مسلسل “ليالى الحلمية” (1987 – 1995) لمبدعيه القديرين المؤلف أسامة أنور عكاشة، والمخرج إسماعيل عبد الحافظ، هو تحفة الدراما التلفزيونية المصرية. إنه عمل ضخم، قوى، إرتبط وجدانياً بالمصريين كافة، لحكيه تاريخهم من أربعينيات القرن العشرين إلى تسعينياته، عبر شخصيات متميزة، وتأمل فريد. ثم بعد 21 سنة من نهاية جزءه الخامس، قوبلت دعوة استكماله باستهجان عنيف، لوفاة كلاً من مؤلفه ومخرجه. لكنى تساءلت: لما لا ؟

فالمسلسل الأمريكى الشهير Dallas أو دالاس (1978 – 1991)، والذى نحت نموذجاً فى التلفزيون الأمريكى لمسلسل مثير يستعرض دراما عائلة ثرية، نال استكمالاً له، بعد 21 سنة أيضاً من نهايته، كان وفياً للعمل الأصلى، واستمراراً لنجاحه، وكتبه مؤلفون بدأوا حياتهم الفنية بعد سنوات من نهايته. لذلك قررتُ، بكثير من الحماس، متابعة ليالى الحلمية – الجزء السادس (2016)، من تأليف أيمن بهجت قمر وعمرو محمود ياسين، وإخراج مجدى أبو عميرة. لكن للأسف، ذلك الحماس تبدد بمرور الحلقات، تلك التى تحولت إلى عملية تعذيب يومية!

إيجابيات:

يدور هذا الجزء بين عامى 2005 و2011، حاملاً خطوط درامية بارعة؛ مثل صراعات سولى سليم البدرى مع ابن وأحفاد سليمان غانم؛ والتى جسدت الامتداد المطلوب لطرفى الصراع الأصليين، البدرى وغانم، فى ظل غيابهما القسرى بالوفاة. كذلك خط زينهم زكريا الذى تحول لصورة مشوهة من معلمين قهوة السماحى؛ لولادته فى واقع مشوه، وتمازجه مع هذا الواقع، كمساهم فى تجارة المخدرات، ومتعاطى لها، وعمله كبلطجى إنتخابات تابع للدولة، وتذكرى أثناء مشاهدته شخصية فرج أبو سنة، وهو معلم ضال آخر من مسلسل عكاشة أرابيسك (1994)؛ جاء تأكيداً لبراعة مؤلفى هذا الجزء فى تتبع روح المؤلف الأصلى. عادل البدرى له معالجة طيبة كالفنان الذى حمل فشل خاله عاصم السلحدار، وإكتسب التقلب العاطفى من والده سليم البدرى، وزهرة سليمان كإمتداد لأمها نازك التى تُغلِّب المصلحة الشخصية على العاطفة، وإلتقاء هانى مراد وحلمى خليف فى الحزب الوطنى كان خطوة صائبة؛ كنماذج نفعية متسلقة لابد أن يكون هذا هو محلها الطبيعى.

أحداث مثل خطة إختطاف جمال، الطفل الذى تربيه لى لى سليم البدرى، وتيه نازك السلحدار، بدت محكمة. كما حقق السيناريو إيقاعاً لاهثاً وحشداً من المفاجآت، وتمت المحافظة على ذروة مشوقة فى نهاية كل حلقة (محاولة اغتيال زهرة، ظهور توفيق الصغير فى بيت زوجه أبيه فجأة، شك قمر السماحى فى غرام زوجها ببطلة فيلمه.. إلخ).

نجح العمل فى رصد الإبتعاد العمدى لبرامج التوك شو عن مشاكل الواقع، وغرقها فى الإثارية البحتة، وذلك من خلال مشاهد برنامج صفوت سلطان (أداء محمد رياض). وإن كان هذا يصف مرحلتنا هذه أكثر من أى وقت آخر. بل أن هناك مشهد ساخر لإستضافة مُحضِّر أرواح مع رجل دين، أقرب للقاء الذى قدمته أخت المؤلف، وزوجة الفنان محمد رياض؛ الفنانة / الإعلامية رانيا محمود ياسين، فى برنامج ما بإحدى الفضائيات، فى ديسمبر 2015 !

