تعد المساجد الأثرية، المكون المعماري الرئيسي الذي حفظ تاريخ الكثير من الدول والشخصيات التي مرت على أرض مصر، كما كان للمساجد أدوار عدة منذ الفتح العربي امتدت لتشمل بخلاف الدور الديني أدوارا سياسية وعلمية واجتماعية هامة.
لذا كان حرص الدول المتعاقبة على مصر والتي أنشئت مدنها على أرض الكنانة، أن تسارع إلى بناء مسجدها الخاص الذي تكتب من خلاله التاريخ وتفرض به شرعيتها بين المصريين، وكان من الطبيعي أن تحافظ على هذا المسجد وتسعى لتجديد عمارته كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وهو ما ابقى لنا مساجد أثرية يمتد عمرها إلى أكثر من ألف عام.
وبالرغم من ذلك، يشهد التاريخ على حالة اختفاء غامضة، لواحد من أهم المساجد الجامعة التي بنيت في مصر، وهو مسجد “العسكر” الذي بناه العباسيون في القرن الثاني الهجري، حيث كان ثاني مسجد جامع يقام في مصر بعد مسجد عمرو بن العاص، وبالرغم من أن التطورات التاريخية حافظت لنا على مسجد عمرو وكذلك مسجد أحمد بن طولون ثالث المساجد الجامعة، إلا أن مسجد العسكر فُقد وضاع كل أثر له وكأنه لم يكن!
فما السر وراء هذا الاختفاء؟ وأين كان موضع هذا المسجد بالتحديد؟ وهل لازالت هناك أطلال له باقية حتى الآن؟
بناء مدينة العسكر
في نهاية حكم الدولة الأموية، وبالتحديد في عام 132هـ، فر آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد إلى مصر هربا من جنود بني العباس الذين كانوا يطاردونها لقتله، وعندما وصل الفسطاط، أشعل فيها النيران وأحرق الجسر الذي كان يربط بينها وبين جزيرة الروضة بهدف إعاقة الجنود من الوصول إليه، ثم توجه إلى الجيزة على أمل الاختباء في الصعيد.
إلا أن محاولات مروان باءت بالفشل، حيث داهمه الجنود في قرية بوصير جنوب الجيزة وطافوا برأسه في المدن للإعلان عن نهاية الدولة الأموية إلى الأبد، وانتقال الخلافة إلى البيت العباسي.
ويقول الدكتور أيمن فؤاد سيد في كتابه “القاهرة.. خططها وتطورها العمراني”، إن الولاة العباسيين بحثوا عن موضع جديد لإقامتهم في مصر بسبب الدمار الذي تعرضت له الفسطاط بعد حريقها، لذلك استقرت قوات القائد العباسي صالح بن علي، في المنطقة الممتدة شمال شرق الفسطاط، وكانت هذه المنطقة تعرف في صدر الإسلام بـ”الحمراء القصوى”، وهناك اتخذوا مساكنهم وأقاموا منازلهم فتكون من مجموعها مدينة “العسكر” أو “المعسكر”، العاصمة الثانية لمصر الإسلامية.
وكان يحد مدينة العسكر من الشمال، جبل يشكر الذي سيقام عليه لاحقا جامع أحمد بن طولون، ومن الجنوب كوم الجارح (منطقة أبي السعود الجارحي حاليا)، ومن الغرب المنطقة الواقعة بين شارع السد البراني وشارع الديورة، ومن الشرق يحدها خط وهمي ممتد من مسجد الجاولي بشارع عبدالمجيد اللبان، إلى باب مسجد السيدة نفيسة.
ثلاثة مباني هامة
اشتملت المدينة الجديدة على ثلاثة عمائر هامة، هي دار الإمارة والشرطة العليا وجامع العسكر، وكانت تقع جميعها في وسط المدينة.
ويشير فؤاد سيد إلى أن دار الإمارة كانت تقع في وسط دور الجند ولها بابان أحدهما بالحارة المعروفة بحوض أبي قديرة، والذي عرف فيما بعد بباب الخاصة، والآخر الملاصق للشرطة العليا.
