سنة 2008، كلّفتنى مجلة ما بكتابة مقال عن أنواع الصفحات الفنية فى صحافتنا. كتبت المقال لكن توقفت المجلة قبل نشره. وحينما صادفت هذا العمل فى ملفاتى مؤخراً، لاحظت أن المشاكل لم تتغير، وأن الصحافة الصفراء كانت ولا تزال قائمة، وأن الصحافة الفنية المتخصصة، وأقصد مجلات مثل “الفن السابع” و”أبيض وأسود”، لا تدوم عندنا للأسف.

إليكم المقال..

***

هل قرأت الصفحة الفنية بالجريدة؟ هناك من لا يقرأ غيرها. علي أى حال، لو راجعت تلك الصفحات في الجرائد أو المجلات، ستجد مستويات متراوحة ما بين ممتاز نادر التواجد، وجيد محدود القدر، وضعيف شائع بوفرة. ألا تصدقني؟! حسناً، تعالى لأريك ما وصلت إليه بعد سنوات من المتابعة، والفحص؛ حيث اكتشفت أن الصفحات الفنية في صحافتنا المصرية تنقسم دوماً لـ3 أنواع :

النوع الأول: نحن المتخصصون!

هذه صحافة متخصصة وقورة، فيها النقد يتحرى الدقة، نافذاً للعمق فى محاولة لتثقيف القارئ، وتحريضه على الوعى. التحقيق مختلف الأفكار، ثرى القيمة. الحوار الصحفى مشاغب بعقلانية، ويعكس نضجاً. هناك انفتاح على العالم، لكن ليس بقراءة سطحية. الخبر متنوع، وأجمل ما فيه أن طريقة عرضه محايدة لا تهدف لتشهير، أو افتعال إثارة. إلى جانب البعد عن توافه الاخبار؛ كأعياد ميلاد الفنانين، زواجهم، طلاقهم، طهور أولادهم.. إلخ.

لكن يبقى السؤال: هل تقابل هذا النوع من الصحافة كثيراً؟ وهل – إن وُجِد فى صورة مجلة – يحظى بالتمويل القومى، أو الخاص، الذى يضمن له الحياة؟!

النوع الثانى: “الجيد” هو أقصى “ممتاز” نستطيعه!

هذا النوع من الصحافة يحاول إبلاغ رسالته بأسلوب تقليدى ينزع إلى العادية أكثر من الثورية، وغايته فى النهاية الإعلام والترفيه. المقال النقدى – فى أحسن حالاته – صحفى؛ بمعنى موجز، وخفيف، وبعيد عن عمق التحليل. الخبر متواجد بكثرة، لكن أسلوب كتابته إنحدر بمرور الوقت، حتى وصل إلى مستوى أقرب للرداءة منه للبساطة، كمثال : خبر خروج نجم أفلام الحركة الهندية السابق أميتاب باتشان من المستشفى، مع صورة له عجوزاً ضعيفاً يتسنّد على أكتاف ابنه وابنته، يُكتب فوقه : “والله زمان يا أميتاب !”, أعتقد أن التعليق الأصح كان : “فين أيامك يا أميتاب ؟” لأن التعليق الأسبق يكون مناسباً لعودته الى أفلام الحركة بعد غياب، أو ما شابه.

خروج أميتاب باتشان من المستشفى – 2008

بعض الأخبار أشعر أحيانا أنها دعاية مدفوعة الأجر لتلميع نجوم، أو تقديم آخرين. هناك معلومات خاطئة لا إعتذار عنها، ولا تصحيح لها. التحليل الصحفى يتأرجح بين جيد وساذج، ويفتقر للمعلومات المفصلَّة، ودائماً هناك إفتقاد لأخبار السينما العالمية غير الأمريكية، والدعاية الكبرى للأفلام المصرية الجديدة تكون من خلال هذه المطبوعات لما لها من شعبية.

يتحقق هذا النوع فى مجموعة من الجرائد والمجلات التى لا يتجاوز عددها أصابع يديك، ويصدر معظمها تحت مظلة التمويل الحكومى.

النوع الثالث: صحافة المسخرة!