بعض من جمل الحوار وصلت لمستوى رفيع، مثل مونولوج قمر السماحى عن نسيانها للفرح. وبعضها كان طريفاً مثل حوارات سابرينا، الزوجة الفرنسية لسليم البدرى، التى تخلط بين الفرنسية والعامية المصرية، أو تشبيهات بسة؛ مثل “فأر زراعى” للاستهزاء بشخص نحيل، أو “ترلة ألمانى بمقطورتها” للتهكم على ابنة طليقته البدينة.

تألق طاقم الوجوه الجديدة، سارقاً أغلب الأضواء، ومنهم محمد عادل (مجدى سليمان)، حمدى الميرغنى (سليمان الصغير)، شريف فايد (سولى البدرى)، وكارمن سليمان (صفاء زاهر) المطربة صاحبة الصوت الساحر. ومن الطاقم القديم يعلو محمد رياض فى دور الصحفى مدعى النزاهة. استوعب الموسيقار محمود طلعت تراث موسيقى الأجزاء الأولى، ثم أبدع موسيقى مُعبِّرة خاصة به. وأكد تصميم تتر البداية الحنين للحلمية كمكان.

السلبيات: مد السن

تعليقاً على انحدار مستوى المسلسل فى جزءه الخامس (1995)، رسم الفنان الكبير مصطفى حسين وقتها كاريكاتيراً مرير السخرية فى جريدة الأخبار، يصوِّر شيخاً يقرأ القرآن على قبور نازك السلحدار وسليمان غانم وغيرهما من الشخصيات التى مد المسلسل فى سنها بشكل غير مقبول. الآن، توفى عكاشة، وعبد الحافظ، ومصطفى حسين، وشخصيات مثل نازك ترقص على أغانى روبى، وتفكر فى الزواج ؟!!

الحق أن مد سن الشخصيات ليصبح بين الثمانين والمائة عام كان بين المبالغة الممجوجة والسخف الشديد. فسكرتير الملك فاروق، طلعت الشماشرجى، يتزوج على نازك وهو يقارب التسعين ؟! وأنيسة بدوى التى تجاوزت الثمانين، كيف تكون مسئولة بشكل كامل عن تربية حفيد أختها؛ الطفل نزار ابن على البدرى ؟!! وبسه، أو بسيونى، يعمل بنشاط ضمن جماعة الأخوان، ويصير عضواً فى البرلمان، رغم تاريخه الذى صب فيه عكاشة كافة الشرور التى تعرضت لها مصر من الإربعينيات للتسعينيات. قد يكون ذلك استكمالاً لمنهج المؤلف الأصلى فى تتبع ألوان شر الشخصية، وتلميحاً لمصيبة شعب لا يتعلم من تاريخه. اعتراضى الحقيقى بخصوص كيفية نيل الشخصية لكل هذه الحيوية وقد قاربت المائة عام ؟ (هل فى الحلمية نبع للشباب مثلاً ؟!).

من ضمن المفارقات السنيِّة أن سولى البدرى من مواليد منتصف الستينيات، وكان مع والده فى باريس أيام نكسة 1967، وصفاء غانم انتهت للتو من دراستها الثانوية. أى أنه فى الأربعين، وهى على أعتاب العشرين، ومع ذلك يتعامل المسلسل مع الأمر على أنهما زوج شباب متحابين، لا يفصل بينهما الكثير من العمر !

تحولات غير محسوبة لشخصيات قديمة

يتعامل هذا الجزء مع الجزء الخامس وكأنه لم يكن. فبسيونى لا يزال يمثِّل إنضمامه للتيار الإسلامى، رغم انكشاف خدعته لتوظيف الأموال تحت ستار الدين. وحمدية تصبح نزيلة فى مستشفى المجانين، رغم تخلصها من إدمان المخدرات، وإنخراطها فى أعمال تجارية بالملايين. وتوفيق الصغير لا يزال منتمياً للتيار التكفيرى الجهادى، رغم صدمته القاسية فيه، وتنصله منه !