أما الجامع فبناه الوالي الفضل بن صالح سنة 169هـ، بجوار دار الإمارة، ويقول المقريزي في “المواعظ والاعتبار” إن دار الإمارة كان بها باب يفتح على الجامع ليتمكن الأمير من إمامة المصلين، ولاحقا زاد عبدالله بن طاهر في عمارة هذا الجامع سنة 211هـ، حيث كان سكان العسكر والأحياء الشمالية للفسطاط يصلون فيه الجمعة قبل بناء أحمد بن طولون لجامعه.
نهاية سريعة
ازدهرت مدينة العسكر مع مرور الوقت، وكثرت فيها الأحياء العامرة، وقد سكنها 65 واليا حكموا مصر بالنيابة عن الخليفة العباسي لمدة 118 عاما، إلا أن الاهتمام بالمدينة ضعف بعدما أقام أحمد بن طولون مدينته الجديدة بعد استقلاله بحكم مصر عن الدولة العباسية، والتي أسماها “القطائع”، كما ساعد على ذلك أن مدينة العسكر اتصلت بالفسطاط وأصبحتا أشبه بمدينة كبيرة واحدة يطلق عليها “الفسطاط” ونسي الناس اسم العسكر.
ويرى البعض أن المؤرخين أنفسهم لم يحفظوا لنا تاريخ هذه المدينة بشكل مناسب ولا تاريخ سكانها، مرجعين السبب في ذلك، إلى ما ساد عصر الولاة العباسيين في مصر من سوء إدارة وفساد في الحكم، وهو ما أسفر عن اندلاع العديد من الثورات من مختلف الفئات ضد الولاة.
ونتيجة لذلك، بدأ الخراب يتسرب إلى مدينة العسكر، وعندما دخل الفاطميون مصر، وأنشأ جوهر الصقلي مدينة القاهرة، كان الخراب قد توسع وعم أجزاء كبيرة من المدينة، حتى جاءت نهايتها التامة في القرن الخامس الهجري، بالتزامن مع فترة “الشدة المستنصرية”.
يقول فؤاد سيد، أن في فترة الشدة المستنصرية، وما شهدته من مجاعات شديدة وأوبئة فتاكة، هلك الغالبية العظمى من سكان مدينتي العسكر والقطائع، ومن تبقى منهم على قيد الحياة هجرها بعدما أصبح يعيش وحيدا وسط الخراب، لدرجة أن الوزير الفاطمي الحسن بن علي اليازوري قام ببناء سور بطول الطريق الموصل من القاهرة إلى الفسطاط ليحجب منظر هذه الخرائب عن نظر الخليفة إذا ما مر بالقرب منها، وتحولت إلى أطلالها إلى محجر يزود الناس بمواد البناء التي استعانوا بها على إعادة إعمار ما تهدم من مباني الفسطاط.
ولكن ماذا كان مصير مسجد العسكر؟
مصير المسجد
بالرغم من الخراب الذي ضرب المدينة، إلا أن المسجد ظل قائما حتى نهاية العصر الفاطمي، وإن تغير اسمه إلى جامع “ساحل الغلة”، قبل أن يختفي تماما ويضيع كل أثر له، لدرجة قول فؤاد سيد أن المؤرخين ضنوا علينا في كل ما يتعلق بوصفه ولم يتركوا لنا سوى اسمه فقط! حتى أطلاله لم يعد لها أي وجود!
ومما يثير الدهشة، أن ذلك الخراب لم يضرب مدينة العسكر وحدها، بل أفسدها هي ومدينة القطائع، وبالرغم من ذلك نجد مسجد أحمد بن طولون قائما إلى الآن بحالته التي بني عليها بينما لا يوجد أي أثر لجامع العسكر، لدرجة أننا لا نعلم الموضع الذي بني فيه بالتحديد.
بل إن الدهشة تزداد عندما نعلم أن العباسيين تعمدوا تخريب مدينة القطائع بعد سقوط الدولة الطولونية وأحرقوها ودمروا منازلها كعقاب لكل من تسول له نفسه الاستقلال عن الدولة العباسية، وبالرغم من ذلك، نجا الجامع الطولوني، فيما اختفى المسجد الذي بناه العباسيين أنفسهم وكأنه لم يكن!