والمقصود ليس أنها تمسخر أو تتهكم، على طريقة المحاكاة الكاريكاتورية، وإنما المقصود أنها صحافة مسخرة فى ذاتها. هنا الخبر الصحفى يدمن الإفتعال والكذب، غرضه الأعظم هو الإثارة. التحقيقات يكتبها أناس غير أسوياء، كل همهم قراءة أى عمل فنى قراءة جنسية. لا عمق، لا جدية، وطبعاً لا ثقافة. لا داعى لتقييم المقال النقدى لأن – ببساطة – كاتبه أعجز عن تقييم أى شئ (حتى نفسه !). الجهل واضح، والتزييف مستمر.

صدق أو لا تصدق؛ فى هذه النوعية يمكنك ليس أن تقرأ مقالات لمن لا يعرف الكتابة وفنونها فقط، بل لمن لم ير الفيلم الذى يتحدث عنه من الأساس. وصل الأمر مرة لإتهام الفيلم المصرى (تيتو – 2004) بالسطو على قصة الفيلم الفرنسى ( Léon: The Professional أو ليون : المحترف – 1994) وهو إتهام لو عُرفَت تفاصيله وحيثياته لانتهت القضية فى ثوانٍ، وصدر الحكم بأن هذا الذى يتهم ليس إلا مُدّعياً؛ لم ير فيلماّ منهما، أو الاثنين.

فيلم المحترف (1994)

فيلم تيتو (2004)

فى تارة أخرى، تجد اتهامات خطيرة، شديدة الإرعاب، لفيلم مصرى على أنه يشجع على البغاء (أسرار البنات – 2001), وآخر أمريكى يشجِّع على تناول المخدرات، وزنا المحارم (Magnolia أو ماجنوليا – 1999) وكلها أباطيل تثير فتناً، وتغذى التطرف، وتزيد الجاهل جهلاً. هذه الكتابة إن دلت على شئ فهى تدل على أميّة ثقافية، وسطحية حمقاء، تبعد كاتبها، أو مُخرِّفها، عن مساحة مقدسة تفترض أول ما تفترض تواجد الوعى فى إنسان مهنته الأساسية هى نشر الوعى، فما بالك بحدوث ذلك فى مجتمع يفتقر شر الافتقار لهذا العنصر. لكن هذا هو حال مبدعى تلك الترهات، الذين لا يفقهون فى الفن أو غيره، ويكتبون فى الفن وغيره!

فيلم ماجنوليا (1999)

فى هذا النوع، ستجد كل القيم الضد التى تقوم على هدم القيم؛ فلا موضوعية، أو احترام، أو مصداقية. هناك حالة متأخرة من التخلف بأصنافه. إنها صورة لمناخ من التفاهة والفراغ، وفى آخر مكان ننتظر فيه ذلك. المؤلم بحق أنك تقرأ لتبتعد عن هذه الكوارث حولك، باحثاً عن مساحة أرقى وأسمى، فإذا بك تصطدم بكل هذه الكوارث فى وجهك؛ كالموقف الكوميدى الشهير لمن هرب من المجانين إلى طبيب أتضح أنه مجنون جديد، وإن كان الموقف هذه المرة لا يضحكنى بقدر ما يُبكينى، لاسيما مع تراكمية الجرائد الصفراء التى تحتضن هذا النوع، وغزارة ظهورها مؤخراً، بموافقات رسمية وترخيصات عليا!

***

وفق هذا التقسيم، ومدلولاته، ينهزم المتعمق لصالح المسلى، وينحرف المتقن إلى عشوائى، وينهار الكيف أمام الكم. يبدو أن أغلب رأس المال عندنا لا يصر على، أو يميل إلى، التعاطى مع ما هو جاد؛ وهى مصيبة قد تنتج صحفيين، وقراء، تحكمهم التفاهة وحسب!

***

..الآن، بعد مرور 10 سنوات على كتابة هذا المقال، هل ترى مشاكلاً اختفت، أو أموراً تحوَّلت للأفضل؟!

***

أحمد عبدالرحيم – سيناريست وناقد مصري