إنقلاب متولى (طأطأ) لمجذوب يردد حكم تعلِّق على الأحداث مسألة مرفوضة كلياً. صحيح يعزى المؤلفان الأمر للوثة أصابته بعد موت أولاده فى حادث قطار، لكن من أين له بهذه الملابس التى يرتديها وتتطابق مع أزياء “مجاذيب الجوامع” الكلاسيكين ؟! ومن أين له بهذه الحكمة اللانهائية أيضاً ؟؟ من الواضح أنهما أرادا مجذوباً مثل الموجود فى أدب نجيب محفوظ، أو حتى مسلسلات المشربية وأرابيسك لعكاشة، لكنهما أساءا الإختيار. فهذه الشخصية تجاوزها الزمن فى الواقع، ليختفى من الأحياء الشعبية الدرويش ذو الهلاهيل الذى يتمشى بصحبة مبخرة مشتعلة، ويردد حكماً عميقة فى صيغة كلام مسجوع. ومن ناحية أخرى، هذه الشخصية تكوِّنها عناصر ثقافية متعددة لم يتعرض لها متولى؛ والذى عاش شبابه فى الأربعينيات طبالاً فى فرقة رقص بلدى، ثم قضى بقية عمره عاملاً فى مصنع الحلمية للنسيج، ووصل فى التسعينيات لمرتبة خبير تصنيع مُبجَّل يستعين به نفس المصنع بعد تجاوزه سن المعاش.

نازك، عجوزاً فى التسعين، تتحول من مريضة زهايمر أقرب للبله، لنازك القديمة بكل قدراتها الذهنية. لمن لا يعرف، مرض الزهايمر ليس له علاج شافى، وإنما مثبطات لاستفحاله، أى أنه يجئ ليبقى، وحالة الشفاء التام منه – التى رأينها فى المسلسل – مستحيلة !

شخصيات جديدة مزعومة

كيف تزوج سليم البدرى فى باريس منجباً ابنة اسمها لى لى فى بداية الثمانينيات، وهو – كما رأينا فى الجزء الرابع – كان يقيم فى مصر، مع زوجته الأميرة السابقة نورهان، مقارباً السبعين عمراً ؟! كذلك من أين جاءت المحامية تهانى ابنة السبعاوية ؟ فأمها كانت على ذمة بسة منذ بداية الستينيات، ثم انفصلا بعد سجنه فى مطلع التسعينيات؛ فكيف أنجبت من رجل آخر فى منتصف هذا الزواج ؟! وعايش المصرى صديق منصور السماحى ليس إلا شخص مختلق ليتبادل معه الأخير الحوار، ثم عند اكتشاف كونه مسيحى سترى أنه أسوأ وسيلة لتقديم شخصية مسيحية فى المسلسل. قارن بينه وبين شخصية كمال خلة، فى الخماسية الأصلية، لترى كيف تُكتَب الشخصية المسيحية كجزء رئيسى من نسيج عمل يروى تاريخ مصر.

