يحمل التاريخ المصري الكثير من القصص المشوقة التي تثير مخيلة الكثيرين وتدفعهم للتنقيب والبحث خلفها، إلا أن بعض هذه القصص المشوقة -إن لم يكن أكثرها- هي أحداث “أسطورية” أكثر منها حقيقية، خاصة إذا ما كانت تتضمن تطورات غير منطقية أو تخالف التاريخ الثابت الذي توصلنا إليه بالأدلة والآثار.
ومن بين هذه القصص التي تثير الجدل، قصة امتلاك مصر لسور ضخم، أحاط بها من جميع الجهات، أشبه بـ”سور الصين العظيم”، بهدف حمايتها من الأعداء وتحصينها ضد الغزاة.
فيما هي حقيقية هذا السور؟ وهل امتلكت مصر فعلا حائطا بهذا الحجم؟ وهل لازالت هناك بقايا له حتى الآن تثبت وجوده؟
الملكة دلوكة
كان المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي، واحدا من المؤرخين الذين تحدثوا عن هذا السور، والذي كان يطلق عليه “حائط العجوز”، حيث ذكر قصته في أكثر من موضع بكتابه “المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار”.
ويقول المقريزي إنه بعد وفاة “فرعون موسى” ورجاله غرقا، باتت مصر خالية من الرجال الأشراف، ولم يبق فيها إلا العبيد والأجراء، بالإضافة إلى النساء، لذا رفضن النساء ممن كن زوجات وبنات لرجال الدولة الذين غرقوا مع فرعون، من أن يتم تولية أحد الأجراء أو العبيد من الرجال لحكم مصر، وقررن أن يخترن من بينهن واحدة تتولى السلطة في البلاد.
وبعد تشاور بينهن -بحسب المقريزي- قررت نساء مصر تولية امرأة قبطية منهن يقال لها “دلوكة بنت زبا”، بسبب ما اشتهر عنها من عقل ومعرفة وخبرة، بالإضافة إلى شرف نسبها، وبذلك أصبحت “دلوكة” القبطية ملكة على مصر بالرغم من أن عمرها كان 160 عاما.
حائط العجوز
ويضيف المقريزي، إن الملكة العجوز خشيت من أن يتجرأ الغزاة على مصر بعدما غرق جيشها، ويطمعوا في الاستيلاء عليها ونهب خيراتها، لذا قررت أن تبدأ أكبر عملية تحصين في تاريخ مصر!
كانت الخطوة الرئيسية في عملية التحصين، تتمثل في بناء حائطا ضخما يحيط بأرض مصر جميعها من الجهات الأربع، بالإضافة إلى حفر ممر مائي خارج الحائط تمر فوقه قناطر، بهدف إعاقة أي معتدي من أن يصل إلى السور بسهولة، واستعانت دلوكة بساحرة كان سامها “تدورة” قامت برسم العديد من الطلاسم على أحجار السور لزيادة تحصينه، حيث انتهت من بناء السور بأكمله في ستة أشهر فقط!
وأضافت “دلوكة” العديد من نقاط الحراسة على السور، وطلبت من الحراس أن يقرعوا الأجراس إذا شاهدوا أي خطر يتهدد البلاد، فكان على كل حارس يسمع صوت جرس قادم من بعيد، أن يسارع هو الآخر ويقرع الجرس الذي بحوزته، وبذلك يصل صوت الأجراس إلى دلوكة خلال ساعة واحدة مهما كانت النقطة التي بدأ فيها إطلاق صوت الإنذار، ما يساعدها على الاستعداد مبكرا لمواجهة الخطر.
ويؤكد أن المقريزي أن الحائط كان قد تلاشى وتهدم مع مرور الوقت، وأنه في زمنه لم يبق منه إلا أجزاء يسيرة بالقرب من أسوان، لافتا إلى أنه أطلق على السور اسم “حائط العجوز” نسبة لدلوكة التي كانت تبلغ من العمر 160 عاما.
تاريخ مصر الخرافي
وبالطبع يمكن لأي قارئ أن يستشعر عدم مصداقية هذه الرواية، بالرغم من ورودها في كتاب المقريزي، والسبب في ذلك يرجع إلى أنها واحدة من القصص الكثيرة التي أدخلت على التاريخ المصري من قبل بعض مؤرخي القرون الوسطى، الذين فضلوا “اختراع” تاريخ موازي للمصريين القدماء، نتيجة عجزهم عن قراءة اللغة الهيروغليفية.
لذا، يعد الكثيرون قصة “حائط العجوز” واحدة من أشهر قصص “تاريخ مصر الخرافي” وهو التاريخ الذي ظل متداول بين العامة حتى فك رموز حجر رشيد الذي عثر عليه عام 1799م بمعرفة علماء الحملة الفرنسية، حيث بات المصريون قادرون على قراءة اللغة الهيروغليفية واكتشاف تاريخ أجدادهم الحقيقي.
حيث أن التاريخ الفرعوني لم يتضمن أي ذكر لملكة مصرية كان تدعى “دلوكة”، كما أن ذلك الحائط لم يأت ذكره في أي من مصادر التاريخ المصري القديم، إضافة إلى أنه لم يعثر له على أي أثر في المواضع التي قيل إنها بني فيها أو ظلت بقاياه فيها حتى وقت ليس ببعيد.