خيط رفيع بين البساطة والسذاجة، فالأولى تعني صفاء النية والتلقائية، أما السذاجة فتشير إلى إمكانية الوقوع صيدًا سهلًا للخداع والمكر.
ومابين البساطة والسذاجة هناك الكثير من الحكايات لترُوى، إلا أن أطرفها على الإطلاق، هو قصة القروي الذي اشترى ترام القاهرة بـ200 جنيه في أربعينيات القرن الماضي.
ففي الأول من مارس عام 1948، نشرت جريدة “أخبار اليوم” المصرية، حوارا أجرته مع محتالًا عمره (27 عامًا) واسمه رمضان أبو زيد العبد، حكى عقب خروجه من السجن قصة أطرف عملية نصب قام بها.
وكانت تلك القصة ملهمة كفاية ليلتقطها الكاتب الصحفي جليل البنداري ويحولها إلى فيلم سينمائي قام فيه بدور النصاب أحمد مظهر، والضحية كان إسماعيل ياسين الذي اشترى ميدان العتبة! وهي القصة التي ذاع صيتها عالميا حتى أن مجلة رندن المصورة نشرت رسمة كاريكاتورية في صدر غلافها تجسد تلك القصة.
ويروي “العبد” في حواره لـ”أخبار اليوم” تفاصيل القصة قائلا إنه كان يركب الترام رقم 30 في شارع القصر العيني ذات يوم، وكان بجواره أحد القرويين، الذي يبدو عليه علامات السذاجة المفرطة، فشعر أنه يمكن أن يكون فريسة سهلة له، فبادر “العبد” وأعطاه سيجارة، وبدء والقروي الساذج يتبادلان أطراف الحديث.
أسرع وسيلة للنصب!
وأثناء الحديث عرف “العبد” أن القروي يُدعى حفظ الله، جاء إلى القاهرة ليستثمر مبلغ مالي كان بحوزته في عمل خاص يليق به، فعرض عليه “العبد” بعض المشاريع، ولكنه رفضها جميعًا ولا شئ منها راق في نظره، فأعطاه سيجارة أخرى، وأشعل لنفسه واحدة، وأستغرق في التفكير، وعندها أبدي القروي ملاحظة على ازدحام الترام، فقفزت الفكرة سريعًا إلى رأس المحتال، فعرض عليه أن يشتري الترام ليدر عليه مالا وفيرًا لأنه “مشروع مضمون”، فابتهج القروي، ووافق على العرض.
وعلى الفور، توجه “العبد” بصحبة القروي إلى محامي للحصول على عقد بيع، حيث استعان العبد بصديق له يعمل لدى أحد المحامين ليجهز صيغة عقد بيع بصم عليه القروي الساذج، وطلب مبلغ 200 جنيه ثمنًا للترام، مؤكدًا للقروي أنه نظرًا لكونهما “بلديات” طلب منه هذا المبلغ الصغير ثمنا للترام الذي لا يقل سعره بأي حال من الأحوال لو قرر بيعُه لشخص غريب عن ألف جنيه مصري!
وبعد مساومة وإلحاح من القروي، الذي أخبره أنه ليس معه سوى ثلاثة وثمانين جنيهًا فقط، عرض عليه المحتال أن يترك له ثلاثة جنيهات، ويأخذ منه ثمانين جنيهًا، ويختم على كمبيالة بمبلغ 120 جنيهًا، ليكون إجمالى المبلغ 200 جنيه للترام.
وفي ميدان العتبة، وقف حفظ الله، ينتظر بلهفة الترام رقم 30 فقد كان لا يجيد سوى قراءة الأرقام فقط، كي يقوم باستلامه وتشغيله، وما لبث أن أبصره قائلًا: “أهه”، فبادر المحتال، واتجه إلى الكمساري، وترك حفظ الله، مع زميله ليتولى مهمة إلهائه.
وكانت التذكرة حينها بمبلغ 8 مليمات فقط، حيث طلب “العبد” من الكمساري أن يصحب قريبه “حفظ الله” معه في الترام وقطع تذكرة وطلب من الكمساري الاحتفاظ بالباقي نظير الاهتمام ببلدياته الذي سينزل في آخر الخط “لأنه غريب ولا يعرف شيئا”.
وظل حفظ الله يتابع حركة بيع التذاكر حتى وصل الترام إلى محطته الأخيرة، فطلب من الكمساري الحصول على الإيرادات، فاتهمه الكمساري بالجنون، فقام حفظ الله بضرب الكمساري وناظر المحطة الذي حاول أن يشرح له أنه لا يوجد ملاك للترام، وانتهى الأمر في النهاية داخل قسم الشرطة، وبعد أن حكى حفظ الله ما حدث معه عرض عليه الضابط صور لمجموعة من المسجلين في قضايا نصب وكانت من بينهم صورة رمضان العبد.
وتمكنت الشرطة من القبض على المحتال وحكم عليه بالسجن لمدة عامين ونصف. ثم قام المؤلف جليل البندارى سنة 1959 بتحويل الحادث إلى فيلم سينمائي باسم “العتبة الخضراء” قام أحمد مظهر بدور المحتال الطريف، وإسماعيل يس بدور القروي الساذج.