بلا منطق

يحفل السيناريو بمتناقضات، أولها مرتبط بشخصية زهرة غانم؛ الصحفية التى تحولت فجأة للعمل السياسى، ثم صارت وزيرة. التفسير الوحيد الذى يمنطق هذا الأمر قد يعود إلى وفاة الفنان ممدوح عبد العليم، صاحب شخصية على البدرى، فى يناير 2016، وعليه ربما تصرف مؤلفا العمل بنقل خطه الدرامى إلى زوجته زهرة، أو الفنانة إلهام شاهين، بمعلومية أمرين؛ الأول أن على البدرى كان مرشحاً لمجلس الشعب فى نهاية الحلقة الأخيرة من الجزء الخامس، بعد تشجيع هانى مراد له، تماشياً مع بدء تغلغل رجال الأعمال فى المطبخ السياسى أيام النصف الثانى من نظام مبارك، والثانى أن زهرة كانت – حتى نهاية ذلك الجزء – صحفية محترفة ليس إلا، لا تملك أى طموح سياسى. سواء كان هذا هو السبب الحقيقى أم لا، لم يمنع تحول زهرة للسياسة عدداً من علامات الاستفهام، وبعض الثغرات. فعلى سبيل المثال، إذا كانت بعد وفاة على إضطرت للزواج من الصحفى كريم السمنودى لمجرد ألا تبقى أرملة، بإعتبار أن هذا وضعاً مُحرِجاً لها كسيدة تعمل فى مجال السياسة، فكيف بعد انفصالها عنه يتم اختيارها وزيرة وهى مطلقة ؟!!

أضف لذلك قائمة طويلة لا تقل تناقضاً : سولى يُدرِّس نهاراً فى معهد الموسيقى، بينما يعزف ليلاً فى الملاهى الليلية بدون أى اعتراض من قِبل المؤسسة التعليمية التى ينتمى إليها ؟! لى لى البدرى، وهى المليونيرة، ووريثة أحد أغنى أغنياء مصر، تصر على إفتتاح مشروع “عربية أكل” فى حارة بالحلمية ؟؟ منصور السماحى يواجه بلطجية زينهم الصغير – رافعى العصى – بالمسدسات، بادياً كبلطجى أخطر منهم ! هناء زوجة صفوت سلطان تسامحه بكل بساطة، بعد أن سحب من رصيدها خمسة ملايين جنيه دون علمها، وهدد أباها بسحقه ؟! رغم أن شباب عائلة الغانم، ذوى “الدم الحامى”، يحاصرون أختهم صفاء، قاتلين حريتها، فإنها تخدعهم بسهولة، موهمة إياهم أنها طالبة فى الجامعة بينما تدرس بمعهد الموسيقى، بل أنها تغافلهم وتسافر إلى لبنان لتشارك فى مسابقة غنائية ! حسن سرادق يتحول من تجارة المخدرات إلى العمل بجمعية خيرية، لمجرد أن الحلال أحلى ! زينهم زكريا يصاب بالجنون بعد هجران حبيبته توبة له، ليهذى مغيَّباً مثل قيس بن الملوح، فى رومانسية عضال مفاجئة! عصمت سوناى، المجرم العالمى والقاتل المطلوب للعدالة، يتحرك فى شوارع القاهرة بحرية كرجل أعمال، دون تنكر أو اسم مستعار ؟؟ يبيع جعفر زوج توحيدة نصيبها من المركز التعليمى دون موافقتها، حتى تصاب بأزمة قلبية، ويحدث تصالح بينها وبين ولدها الوحيد على فراش المرض، فى الوقت الذى لم نشهد فيه أية مقدمات لهذا الفعل من جانب زوجها ! فى الحلقة الأخيرة، تُقتل توبة، ويُقتل ناجى عادل البدرى، وتموت أنيسة بدوى معاً فى ميلودرامية صارخة!

مشاهد كوميدية غير مقصودة!

