فلاش باك..
في 4 يناير 2011 ولدت شرارة “الربيع العربي”، عندما انتقل مفجرها وملهمها الشاب الشاب التونسي محمد البوعزيزي إلى الحياة الآخرة.
أقدم ابن مدينة سيدي بوزيد على الانتحار حرقا بعدما ضاقت أمامه كل السبل. الشاب الذي لم يكد يبلغ من العمر وقتها 26 عاما اضطر أن يعمل وهو في سن العاشرة، بعد أن مات أبوه وهو في الثالثة.
كان البوعزيزي يعيل أسرته المكونة من ثمانية أشقاء، ببيع الخضار والفاكهة في شوارع سيدى بوزيد الجميلة، التي وجدت نفسها فجأة محور حديث العالم أجمع، وشاهد على اندلاع “ثورة الياسمين”، سار على نهجها ملايين من الشباب العربي، في محاولة لتصحيح الأوضاع، إلا أنها اصطدمت بعوامل مختلفة.
في فجر الجمعة ١٧ ديسمبر ٢٠١٠ صادرت الشرطة بضاعة الشاب الفقير، فحاول عمه (زوج أمه بعد وفاة أبيه) إقناع الشرطة بأن يتركوه لطلب رزقه، فذهب إلى مأمور الشرطة، وطلب مساعدته، واستجاب المأمور بالفعل، وطلب من الشرطية فادية حمدي، التي استوقفت البوعزيزى أن تدعه وشأنه، إلا أنها استشاطت غضبا لاتصال عم البوعزيزى بالمأمور، وذهبت للسوق مجددا، وبدأت مصادرة بضاعة البوعزيزى من جديد، فقاومها، فدفعته وضربته بهراوتها هي ورفيقاها، بل وصفعته على وجهه.
ربما لا يعرف الكثيرون أن كلمة “ارحل” التي صارت أيقونة ثورات “الربيع العربى” في البلدان المختلفة لم يقلها البوعزيزي أولا، بل قالتها الشرطية فادية، ووجهتها للشاب التونسي، الذي حاول دون جدوى أن يلتقى بأحد المسؤولين.
عاد البوعزيزي إلى السوق وقد أغلقت أمامه كل الأبواب. ربما فكر في أنه صار مشردا من دون رزق، ربما فكر في قوت يومه الذي كان يكسبه بالكاد، ربما فكر في مصير إخوته وأمعائهم التي قد تصبح خاوية لأيام، ربما فكر في كل هذا، إلا أنه اتخذ قرارا واحدا، وهو أن يصبح “أيقونة” للتغيير.
أخبر البوعزيزي من أحاطوا به بأنه سيشعل النار في نفسه، فظنوه يهذي أو يهدد لإعادة ما سلبته الشرطة منه، لكنه كان صادقا. وقف الرجل أمام مبنى البلدية، وسكب على نفسه ثنر (مادة مساعدة على الاشتعال)، وأضرم النار في جسده.
لم تكن النار بردا ولا سلاما على الحكومة التونسية ولا رئيسها زين العابدين بن علي (الموجود الآن في السعودية)، ولا على الحكومات العربية التي تساقطت سريعا، ربما كانت على البوعزيزي راحة، أخذته إلى عالم آخر أكثر هدوءً، وأخذت شعوب الأمة العربية إلى مرحلة أخرى أكثر اضطرابا، لكنها كانت أكثر تأثيرًا.
اندلعت الاحتجاجات من قِبل أهالى سيدي بوزيد، تبعتها مواجهات بين المئات من المتضامنين مع البوعزيزي الذي كان وقتها يرقد في المستشفى يهرول نحو الموت، وبين قوات الأمن، التي استخدمت كل السبل لمنع الغضب، لكنها لم تفلح بل أججته، حتى وصل إلى كل المدن التونسية، لا بل العربية كلها.
وفي 4 يناير 2011 مات البوعزيزي، وفي 14 يناير 2011 رحل بن علي عن حكم تونس، التي صنفت في مؤشر الديمقراطية للإيكونومست لسنة 2010 في الترتيب 144 من بين 167 بلدا شملتها الدراسة، وصنفت أيضا من حيث حرية الصحافة في المرتبة 143 من أصل 173 في العام 2008.
رحل بن علي، وحتى 20 ديسمبر 2017، بلغت مجموع الأحكام الصادرة ضده (4 مؤبد و197 سنة سجن و6 أشهر وغرامة 213 مليون دينار تونسي).
عودة إلى الحاضر
في 4 يناير 2018 تغزو صورة الفتاة الإيرانية التي خلعت حجابها في وجه الشرطة، وفي وجه نظام ولاية الفقيه كله، كل وسائل الإعلام العالمية.
تحولت الصورة إلى “أيقونة” للمظاهرات التي شهدتها المدن الإيرانية كلها، والتي ليست فقط ضد الأوضاع الاقتصادية، بل ضد كل ما هو جامد ومتيبس في نظام ولاية الفقيه، منذ اندلاع الثورة الخومينية في 1979.
الفتاة مكشوفة الشعر، وضعت حجابها على عصا طويلة، ولوحت بها في وجه نظام الملالي، الذي جثم على قلوب وعقول كثير من الشباب الإيراني، الذي خرج ليعبر عن الحق في الحياة الحديثة المتحررة.
وبغض النظر عما قيل خلال الساعات الماضية، من أن الصورة تعود إلى ثلاثة أيام قبل اندلاع التظاهرات، وإنها خاصة بحركة سميت بـ “الأربعاء الأبيض”، الداعية للاحتجاج على إلزام النساء بلباس إجباري في إيران، إلا أنها دالة على الأفكار التي كانت تجيش في صدور الكثيرين، وخرجت عبر تظاهرات لم يشهدها النظام الإيراني الحالي.
وبغض النظر أيضا عما ستؤول إليه الأوضاع هناك، سواء إلى ما يسمى بـ”ربيع فارسي”، وفقا لتعبير كثير من الأقلام العربية، أو “إخماد للفتنة”، وفقا لمسؤولين في نظام الرئيس الإيراني حسن روحاني، فإن صورة الفتاة ستشكل علامة فارقة في المجتمع الذي ظل حبيسا طوال 39 عاما.