تجاوز ماجد الكدواني مرحلة الممثل الجيد أو المخضرم، فهو في طريقه الآن لأن يصبح أيقونة في تاريخ السينما المصرية، تذكِّر جداً بموهبة في حجم الراحل صلاح منصور.
لايمكنك أن تفصل بين ذلك وبين دور الكدواني، في فيلم تراب الماس، كفيلم يمثل الـ(casting) وتوفيق المخرج في تسكين الممثلين في أدوارهم، أهم عناصر قوته علي الإطلاق، بدايةً من أبطال الشخصيات الرئيسية، ماجد الكدواني، وآسر ياسين ومنة شلبي وإياد نصار، وأحمد كمال، وشيرين رضا، وقطعاً محمد ممدوح، فبعد أن تشاهده، لا يمكنك أن تتخيل أحد مكانه في الدور، ثم وصولاً لممثلي الأدوار الخاطفة المؤثرة وتحديداً دوري بيومي فؤاد وسامي مغاوري، أو حتى الممثلين الذين لم تزد مساحتهم عن مشهد أو اثنين صامتين (محمد الشرنوبي، ومها نصار، وتارا عماد) فوجودهم أضاف طعماً وتأثيراً أكبر.
شيرين رضا “براند” لا يمكن تقليده، شغلت مساحة في السينما والدراما لم يسبقها أحد إليها، بهذا التمكن، ولكنها علي وشك الوقوع في فخ التصنيف، وتنميط نوعية أدوارها.
منة شلبي وآسر ياسين، في واحدة من أفضل حالاتهما، وهما “شريك” أساسي في حالة المتعة التي يقدمها الفيلم، فلايمكنك أن تمر مرور الكرام، على تميز أداء آسر في مشهد “الصرع” أو مشاهد “المستشفى” على سبيل المثال، أما إياد نصار فلا زلت أشعر وأنا أشاهده، أنه قبل الوقوف أمام الكاميرا لابد وأنه يمارس نزالاً ضارياً مع الشخصية يقبض عليها في آخره فيطوعها ويكون السيد عليها.
وكما دوره في “هذا المساء”، إياد يمتلك في “تراب الماس” القدرة على أن يريك الانفعالات الداخلية للشخصية، بحيث تستطيع عبر خلجات وجهه وأداؤه فقط أن ترى أعماقها خلف قناع من الهدوء الثقيل، وبأقل قدر من الحوار.
ثم يختم إياد نصار دوره في الفيلم بمشهد مواجهة مع منة شلبي، يتنقل خلاله بتمكن شديد بالانفعالات من المفاجأة، والتبرير، والمسكنة، ثم وصولاً في إلى التوحش في النهاية، بعد أن يكون قد ورط المشاهد في فاصل من متعة الأداء لا يمكنه الإفلات منه بسهولة، تماماً كما فعل بنا ماجد الكدواني (العقيد وليد سلطان) في مشهد المواجهة الأخير مع آسر ياسين في الكافيه، وآسر يخبره أنه كشف حقيقته.
صابرين موهبة كبيرة لا يمكن الاستهانة بها بعد “أفراح القبة”، وحضورها في تراب الماس محبب فعلاً للمشاهد، لكن بصرف النظر عن أننا قطعاً نحب أن نرى صابرين وهي “بتمثل حلو”، يبقى السؤال عن أهمية الدور كله في الفيلم بالأساس، أو تأثيره في الأحداث.
تعبيرات وجه الفنان عزت العلايلي وحضوره الطاغي وبنيانه العريض وحتى مرحلته العمرية، كلها عناصر خدمت دور محروس برجاس، رجل كل العصور، ولكن ضعف واهتزاز الصوت لعامل السن للأسف خصم كثيراً من ظهور الفنان الكبير الذي افتقدناه طويلاً على الشاشة.