يضبط جمعة، أمين الشرطة، زوج أخته سرادق بمخدرات تساوى 20 ألف جنيه، فيقبض عليه رغم عدد المعترضين من حوله، ليظهر طأطأ، ضمير الحارة والمؤلفين، ويهتف متفائلاً : “والله ح تنضفى” قاصداً الحلمية ومصر. ثم فى المشهد التالى نكتشف أن الأمين رمى البضاعة فى الشارع !، ونسى القضية مسامحاً سرادق ؟؟ كان على المؤلفين إما حذف الهتاف لأن طاقة التفاؤل فيه تتحول لإحباط بعدها يحطم المشهد، أو حذف مسامحة المجرم والتى لا تتوافق مع قدر مثالية الأمين فى المشهد السابق، لاسيما حين يزعق : “لازم أكون وفى للقسَم إللى أقسمته فى شغلى !!”. زينهم زكريا يرفض حديث رجل عن التوريث فى مقهاه؛ وهو أمر كان ممنوعاً فى وسائل الإعلام قبل يناير 2011، لكن استنكار الحديث عنه فى مقهى شعبى وقتها يعد ضرباً من الفانتازيا ! منصور السماحى يلغى الشيشة من المقهى لأنها تحب المخدرات، ثم يعلن أن هذا المقهى لن يجلس عليه إلا المثقفين ! والله لم أضحك فى حياتى مثلما ضحكت فى أثناء هذا المشهد، فكيف لمنصور السماحى أن يعرف المثقف من غير المثقف ؟ وهل لو دخلها غير مثقف سيرديه قتيلاً ؟! بعدها يجلب كتباً فى المقهى، ويعد من سيواظب على القراءة بـ”كيلو كباب” !! لى لى تريد أن تدير مجموعة البدرى رغم دراستها للتاريخ وليس الاقتصاد، وحين تناقشها زهرة، ترد بأن هذه المجموعة لها تاريخ وهى دارسة للتاريخ ؟؟، ثم يجد عادل البدرى ابنه ناجى التائه من 15 سنة، بمجرد الدخول على موقع الفيسبوك، فى مشهد كوميدى عبقرى لم أر له مثيلاً!

على الجانب الآخر، تبدو الكوميديا “المقصودة” مخيفة أحياناً. استمع لجملة زينهم إلى صديقه سرادق: “نتقى براز الطيور إزاى؟”، أو جملة مجدى لسليمان الصغير: “أنا ح أفقع لك عينك الخبيثة!”.

خطوط منقوصة وفرص ضائعة

تنصرف وصيفة الصغيرة، وسليمان الصغير، وزينهم الصغير، ومجدى سليمان للمخدرات، بينما يستغل السيناريو ذلك كتشويق أو كوميديا، بدون التوغل لمعنى انتشاره، ومناقشة استسلام جيل كامل للتغييب والضياع. يرى عادل البدرى ابنه التائه ناجى فى أحلام اليقظة كناجى السماحى، وبعد مقتل الابن، يخبر قمر : “عرفتى ليه كنت بأشوفه كده ؟!” (أنا شخصياً لم أعرف !). كما بقيت شخصية الخُمس دون تطور أو إستغلال؛ فهو لا يزال شريك بسة، لا أكثر ولا أقل. الأسوء من ذلك استعادة شخصية توفيق البدرى، الإرهابى المُطارَد، دون أى استخدام؛ فهو موجود طوال الحلقات ليزور زوجة أبيه ليس إلا ! ولم ندر من حاول إغتيال زهرة بالضبط ؟ ولماذا ؟! وهل هناك معنى لمقتل ناجى ابن عادل البدرى على يد الصهاينة بفلسطين فى عز ثورة يناير ؟!؛ أهى إرهاصة بأن علاقة مصر بالقضية الفلسطينية انتهت مع ثورة يناير، لاستغراق مصر فى شأنها الداخلى لاحقاً ؟ أم أن هذا لا يتجاوز كونه إنهاء لخط درامى ما، ومؤلفى هذا العمل ليس لديهم – كما المؤلف الأصلى – بعد ثانى، خفى وعميق، لما يكتبونه ؟!

حوار وتكرار

طيلة النصف الأول من المسلسل لا تردد نازك إلا حوارات اختصارها جميعاً : من أنا ؟ وأين أيامى ؟!، أول 3 مشاهد لجلال شهاب، من الحلقة 1 إلى 19، يكرر فيها أن سنه تقدم، وقدراته الذهنية تأخرت، ولابد من مدير لمجموعة البدرى بدلاً منه. فى الحلقة 21، تقول قمر لعادل: “إنت إتجوزتنى شفقة”، ثم بعد قليل تخبره : “إنت إتجوزتنى شفقة”، ثم فى المشهد التالى لها مع توحيدة وفاتن تخبرهما أن : “عادل إتجوزها شفقة” !، ثم يتفوق مشهد وفاة أنيسة حين يجعلها تسمع “اسمها” من جميع شخصيات الأجزاء السابقة، فى لحظة طويلة مضجرة لا أدرى ما معناها!!

