فى ربيع عام 1826 انتهز محمد على باشا الكبير، فرصة مرور السفينة الحربية “لاترويت” فكلف قبطانها روبيلار أن يحمل معه إلى مدينة مارسيليا الفرنسية أربعين شابا ليدرسوا فى باريس.

وبفضل جهود الشيخ حسن العطار أشار على الباشا بأن يضيف إلى الطلبة إماما يسهر على شئون دينهم، فكان تلميذه رفاعة الطهطاوي هو هذا الإمام.

سجل لنا الطهطاوى كل ما شهده ولمسه فى مدينة باريس من خلال كتابه الشهير “تخليص الإبريز فى تلخيص باريز”، حيث وصف شكل المبانى المنحدرة السقوف وشكل الشوارع المبلطة بالحجر والمزودة بمجار تحمل الماء إلى البالوعات، كما يصف المدافئ التى يوقدها الفرنسيون لاتقاء برد الشتاء وكذلك البساتين المتنوعة.

وعندما رأى نهر السين، الذى يمثل أحد روافد الأنهار بفرنسا، وتقع عليه مدينة باريس، آثر عليه رؤية نهر النيل.

قدر رفاعة عدد سكان ذات المدينة بنحو مليون نسمة، وخلال معايشته اليومية لسكانها تبين له اتصاف شعبها بشدة ذكائهم، وتأصل الثقافة فيهم وتوقهم إلى الفهم والاستطلاع والوقوف على كل طريف وولعهم بالصيف ودوام الذكر أكثر من تهافتهم على الكسب وعرف نشاطهم الجم، ووصف كل ذلك فى كتابه، كما وصف حركاتهم وتقلب مزاجهم وعواطفهم وحبهم لوطنهم وإكثارهم من الرحلات واحتفاءهم بالأجانب.

لكنه لاحظ تبذيرهم المال فى طلب اللهو، وكون الاعتزاز بأنفسهم يسوقهم إلى الانتحار وتأديتهم الواجب، ووصف الرجال عندهم بأنهم عبيد النساء، يثقون بهن ويدللوهن.

ووصف رفاعة من خلال طوافة بمدينة باريس، حدائقها وشوارعها من الشانزليزيه والبوليفار، حيث ينتشر العشاق ليلا، فضلا عن انتباهه لمظاهر احتفاء الباريسيين بالفن، من الأوبرا وحتى السيرك، وكذلك حفلات الرقص، وخصوصا “الديسكو”، بل أعجبته بعض الرقصات التي يشترك فيها الرجال والسيدات معا.

وتحدث الطهطاوي عن رقصة محددة شاهدها وعبر عن إعجابه بها، وبالرغم من أنه لم يذكر اسم الرقصة بل اكتفى بوصفها، إلا أنه يمكن استنتاج أنه كان يقصد رقصة “الكناري” من وصفه، وكانت مشهورة للغاية في قصور الملوك والأمراء والنبلاء الأوربيين في القرن التاسع عشر، إلا أن التاريخ يُرجع بدايتها إلى القرن السادس عشر في أوربا، حيث نشأت في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.

هاجمها أهل الدين في البداية ووصفوها بالرقصة “العشوائية”، فيما رقصها العامة في الشوارع، إلا أن البعض أطلق على هذه المحاولات البدائية اسم رقصة “أرجل الضفادع”.

جلبها الفرنسيون إلى القاهرة إبان الحملة الفرنسية، حيث كان يرقصها الجنود وزوجاتهم في المعسكرات التي أقاموها في مصر قبل الرحيل.

ورقصة “الكناري” مستمرة إلى الآن، إلا أن إيقاعات الموسيقى صارت أسرع قليلا، وهي تعتمد على عدد كبير من الراقصين يزيدون عن عشرين “عشرة من الرجال ومثلهم من النساء”، يأدون حركات متشابهة ومتناغمة، وسُميت بهذا الاسم لأنها تشبه رقص “عصافير الكناري”.