع خلسة كأساً من الماء العذب بالقرب من فراشها، فلما استيقظت عطشت من ملوحة الطعام ورأت الكأس بمائه العذب، فما كادت تمد يدها إليه حتى أمسك سليمان بيدها متهماً إياها بنقض الوعد والخيانة ما جعلها تذعن له، وأنجبا “منليك”، والذي يعني “ابن الحكيم”.

ولهذا فإن الإمبراطور “هيلا سيلاسي” ملك إثيوبيا السابق كان يعتبر نفسه الملك رقم ٢٥ من زواج “ماكيدا لسليمان”، ما جعله يضيف مادة بالدستور الإثيوبي تعطي عائلته الحق الإلهي في الحكم.

أما عن القصة – دينياً – في الكتب السماوية فهناك تباين واختلاف.

ففي العهد القديم: كما في نص (سفر الملوك ١٠ من ١ إلى ١٣)، أن ملكة سبأ سمعت بخبر سليمان وحكمته فذهبت إلي أورشاليم بقافلة عظيمة من الجمال محملة بالأطياب والأحجار الكريمة والبخور، لاختبار هذه الحكمة.

ولم يذكر العهد القديم ماحدث بينها وبين الملك سليمان بعد مناظرتها معه في اختبارات الحكمة، إلا أن التفاسير التوراتية وشروحات أحبار اليهود أطلقت لخيالها العنان فراحت تفَصّل في القصة استناداً لما ورد في التوراة من حب سليمان للنساء، فقامت باختباره بالأحاجي والألغاز وسألته في الحكاية المشهورة (أباك هو أبي، وجدك هو زوجي، أنت ابني وأنا أختك) فأجابها (ابنتا لوط) وغيرها من الحكايات العديدة، فافتتن بها، وأنجب منها – بحسب زعمهم – الملك البابلي “نبوخذ نصر الثاني”، وبلغ عدد الشعب في أيام سليمان أربعين مليوناً، إلا أن نهاية حكمه كانت مؤسفة فازداد افتتانه بالنساء وتعددت زوجاته حتي بلغن ٧٠٠ زوجة بخلاف ٣٠٠ من السراري، وبلغ به الأمر أن أذعن لزوجاته ومحظياته فبني معبداً وثنياً لغير الله، ما جعل نهايته بعيدة عن الله – حسب تصويرهم التوراتي -.

أما في العهد الجديد: فهناك من قصص تمهد لقدوم المسيح وتقلل من أهمية الملك النبي سليمان مقارنة بالمسيح وتعظم من حكمة بلقيس، حيث يُقال إنها عندما ذهبت إلى سليمان ركعت أمام حاجز خشبي مصنوع من خشب الشجرة المحرمة لعلمها بأن المسيح سوف يصلب مستقبلاً عليها، ولهذا لم تطأ الحاجز بقدميها وإنما خلعت حذاءها وآثرت أن تمشي حافية على الماء، وعندها حدثت المعجزة الآلهية مكافأة لها وتحولت قدماها الغريبتان – كقدمي الشاة المشعرة – إلى قدمين إنسانيتين جميلتين، ما أثار الهلع في قلب سليمان فأمر بدفن الحاجز الخشبي الذي اكتشف بعد ألف سنة وصنع منه الصليب الذي علق عليه المسيح.

ولذا يُقال – علي لسان المسيح – بأن (ملكة تيمن ستقوم في الدين مع رجال هذا الجيل وتدينهم، لأنها أتت من أقاص الأرض لتسمع حكمة سليمان وهو ذا أعظم من سليمان ها هنا – يقصد يسوع) بمعني أن ملكة سبأ ستقوم بإدانة منتقدي يسوع من اليهود الذين لم يصدقوه لأنها حكيمة استمعت لحكمة سليمان، ويسوع أعظم من سليمان في الاعتقاد المسيحي.

* أما في القرآن الكريم: فلقد أتت قصص سليمان وحكاياته في أخبار متناثرة في حوالي سبعة سور قرآنية (البقرة – النساء – الأنعام – الأنبياء – النحل – سبأ – ص) وأفاضت على سليمان من الحكمة والملك وتسخير الجن والطيور وحتى النمل وجعلت تأثيرة ممتداً لما بعد مماته، إلا أن قصته مع ملكة سبأ قد فصلت تفصيلاً في سورة النمل.

حيث تفتتح الحكاية بمشهد استعراض النبي سليمان وهو يتفقد جنوده من الطير فيفاجأ بغياب الهدهد فيتوعده بالعقاب -إن لم يكن هناك ما يبرر هذا الغياب المفاجئ-، وما أن عاد الهدهد وأدرك خطورة ما ينتظره حتى صاح مهللاً لافتاً نظر الجميع لأمرٍ جلل {…… فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)} (النمل).

فما كان من النبي سليمان إلا أن كلف الهدهد -برغم تشككه- فيه بحمل رسالة مكتوبة إليها بها إنذار ودعوة للهداية {اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28)}، وما أن قرأت بلقيس الرسالة حتى أدركت بحسها السياسي خطورة الموقف فجمعت مجلس حكامها ووزارءها وقادتها و{قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)}، مما يدل على فطنتها وسياستها التشاورية الديموقراطية الحكيمة، فأخذت العزة أصحاب المجلس وصاحوا مهللين {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)}،وتركوا لها الرأي النهائي، ولما كانت تستشعر الخطر من سليمان فردت موضحة لهم و{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)} ثم استقر رأيها على تقديم هدية عظيمة لسليمان لعله يتراجع عن تهديده.

{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)} مما دفع سليمان لرفض الهدية والرد الحاسم {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)}.

فأدركت بلقيس خطورة التحدي وقررت حفاظاً على شعبها ومالكها أن تذهب إليه مذعنة مستسلمة، ولما علم سليمان بقدومها إليه أراد أن ينزل الرعب في قلبها بقدرته على تسخير الجن وعمل المعجزات في نقل عرشها من مملكتها قبل أن تصل إليه ونادى في جنوده {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي… (40)} حتى أنها ذهلت حين أوقفها أمام عرشها – بعد أن أجرى عليه بعض التعديلات البسيطة – { قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)}، ولكنها كانت من الفطنة والذكاء وقدرت خطورة الامتحان الذي أعد لها عندما أوقفها أمام عرشها {.. قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ…(٤٢)}، ولم يكتف سليمان بذلك فأكمل تعجيزها وهي مازالت قلقة فسدد لها ضربته التالية {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ..} حيث حسبت الأرض الزجاجية- التي يجري الماء من تحتها- بركة من الماء، فرفعت ثوبها اتقاء البلل وكشفت عن ساقيها، ولما أدركت الحقيقة سلمت لسليمان وأسلمت {..قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٤)} ولهذا دخلت وقوامها الإسلام.

وإذا كان القرآن الكريم لم يتطرق إلى علاقتها بسليمان أو علاقات سليمان بالنساء عامة فإن الحديث النبوي قد أشار إلى ذلك وأشاد بفحولته الجنسية، وإن كان قد عتب عليه أيضاً نسيانه لمشيئة الله فعاقبه الله بندرة الأبناء، فكما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال {قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن يأتين بفارس. فقال له صاحبه قل إن شاء الله، فلم يقلها،. ولم تحمل منهن إلا واحدة فجاءت بشق رجل، فوالذي نفس محمد بيده لو قال إنشاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون} يقصد ذريته.