يعكس التكرار فقراً إبداعياً، وإنعداماً للخيال، مع تكرر جملة : “القهوة دى لها حكايات ولا حكايات ألف ليلة وليلة” لحوالى 3 مرات، على لسان شخصيات مختلفة، وكأن لا وسيلة لتصوير تاريخ مقهى السماحى إلا بهذه الجملة. وهناك جمل ركيكة، مثل جملة صفوت سلطان : “نحب نسألك بشكل واضح وبوضوح” ! أو جملة منصور فى رثاءه لأنيسة : “كانت بتدلدق حنية” !، وعندما تتلكأ أنيسة لتوبة لمنعها من زيارتها تقول : “إنتى بتلبسى محزق، وأنا عندى ولد على وش بلوغ !”. لا أظن أن أنيسة ستنطق جملة بهذا القبح، فالمفروض أنها ستستخدم جملاً تتسق وثقافة شخصية شعبية مثلها لتقول – مثلاً – “عندى ولد شنبه بيخط”، أو غيرها من التشبيهات الأقل مباشرة، والأكثر جمالية.

وبينما تنفعل زهرة بشكل زائد فى برنامج صفوت، مقررة تدميره، يفشل الحوار فى صياغة أسئلة تشعلها لهذه الدرجة. ولم تقم المونولوجات الداخلية بشئ غير تفسير المتفسر؛ مثل حب مجدى للى لى، حب سولى لصفاء، كراهية أمير – محامى لى لى – لمجدى.. والكثير مما كان من الأفضل التعبير عنه بالحدث أو الصورة.

فكر آخر

عصمت سوناى أتى لمصر سنة 2005، ساعياً لتأسيس ديموقراطيات جديدة فى الشرق الأوسط، عبر تأليب الشعب على حكومته، بالقنوات والجرائد المعارضة، وترويج أكاذيب عن جهاز الداخلية، والاجتماع مع منظمات المجتمع المدنى لإشاعة أفكار التظاهر والإعتصام؛ أى أن ثورة يناير 2011 فوضى خلاقة، برعاية أجنبية، وليست لحظة إنفجار شعبى ضد سلبيات جبارة نهشته على إمتداد عقود، ويعترف السيناريو ببعضها فعلاً (مأسأة عبارة السلام، حوادث القطارات، فساد الوزراء، ديكتاتورية الحكم..) ؟؟ أظن أنه من أبسط قواعد إكمال عمل قديم هو احترام فكره، وإذا ما كان لدى مؤلفى هذا الجزء فكراً آخر مخالفاً، فلماذا لا يبثوه فى عمل ينتمى إليهم بالكامل ؟! صحيح أن أسامة أنور عكاشة توفى قبل الثورة، لكنه لطالما قدم فى أعماله رصداً لأسباب ثورة قادمة، وتمجيداً لنماذج ثورية مبكرة (راجع – كمثال – مسلسله “عصفور النار”، إنتاج 1987، والذى تنبأ فيه بكل أحداث يناير وفبراير 2011)، وبالتالى أزعم أنه لم يكن ليرى إنتفاضة المصريين لنيل حريتهم، وخلع الفساد، مؤامرة خارجية !

