تعد وفاة محمد علي باشا، لحظة فارقة في التاريخ المصري الحديث، خاصة وأنه الرجل الذي يعده الكثيرون باني مصر الحديثة وواضع اللبنة الأولى للدولة التي أصبحت عليها الآن، حيث أثرت وفاته والظروف التي أحاطت بها وعملية انتقال السلطة منه إلى أولاده، في مجريات التاريخ المصري لسنوات طوال.

ومن بين هذه الظروف التي كان لها أثر بالغ في رسم سياسات أسرة محمد علي ونظرتهم للمصريين ولطبيعة الحكم، مسألة ميراث الباشا، ميراث الرجل الذي امتلك مصر أرضا وبحرا وجوا، خاصة في ظل النزاع الذي وقع بين أفراد الأسرة العلوية حول التركة، وهي الأزمة التي وقف منها المصريون موقف المتفرج بطبيعة الحال، بالرغم من أن التركة المتنازع عليها كانت ملك للمصريين بالأساس قبل أن تكون ملكا للحاكم الذي وصل إلى الحكم بإرادة المصريين أنفسهم.

أيام الباشا الأخيرة

في مطلع عام 1848، بدأت أعراض التدهور العقلي تظهر على محمد علي، ويقول نوبار باشا أول رئيس وزراء في مصر، إنه عندما أدرك محمد علي أن هناك أعراض مرض عقلي تنتابه، كان يحاول إخفاء ذلك بالتزام الصمت لفترات طويلة حتى يخفي عدم قدرته على تجميع أفكاره نتيجة إصابته بالخرف “ألزهايمر”.

إلا أن سر محمد علي لم يدم طويلا، حيث باتت الأعراض أكبر من أن تخفى عن أبنائه والمحيطين به، لذا قرروا إرساله في رحلة علاجية إلى أوروبا بمشورة من بعض الأطباء، إلا أن الرحلة لم تأت بنتيجة مؤثرة، وعاد محمد علي مرة أخرى إلى مصر ربما أسوأ مما رحل.

وبعدما أصبح واضحا للجميع أن الباشا لم يعد يعي شيئا مما يجري حوله، عقد أكبر أبنائه إبراهيم باشا مجلسا خاصا برئاسته حضره كبار رجال الأسرة والدولة، واستقر رأي المجلس على أن يتولى إبراهيم إدارة شؤون الحكومة بدلا من أبيه، وكان ذلك في أبريل سنة 1848، وأبلغ الأمر إلى الدولة العثماني، فأرسلت إلى إبراهيم فرمان تقليده الحكم رسميا في يوليو من العام ذاته.

وبالطبع لم يثار أي شيء حول ميراث محمد علي في فترة تولي إبراهيم للحكم، لأن محمد علي كان لايزال على قيد الحياة، إلا أن القدر لم يمهل إبراهيم كثيرا، حيث اشتد عليه مرض السل، ووفاته المنية بعد قرابة 7 أشهر فقط من توليه السلطة، وبالتحديد يوم 10 نوفمبر 1848 وهو في الستين من عمره.

عباس يتولى السلطة

كانت “تسوية لندن” تنص على أن يتولى الحكم من بعد محمد علي أكبر أبنائه من الذكور ثم الأكبر فالأكبر.

وطبقا لهذه القاعدة، كان أكبر أبناء محمد علي عند وفاة إبراهيم باشا، هو الحفيد عباس حلمي الأول، نجل طوسون ابن محمد علي، وبعدما أصبح عباس والي مصر رسميا، ظلت أزمة الميراث مؤجلة أيضا لبقاء محمد علي كل هذه الفترة على قيد الحياة.

في صيف سنة 1849 غادر محمد علي القاهرة للمرة الأخيرة وذهب إلى الإسكندرية، وهناك توفي يوم 2 أغسطس من العام ذاته أثناء إقامته في قصره برأس التين، وهو في الثمانين من عمره.

ورثة محمد علي

طوال حياته المديدة، لم يتزوج محمد علي إلا مرتين فقط، الأولى من الأميرة أمينة هانم، والثانية من الأميرة ماه دوران هانم، وبخلاف الزيجات الرسمية، كان لمحمد علي 27 مستولدة، وعبر هذا الجيش من النساء، رزق الباشا بـ17 ولدا و13 بنتا.

