لم يجد المؤرخون وصفا يمكن أن يطلقوه على الهولندية “ماتا هاري”، سوى أنها “جاسوسة الجاسوسات”!
اسمها الحقيقي “مارجاريتا جِرترودا، وهي راقصة هولندية، اعتبرت أشهر جاسوسة في التاريخ الحديث، بعدما تمكنت من التجسس على فرنسا لصالح ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، وهو ما دفع الفرنسيين لإلقاء القبض عليها وإعدامها رميا بالرصاص في 15 أكتوبر 1917.
قبل عملها بالجاسوسية، اشتهرت ماتا باحترافها الرقص كما كانت تمارس البغاء، وكانت واحدة من أشهر المومسات اللاتي اقتصر عملهن على رجال الطبقة العليا فقط، وهو ما ساعدها لاحقا على التجسس على بعضهم لصالح البعض الآخر!
ولدت “ماتا” في عام 1876 بهولندا، وتزوجت وأنجبت وهي في التاسعة عشر، ثم انتقلت مع زوجها الذي كان يعمل ضابطا إلى إندونيسيا، وهناك فتنها الشرق وقررت احتراف الرقص الشرقي بعدما توفي طفلها وأهملها زوجها، وعندما عادت إلى أوروبا توجهت إلى باريس وغيرت اسمها، ولكنها لم تفلح في احتراف الرقص في البداية، فاختفت فترة من الزمن عن الأنظار ثم عادت بشخصية جديدة، حيث زعمت أنها أميرة شرقية اضطرتها الظروف لاحتراف الرقص وأطلقت على نفسها اسم “ماتا هاري” وتعني “عين النهار” وألفت سيرة حياة جديدة كانت تسردها على من يريدون التعرف عليها.
وبعد سنوات، تعرف عليها قنصل ألمانيا في هولندا، والذي قام بتجنيدها للعمل ضد الفرنسيين وتم منحها اسم حركي بعدما بدأت تعمل كجسوسة رسمية لصالح الألمان، إلا أن الأحداث قادتها للتعرف على أحد كبار الضباط المخابرات الفرنسية الذي لم يكن يعرف حقيقة علاقتها بالألمان، فقرر أن يجندها للعمل لصالح فرنسا، وتحولت بالفعل إلى عميل مزدوج!
وفي عام 1916، تم إلقاء القبض عليها من قبل الفرنسيين بتهمة الجاسوسية، إلا أن الأدلة لم تكن كافية لإدانتها، حيث كانت تستخدم شفرة مراسلات شديدة التعقيد في خطاباتها التي كانت ترسلها إلى الألمان، وعجز الفرنسيون عن فك تلك الشفرة لمعرفة محتوى الخطابات.
وبدلا من إدانتها، قررت فرنسا إعادة الثقة فيها واستخدامها مجددا للعمل لصالحها، وأرسلتها في مهمة سرية إلى بلجيكا، وبالفعل بدأت العمل لصالح الفرنسيين، قبل أن يكتشف الألمان خدعتها ويقرروا الانتقام منها.
حيث أرسل الألمان خطابات لها بشفرة سهلة يستطيع الفرنسيون فهمها جيدا، وهو ما فضح أمرها أمام الفرنسيين، الذين قدموها للمحاكمة مجددا، وفي هذه المرة لم تفلح ماتا في الدفاع عن نفسها، حيث حكم عليها بالإعدام، وبعد شهور من المحاكمة، أعدمت رميا بالرصاص في عام 1917 قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى.
قصة جاسوسة القرن العشرين كانت أكثر القصص إلهاما للكتاب والأدباء في هذا الوقت، حيث تجمع الحرب والحب والغواية والجمال الأنثوي كما افترضوا، وكما جسدوها في شخصية الممثلات الجميلات اللواتي قمن بتجسيد دور ماتا هاري في السينما العالمية، وأولهم وأهمهم جريتا جاربو ثم مارلين ديتريتش وأخيرا فرانسواز فابيان.
وكان من الملفت حقا، أن بعض المؤرخين قالوا بإن ماتا هاري لم تتجسس على فرنسا لصالح ألمانيا في الحرب العالمية الأولى كما قيل، ولكن فرنسا أخذت علاقات ماتا هاري برجال الجيش الألماني ورجال المجتمع دليل عليها في تهمة التجسس لتداري بهذا على خسارتها الحرب، وكأنها تقول أن فرنسا لم تهزم بل تعرضت للخيانة والجواسيس.
وبعد أن نفذ حكم الإعدام بها أرسل الفرنسيون جثتها لمدرسة الطب في باريس لاستخدامها في دراسات التشريح، حيث شرحت جثتها وذهبت كل قطعة منها في مكان مختلف، كما تمت إزالة رأسها والاحتفاظ بها في متحف التشريح، ولاحقا اختفت الرأس وأصبحت في عداد المقتنيات المفقودة، دون أن يثير اختفائها أي ضجة أو حتى إجراء أي تحقيق حوله!
وبالرغم من اتهامها بالجاسوسية وعملها بالبغاء، إلا أن ذلك لم يمنع هولندا من تخليد ذكرى ماتا هاري، حيث وضعت لها تمثالا في أحد الميادين بمدينة ليووادن الهولندية، موجود حتى الآن.