تعتبر ليلة الرابع والعشرين من يوليو سنة 1954، ليلة غير اعتيادية في تاريخ الكنيسة القبطية، بعدما شهدت حادثا يمثل تحولا خطيرا داخل القصر الباباوي.

ففي تلك الليلة، قام مجموعة من الشباب القبطي باختطاف الأنبا يوساب الثاني، بطريرك الأقباط حينها، وإجباره على التوقيع على وثيقة للتنازل عن العرش الباباوي.

فما قصة هذه الحادثة؟ وما الذي انتهت إليه؟ ومن هم هؤلاء الشباب الذين غامروا بحياتهم بهدف إصلاح الكنيسة مهما كانت الخطوات التي سوف يتخذونها، حتى ولو وصلت إلى اختطاف البابا نفسه؟!

الأمة القبطية

في عام 1952، قررت وزارة الشؤون الاجتماعية، منح محامي شاب في العشرينات من عمره، يدعى إبراهيم فهمي هلال، ترخيصا لتكوين جمعية دينية حملت اسم “جماعة الأمة القبطية”.

وكان هدف هذه الجماعة، السعي لإصلاح شؤون الكنيسة القبطية، ونشر تعاليم الكتاب المقدس، والتمسك بالعادات والتقاليد القبطية، ونشر اللغة القبطية والتاريخ القبطي، وإصدار صحف وجرائد دورية لنشر أفكارها.

وكانت هذه الجماعة في مجملها، متأثرة بجماعة الإخوان المسلمين، حيث رفعت شعار شبيها بالإخوان لدرجة كبيرة، كان نصه “الله ربنا، ومصر وطننا، والإنجيل شريعتنا، والصليب علامتنا، والقبطية لغتنا، والشهادة في سبيل المسيح غايتنا”.

فساد الكنيسة

في 26 مايو 1946، تم انتخاب مطران جرجا، الأنبا يوساب الثاني، بابا للإسكندرية وبطريرك للكنيسة القبطية في مصر، وعرف عن الأنبا يوساب الورع والتقوى وزهده في السلطة.

إلا أن البابا الجديد كان يعيبه ضعف شخصيته باعتراف الكثير من المطرانة، وكان له تلميذ يدعى “مِلِك جرجس” كان له تأثير كبير على البابا الذي كان يستجيب لكل طلباته، وعندما أصبح “ملك” السكرتير الخاص للبابا، أصبح له نفوذ كبير داخل الكنيسة وسطوة استثنائية، ولأنه كان يحمل ختم البابا، فقد انتشر على يديه الفساد الذي تفاقم بمرور السنين.

وكان من بين مظاهر ذلك الفساد، قيام “مِلِك” ببيع الرتب الكنيسة لغير المستحقين مقابل المال، من وراء ظهر البابا، وهي جريمة كانت تسمى “السيمونية”، وهو ما أثار سخط المطارنة الذين طلبوا من البابا أكثر من مرة إبعاد مِلِك عن الكنيسة إلا أنه كان يرفض دائما.

يقول إبراهيم هلال مؤسس جماعة الأمة القبطية، في أحد الحوارات الصحفية، إن الآباء المطارنة والمجمع المقدس كانوا في حالة غضب من أوضاع الكنيسة المتردية، وأن بعضهم توجه إلى هلال لمطالبته بالعمل على عزل البابا، فاستجاب لهم إبراهيم هلال ووضع خطة تمثلت في قيام شباب جماعة الأمة القبطية بإجبار البابا على التنازل عن الكرسي الباباوي وتحمل المسؤولية السياسية أمام الدولة، في مقابل قيام المطارنة بعزله رسميا وتحمل المسؤولية الكنيسية.

ليلة الاختطاف

في فجر يوم 24 يوليو عام 1954، استيقظ البابا يوساب داخل مقره الباباوي في شارع كلوت بيك، بعدد من الشباب القبطي وقد اقتحموا عليه حجرة نومه وسيطروا على القصر الباباوي بقوة السلاح، وقدموا له ثلاث أوراق بثلاث لغات، القبطية والعربية والفرنسية، وطلبوا منه أن يوقع عليها جميعا وقد وجهوا أسلحتهم إلى رأس البابا.

كانت الأوراق الثلاث تتضمن تنازل البطريرك عن العرش البابوي وتعيين الأنبا ساويرس مطران المنيا بدلا منه، ودعوة المجمع المقدس والمجلس الملي العام لانتخاب بطريرك جديد، وأخيرا توصية لتعديل لائحة انتخاب البطريرك بحيث يشترك في انتخابه جمهور رعاياه من العلمانيين.

وأمام هذا المشهد المفزع، لم يجد البابا مفرا من التوقيع، وبعدها، قام الشباب باختطاف الرجل ونقله بسيارته الخاصة إلى أحد الأديرة، وطلبوا من رهبان الدير الإبقاء على البابا لديهم لأنه تنازل عن العرش وقرر التفرغ للصلوات والعبادة المنفردة.

تدخل الدولة

وبالرغم من قيام المجمع المقدس بإعلانه عزل البابا رسميا في اليوم التالي للاختطاف، إلا أن الدولة رفضت الاعتراف بتلك الخطوة، وقامت بإلقاء القبض على 36 شابا قبطيا من أعضاء جماعة الأمة القبطية بينهم المشاركين في عملية الاختطاف بالإضافة إلى مؤسس الجماعة إبراهيم هلال، وقدمتهم للمحاكمة، كما أعادت البابا إلى منصبه وأعلنت أنه عاد ليباشر مهامه الرسمية.

ولايزال هناك خلاف تاريخي على رد فعل الأقباط على هذه الواقعة، ففي الوقت الذي يصر فيه إبراهيم هلال على أن هناك مظاهرات خرجت عقب إعلان عزل البابا في الشوارع للهتاف باسم جماعة الأمة القبطية وتأييدا لما قامت به، تتجه بعض من المصادر القبطية إلى القول بأن غالبية الأقباط رفضوا فكرة إصلاح الكنيسة عن طريق إجبار البابا على التنازل وخطفه تحت تهديد السلاح.

العزل النهائي

إلا أنه في كل الأحوال، وبعد ما يزيد على عام من هذه الواقعة، تعالت الأصوات مجددا لعزل البابا ولكن على نطاق شعبي واسع، حتى أن مدارس الأحد -التي كان أحد أبرز قادتها البابا شنودة الثالث- عقدت مؤتمرا كبيرا دعت فيه لإبعاد البابا يوساب عن الكنيسة.

وعقد أعضاء المجمع المقدس والمجلس الملي العام، اجتماعا عاما، واتخذوا فيه قرارا فريدا لم يعرف التاريخ القبطي مثيلا له، تمثل في عزل البابا وعدم الاعتراف بسلطاته، وتعيين لجنة أسقفية للقيام بأعماله شملت الأنبا أغابيوس مطران ديروط وقسقام، والأنبا ميخائيل مطران أسيوط، الأنبا بنيامين مطران المنوفية.

فما كان من الدولة حينها، إلى الرضوخ لهذه الخطوة التي ظهر واضحا أن هناك إجماع قبطي عليها، فقامت في 21 سبتمبر 1955 بتجريد البابا يوساب الثاني رسميا من مهامه البابوية، وأرسلته إلى الدير المحرق بالقوصية التابعة لمحافظة أسيوط، ووافقت على تكليف الأساقفة الثلاثة الذين اختارهم المجمع المقدس لإدارة شئون البطريركية، لتنتهي بذلك واحدة من أكثر حقب الكنيسة القبطية إثارة للجدل.