يعضد هذا الخط أحداث مثل عرض الإعلامى صفوت ڤيديو تعذيب مواطن داخل قسم شرطة، وهى إشارة صريحة لفيديو تعذيب المواطن “عماد الكبير” الذى صُوِّر داخل قسم شرطة فى وقت مقارب (2006)، لا لشئ إلا ليكتشف صفوت أن الڤيديو مفبرك، ويتم إحراجه أمام وزارة الداخلية التى أتهمها بالتقصير. يبدو هنا وكأن الأجهزة الأمنية قبل ثورة يناير كانت لا تعانى من أى فساد، وقضايا التعذيب ليست إلا تلفيقات مجحفة. كما أن عرض الڤيديو لا يُسعد إلا سوناى، المتأمر على البلد، وكأن فتح هذه الملفات جريمة مدبرة، والحديث عنها إعلامياً لا يفيد إلا أعداءنا. يتكامل مع ذلك ظهور شخصية حبيب العادلى، وزير داخلية مبارك (أداء مفيد عاشور) كشخصية مخلصة، محببة، دون ذكر أية تجاوزات فى عهده.

أما فى الحلقة 30 والأخيرة، فتظهر هذه الأراء على نحو فاضح. فزينهم يقتل توبة فى خضم مظاهرات يناير، إنتقاماً لقلبه الجريح، وفى المشهد التالى مباشرة تتباكى القنوات الفضائية على تساقط الشباب قتلى برصاصات الغدر؛ ليبدو الأمر كأنه كذبة كبرى، وأن شهداء الثورة قُتِلوا لأسباب غير خروجهم للمطالبة بالحرية، وعلى يد أشخاص منهم !! ومن يطالب بمحاكمة قادة النظام الفاسد هو صفوت سلطان، فاسد آخر، ناشداً الإنتقام منهم لأسباب شخصية لا وطنية ! هناك تحسر بسبب الثورة، ونفور منها، لما أدت إليه من تأخر اقتصادى، ونشوب صراعات داخلية. والمتفاوض مع وزارة الداخلية من شباب الميدان هو تاجر المخدرات الذى أغوى وصيفة الصغيرة ! ثم تموت أنيسة بدوى – رمز الأم الحنون، التى تحوّل بيتها إلى وطن اليتامى والمحزونين – وذلك قبيل تنحى مبارك بقليل؛ والرمز فى اختيار التوقيت سيئ النية (مصر ماتت بسبب الثورة، ومع خروج مبارك من السلطة ؟؟). أما المشهد الأخير، لأبطال العمل متوقفين فى إشارة مرور داخل سياراتهم ساعة التنحى، فحدث ولا حرج؛ هنا يوهمنا السيناريو أنه يعرض كل وجهات النظر المتضاربة فى الثورة دون تبنى وجهة نظر محددة، وإن ألح طيلة الوقت، ثم من خلال حوار ذلك المشهد، على كونها مؤامرة أو وبال، متجاهلاً فرحة الجميع برحيل ذلك النظام العفن، وصرخة البهجة التى انفجرت من قلوب الملايين فى واحدة من أعظم لحظات تاريخنا الحديث.

بإختصار، تميزت ليالى الحلمية فى أجزاءها الخمس الأولى بأنها تحيزت للشعب أكثر مما تحيزت للسلطة، ولكنها لم تفعل العكس !
الأداء

مشاهد زهرة وابنتها وصيفة غلبت عليها العصبية الزائدة، والزعيق الصاخب. محمد متولى كبسيونى تخلص من مشيته المترنحة وصوته المتقطع المرتبطين بتقدم سنه فى الجزء الخامس، رغم إضافة بين 10 و15 سنة إلى عمره فى هذا الجزء. وبينما منصور السماحى شخصية مثالية، تمثل آخر سلالة الشرفاء فى عائلة السماحى، يؤديها ممثلها محمود البزاوى بجمود وبطء ونظرة خرساء كأنه رجل مافيا أو مدمن مخدرات!

الماكياچ

كيف لا تبدو علامات الزمن على زهرة وقمر ؟ نعم، إلهام شاهين وحنان شوقى ممثلتان جميلتان، لكننا نتحدث عن شخصيات بين الخامسة والخمسين، والخامسة والستين ؟؟ نشهد سوناى بملامح رجل موفور الصحة فى الخمسين، بينما المفترض أنه عجوز فى السبعين. وفى الوقت الذى أظهر فيه الماكياچ إنهيار شخصية بسة أمام الزمن فى الجزء الخامس، نراه هنا بدون ملامح شيخوخة !