وعندما توفي محمد علي، كان يوجد من الورثة ثلاثة أقسام، جيل الأبناء، وجيل الأحفاد، وجيل أبناء الأحفاد، وكانت ينتظر كل منهم بطبيعة الحال أن يحصل على نصيبه من الميراث، فكم كان يبلغ ميراث محمد علي؟

يقول المؤرخ جمال بديوي في كتابه “محمد علي وأولاده”، إنه بعدما تولى الباشا حكم مصر وقضى على كل خصومه ومعارضيه، أصبح أشبه بفرعون جديد، وكما كان فرعون مالك الأرض، أعلن محمد علي نفسه المالك الوحيد فصادر ملكية الفلاح وغير الفلاح، تاركا له حق الانتفاع وحسب، ثم فرض نظام الاحتكار على الإنتاج الزراعي ثم فرضه على التجارة الداخلية والصناعة المحلية، وبات هو الزارع الوحيد والتاجر الوحيد والصانع الوحيد، ليتحول إلى المحتكر الأول.

وبالرغم من عدم عثورنا على وصف دقيق أو حتى إجمالي لحجم ثروة محمد علي عند وفاته، إلا أنه يمكن ببساطة تخيل حجم تلك الثروة الهائلة لرجل بهذه المواصفات والسلطات، والتي يمكن أن نقول عنه أنه كان يمتلك مصر بأكملها.

أزمة توزيع التركة

كان عباس شخصية غامضة، يميل إلى التحفظ والقسوة والعنف، وعندما تولى السلطة، كان على خلاف مع كثير من أفراد الأسرة العلوية، بسبب صفاته الغريبة وشعوره بأن هناك من يتآمر عليه، لذا لم يدخر جهدا في محاولة القضاء على كل خصومه.

وعندما توفى محمد علي، وحانت لحظة توزيع الميراث، كانت فرصة عباس قوية للانتقام من كل أعدائه داخل الأسرة، وهنا انفجرت الأزمة.

فقد رفض عباس إعطاء أفراد الأسرة العلوية أنصبتهم في الميراث، بدعوى أن كل ما كان يملكه محمد علي لم يكن ملكا شخصيا له، بل هو ملك للدولة والحاكم كان مستأمنا عليه، لذا عرض عليهم الحصول على شيء يسير للغاية من تلك الثروة، وظلت باقي التركة في حوزة عباس بصفته الحاكم، وهو ما ولد عداوة شديدة بينه وبين كبار الأسرة العلوية، وعلى رأسهم عمته نازلي هانم ابنة محمد علي.

ويبدو أن عباس لم يكن مقتنعا بوجهة النظر تلك، بل كانت مجرد حجة للانتقام من خصومه داخل الأسرة، والدليل على ذلك ما ذكره المؤرخ عماد هلال في كتابه “الرقيق في مصر”، من أن عباس انتقى بعض أفراد الأسرة وأغدق عليهم آلاف الفدادين من أجود الأراضي -ربما أكثر مما كانوا سيحصلون عليه من تركة محمد علي لو تم تقسيمها- وذلك بهدف استمالتهم وشق صف المعارضين له، ومن بين هؤلاء زوجات محمد علي وزوجات إبراهيم باشا وبعض أبنائهم.

ونتيجة هذه الأزمة، أساء عباس الظن بكل من حوله، وخيل له أن هناك من يتآمر عليه لقتله، فأساء معاملة أغلب أفراد أسرة محمد علي، ولم يحرمهم من الميراث فقط، بل قرر الاستيلاء على ما بحوزتهم من أراضي وأموال ومجوهرات، فخشي الكثيرون على حياتهم واضطروا للرحيل إلى اسطنبول وأوروبا خوفًا من بطشه، واشتد العداء بين الفريقين طول مدة حكمه.

وفاة غامضة

في ليلة 14 يوليو 1854 توجه عباس حلمي الأول إلى غرفته بقصرن في بنها ونام ليلته ولكنه لم يستيقظ مجددا، فجأة ودون مقدمات أعلنت وفاته، بعدما قضى في الحكم قرابة 6 أعوام، وهو لم يتجاوز الواحدة والأربعين من عمره.

وسواء كانت وفاته طبيعية بسبب إصابته بمرض الصرع أو اغتيالا كما تقول أكثر الروايات، إلا أن المهم أن الرجل الذي كان سببا في أزمة الميراث خرج من المشهد، فعاد كل الهاربين من أفراد الأسرة العلوية إلى مصر واستعادوا ممتلكاتهم في ظل حكم الوالي سعيد باشا، وانتهى الصراع حول أزمة الميراث واختفى ذكره من كتب التاريخ.

ولكن هل قام سعيد باشا بإعادة توزيع تركة محمد علي؟ أم أنه اكتفى بإعادة الممتلكات التي سلبت من أفراد الأسرة فقط؟ وفي كل الأحوال، هل لنا أن نسأل أين ذهبت تركة الرجل الذي امتلك مصر؟ أسئلة كثيرة لازالت كتب التاريخ تضن بالإجابة عليها.