ورغم مذاقه المختلف في الأداء، جاءت لكنة اللبناني عادل كرم كعيب واضح، في دور هاني برجاس، ولا أعرف ما إذا كان وقوع الاختيار عليه للدور سببه افتقاد الممثلين المصريين للجرأة الكافية حتى الآن للاقتراب من دور الشاذ جنسياً بتفاصيله، وذلك باستثناء خالد الصاوي بطبيعة الحال، في دور كان هو نقطة التحول الحقيقية في مشواره الفني.
وفي هذا السياق أيضاا، يحسب لمروان حامد بالطبع تقديم شخصية “الشاذ جنسياً” للمرة الثانية، في فيلم له، بتناول مختلف تماماً عن “عمارة يعقوبيان”، فالنموذجين لايربطهما أي تشابه في الحالة أو التفاصيل.
استطاع مروان كذلك أن يصنع إيقاعاً متماسكاً تماماً، يحبس الأنفاس في مشاهد ظهور محمد ممدوح في الصيدلية تحديداً، وكذلك في مشهد الاغتصاب، حيث قدمت منة شلبي من جانبها أداء صادقاً ودوراً من أفضل أدوارها السينمائية، كما نجح مخرج الفيلم في تقديم مشهد اغتصاب موجع وجديد.
الإضاءة والديكور كانا عاملين مهمين للغاية في خلق حالة الفيلم بأكمله، أما الملابس فكانت بطلاً رئيسياً بالتأكيد ساهمت في رسم ملامح الشخصيات بوضوح، وأبرزت على سبيل المثال التحول في تركيبة شخصية سارة التي لعبتها منة شلبي، من الجرأة والقوة والانفتاح بملابسها القصيرة وجسدها المتحرر الذي ينبض بالحياة، إلى الانكسار والضعف والرغبة في الاختباء في ملابسها الطويلة الفضفاضة بعد اغتصابها.
صحيح أن مشهد اغتسال سارة، بعد اغتصابها، وتوظيفه كترجمة نفسية، لرغبتها في التخلص من انتهاك وهزيمة ووسخ وقذارة قد مسوا جسدها وروحها، يبدو مكرراً في السينما، كما في “عمارة يعقوبيان”، وهو فيلم للمخرج ذاته، عكس خلاله معاناة “سعاد/ سمية الخشاب” بعد أول لقاء جنسي لها مع زوجها (الحاج عزام/ نور الشريف)، وقد سبب لها الصدمة والشعور بالاشمئزاز،غير أن تكرار المشهد لا ينفي أنه قد خدم شخصية “سارة” في تراب الماس، وساعد على توصيل حالتها بشكل أعمق، بل وتحول إلى أقوى مشاهد منة في الفيلم.
تراب الماس في النهاية هو فيلم جيد الصنع، لمخرج أحسن اختيار وإدارة ممثليه، ونجح في تقديم فيلم كان عنصر التمثيل هو أعلى عناصر القوة فيه، وأضعف ما فيه سيناريو تسبب في إزعاج المشاهد، وفصله عن التتابع في الاستمتاع بالأداء غير مرة، وفي تسرب شعور الملل من التطويل والإرهاق في بعض الأحيان.
فضلاً عن أن السيناريو والحوار في أكثر من موضع، قد أضرا بالفكرة نفسها، بفعل المباشرة الشديدة حد التسطيح، كما في مشهد إياد نصار الأخيرالذي يقول فيه أمام الكاميرات أن الشعب “لازم يطهر نفسه بنفسه”، قبل أن يرفع يده ليشرب الينسون الذي وضعت فيه منة شلبي تراب الماس لتنتقم وتتخلص منه، وبالتالي فقد كان من الممكن أن تخرج الفكرة بشكل أفضل، إذا اختلف التناول.
وفي الأخير كل المحبة، للفنان أحمد كمال، فظهوره في أي عمل فني هو “ختم جودة” في حد ذاته لصناع هذا العمل، كما أنها مناسبة لتوجيه الدعوة لكي يحصل فنان بمثل هذه القيمة،علي احتفاء يناسب حجم مشواره الثري وموهبته الكبيرة، ولما يقدمه للسينما وللدراما حتى هذه اللحظة.