هفوات جانبية

ثمة هفوات وقعت من جانب بعض العناصر، مثل الديكور والإكسسوار والملابس، عكست فى مجملها استسهالاً وتسرعاً. ففى مقهى السماحى، الصورة المعلّقة للمعلم سيد أبو ليلة هى صورة حافظ رضوان من مسلسل الشهد والدموع (الفنان يوسف شعبان قام بالدورين!)، وصور زينهم وطه السماحى ملتقطة من تترات الأجزاء السابقة!!، وصورة سليمان غانم فى قصره تجسده فى لحظة بكاء، من الذى يضع على حائطه صوره له فى أثناء بكاءه؟!! أفتقد المطرب محمد الحلو لأى كلمة تكريم قبل اسمه على التترات، وتم استخدام نسخة ذات جودة سيئة من أغنيته لنفس هذه التترات. ثم نقطة ضايقتنى ولا تزال، كيف لم تختلف ملابس منصور السماحى من مشهده الأول إلى مشهده الأخير رغم مرور السنين؟!

الإسفاف

إزدحم العمل بالملابس الضيقة جداً، والقصيرة جداً، لهناء زوجة صفوت، وندى زوجة سولى، وسالى فتاة سليمان الصغير، ووصيفة ابنة زهرة، ودارين مذيعة القناة الفضائية، وشروق زوجة كريم. ناهيك عن الإطالة فى مشاهد الديسكو ورقصاته وأغانيه المبتذلة. لا شك أن عكاشة وعبد الحافظ تقلبا فى قبريهما بما فيه الكفاية وقتها !

الإخراج

إذا ما كان النص إنزلق فى الخطأ أحياناً، فإن الإخراج غرق فيه. أبو عميرة، الذى كنت أعتبره آخر جيل العمالقة فى الإخراج التلفزيونى المصرى، لم يفعل شيئاً إلا إجلاس الشخصيات، ليلقوا حوارهم، بينما الكاميرا تعرض لنا وجوههم على نحو آلى رتيب، دون تحريك لممثل، أو تحريك لكاميرا، أو – حتى – تغيير لحجم الكادر. أضف لذلك استعمال عدسة الإسكوب العريضة، التى تُصغِّر الشاشة الصغيرة بالفعل، وتشيع – بإستعمالها السيئ – مللاً بصرياً طاغياً. تؤلمك المفارقة حين مقارنة ذلك الخمول، بل الخمود، بالأعمال السابقة لإسماعيل عبد الحافظ، أو أبو عميرة ذاته، التى تضج حيوية وعنفواناً. ويكفى مشهد تلقى عادل البدرى لنبأ مقتل ولده الوحيد، فى برود وإقتضاب مقيتين، كمثال يجمع ما يعانيه هذا المسلسل من عيوب فى السيناريو والإخراج.

**

فقدت ليالى الحلمية قوتها بعد الجزء الثالث. والآن يجئ الجزء السادس بين المستوى المتوسط للجزء الرابع، ومستوى بلادة جديد لم يعان منه الجزء الخامس رغم ضعفه. إجمالاً، هذا نموذج غير محمود لاستكمال مسلسل عظيم له طابعه المميز درامياً وفكرياً. ورغم محاولته بعث عالم عشنا فيه أياماً حلوة، فإنه أشبه بحلم مزعج، حوَّل أحباءنا إلى زومبى، والحلمية إلى بيت أشباح.

وأخيراً، فإن أغنية التترات لم تعد من نسيج العمل، مفعمة بدسامة لم يوفرها هذا الجزء، لتبدو مثل تجليد فخم لكتاب أقل قيمة، وكلما سمعتها تسأل: “ولفين ياخدنا الحنين؟”، أجيب: “لواحة الحيرانين.. أو للأجزاء السابقة!”.

**

أحمد عبدالرحيم – سيناريست وناقد مصري