غريب مزاج المصريين، لا يمكن التعرف على بوصلته بسهولة أو التوصل إلى قاعدة تساعد على التنبؤ بردود أفعالهم، وليس أدل على ذلك أكثر من الطريقة التي تعامل بها المصريون، مع أربعة من أشهر الأشياء التي يتم تناولها أو شربها بهدف جلب السعادة أو التركيز أو “عمل مزاج” حتى يومنا هذا.
فلم يكن تعامل المصريين مع كل من القهوة والدخان والأفيون والحشيش في بدايات ظهورهم في مصر، كما هو الآن، بل ربما تصدم عندما تعلم أن المصريين حرموا القهوة لسنوات طويلة وكانوا يعاقبون من يجاهر بتناولها، بينما كتب الكثيرون قصائد مطولة في مدح التبغ بينهم أقطاب في الطرق الصوفية، وتغنى آخرون بفوائد الأفيون التي لا يجلها إلا جاهل!
القهوة
يقول جمال الغيطاني في كتابه “القاهرة في ألف عام”، إن القهوة لم تدخل مصر إلا في القرن السادس عشر الميلادي.
ورجح أن أول من اهتدى إليها هو أبو بكر بن عبدالله المعروف بالعيدروس، وكان يمر في سياحته بشجر البن فاقتات من ثمره حين رآه متروكا مع كثرته، فوجد فيه تجفيفا للدماغ واجتلابا للسهر، وتنشيطا للعبادة، فاتخذه طعاما، وشرابا وأرشد أتباعه إليه، ثم وصل أبو بكر إلى مصر سنة 905هـ، وهكذا أدخل الصوفية شراب القهوة إلى مصر.
ولكن المصريين سرعان ما اختلفوا حول حكم تناول القهوة، ويذكر لنا التاريخ أن القهوة انتشرت بشدة بين طلاب الأزهر بعدما اكتشفوا أنها تساعدهم على التنبه والقدرة على التحصيل العلمي، وهو ما دفع أحد شيوخ المذهب الشافعي إلى الإفتاء بتحريم شربها، وهي الفتوى التي تسببت في هياج شعبي كبير ضد القهوة.
إلا أن تجار البن تجاهلوا تلك الفتوى حفاظا على مصدر رزقهم، وهو ما كان سببا في قيام بعض المتشددين بتنظيم حملة للبطش بكل من يبيع القهوة أو يجاهر بشربها واندلعت بسبب ذلك مواجهات عدة بين التجار ودعاة التحريم سقط فيها أحد القتلى!
وفي النهاية، اضطر العثمانيون إلى تعيين مفتي جديد في مصر أجاز شرب القهوة لوأد الفتنة، وبالتدريج انتشرت في القاهرة الأماكن التي تقدمها، وأطلق عليها لاحقا اسم المقاهي.
وفي مطلع القرن التاسع عشر، وبحسب كتاب “المصريون المحدثون” للمستشرق الإنجليزي وليم إدوارد لين، يكشف لنا أن مصر كان بها قرابة ألف مقهى، وكانت القهوة تقدم في المقاهي بشكل علني.
الدخان
كانت بداية ظهور التبغ في أمريكا على أيدي الهنود الحمر، ومنهم عرف الأوروبيون التدخين، ثم انتقل التبغ إلى الشرق، وظهر الدخان في مصر لأول مرة سنة 1012هـ، بحسب المؤرخ الإسحاقي.
ويرى الغيطاني أن مشكلة الدخان كانت أكثر تعقيدا من القهوة، حيث تمسك كثير من فقهاء المسلمين بتحريمه، وكثيرا ما كان يطارد مدخنوه تماما كما يطارد مدخنو الحشيش في أيامنا هذه.
ويذكر الجبرتي في حوادث سنة 1156، أن الوالي العثماني أصدر أوامره بمنع تعاطي الدخان في الشوارع وعلى الدكاكين، وأبواب البيوت، ونزل معه الأغا، ونادى بذلك، وشدد بالإنكار والنكال بمن يفعل ذلك، وكان كلما رأى شخصا بيده آلة الدخان يعاقبه، وربما أطعمه الحجر الذي يوضع فيه الدخان بما فيه من نار!
وهو ما أثار حفيظة المتصوفة، الذين تمسكوا أيضا بالدفاع عن حرية شرب الدخان، حتى أن بعض شعراء الصوفية ألف قصائد في وصف التبغ والمتعة التي يبثها في نفس الإنسان بسبب تناوله!
ولكن مع مرور الوقت، واكتشاف أن التبغ ليس له تأثير كبير على العقل كغيره من النباتات، بدأ التساهل بشأنه والسماح للناس بتناوله واقتناء أدواته مثل المشبك والنرجيلة -أحد أشكال التدخين التي تطورت مع الوقت وتحولت إلى الشيشة التي نعرفها حاليا.
وبوصول محمد علي إلى الحكم في مطلع القرن التاسع عشر، كان الدخان مسموح به بشكل كامل، خاصة إذا ما علمنا أن محمد علي نفسه كان يتاجر في الدخان هو ووالده، ما يعني أنه كان من الطبيعي أن يسمح للمصريين بشربه.
الحشيش
كان للحشيش استخدامات طبية في كثير من الحضارات القديمة، أما استخدامه كمخدر، فلم يعرفه المصريون إلا في القرن السابع عشر الهجري نتيجة احتكاكهم بالشعوب الأخرى، التي جربت الحشيش كمخدر، يبعث على السعادة والسرور.
فيما يذكر المؤرخ تقي الدين في كتابه “المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار”، في باب أسماه “حشيشة الفقراء”، ما قيل عن الحشيش وكيفية اكتشافه التي كانت على أيدي أحد المتصوفة، لافتا إلى أنه دخل مصر في عام 628هـ، وكانت ردود أفعال العامة حوله غير ثابتة دائما، فحينا يتم المجاهرة بشربه ويجد رواجا كبيرا بين الفقراء، وحينا يتم منعه ليقتصر على الأغنياء فقط، لافتا إلى أن أحدا لم يصدر في زمنه فتوى بتحريم الحشيش.
ففي بداية عهد المماليك، أُبيحت زراعة الحشيش، وبيعه، وتعاطيه، وعندما شعر بعض الأمراء المماليك بالأضرار التي تنجم عن تعاطيه بين المصريين فرضوا عقوبات بسيطة، إلا أن عمليات المنع لم تجد صدى كبير، خاصة إذا ما علمنا أن نبات القنب الذي يستخلص منه الحشيش كان يُزرع في كل مكان في مصر تقريبا، وانتشرت زراعته في القاهرة بشكل كبير، وعلى الأخص بأرض الطبالة، بين منطقة الظاهر وحي الفجالة وباب اللوق.
وفى عام 815هـ شاعت المجاهرة بتعاطي الحشيش، وأصبحت الطبقات العليا تفخر بذلك، ولم يكن ينظر إلى تعاطي الحشيش على أنه شيء معيب، وفي العصر العثماني، استمر الفلاحون في مصر يزرعون القنب بكميات قليلة، في بعض حقول الوجه القبلي.
إلا أنه عندما علم محمد علي بأن تعاطى الحشيش يصيب العاملين بالوهن والكسل، أصدر أوامره إلى جميع المديرين بمنع زراعته، ولكن قراره لم يكن بمثابة قانون يجرم الزراعة أو البيع أو التناول.
ولم يصدر قرار نهائي بشأن الحشيش إلا عام 1879 بصدور أمر عال يحرم استيراد الحشيش ويمنع زراعته، ويوجب على من يخالف أحكامه غرامة مالية ومصادرة المضبوطات، ثم توالت التشريعات التي تعاقب على ذلك حتى يومنا الحاضر.
الأفيون
الأفيون هو مادة مخدرة تستخرج من نبات الخشخاش، ويستخدم حاليا في التخدير وكمسكن قوي للآلام ولاسيما في العمليات الجراحية والسرطانات.
وعرف المصريون القدماء الأفيون في وقت مبكر، حيث إن النقوش الفرعونية التي وجدت بمقابرهم تؤكد أن قدماء المصريين استخدموا الأفيون في عمل وصفات دوائية لعلاج الأطفال.
أما العرب، فقد استعملوه في علاجاتهم في العصور الوسطى، وهو ما كان سببا في انتقاله إلى أوروبا، ويقول المقريزي في “الخطط” في معرض حديثه عن فضائل مصر متفاخرا بأن مصر “بها الأفيون عصارة الخشخاش ولا يجهل منافعه إلا جاهل”! ما يكشف أن تناوله لم يكن من المحرمات الشرعية في فترة حكم المماليك.
وذكرت بعض المراجع أن المصريين كانوا يمضغون الأفيون، وعندما وصل محمد علي إلى الحكم، أمر بالتوسع في زراعة الأفيون في صعيد مصر، واستمر هذا التوسع طوال قرن كامل، حيث وصل الأمر إلى أن محافظة قنا وحدها كانت تنتج 12 ألف فدان من الأفيون سنويا، ولم يذكر أنه كانت هناك أي معارضة دينية لتعاطي هذا النبات.
إلا أنه في بدايات القرن العشرين، ومع انتشار الصحف، بدأت تنتشر تحذيرات للمتخصصين خاصة الأجانب منهم، عن مخاطر تعاطي الأفيون، ونشرت صحيفة الأهرام حينها تقول أن هناك قرابة مليون ونصف المليون مصري يأكلون الأفيون من الفلاحين.
وبعدما قادت الصحافة حملة ضد هذا النبات، صدرت فعليا الأوامر بإبطال زراعة الأفيون في محافظات الصعيد في 25 أبريل 1925، بدعوى الحفاظ على الصحة العامة للمصريين وتجنب تأثيراته الضارة.