يشعر الكثيرون منا بالانجذاب نحو القصص الغامضة التي لا يوجد تفسير لها والتي تخالف الحقائق العلمية، ربما لأن بعضنا يستمتع بالشعور بالحيرة أو الشعور بأن العالم كان على خطأ كل هذه السنوات، لذا تجد مثل هذه القصص انتشارا سريعا عزز من قوته ظهور الإنترنت في العقود الأخيرة.
وبالرغم من أن كثيرا من هذه القصص يكون لها جذور محلية ترتبط بثقافة ما أو منطقة محددة، إلا أن الإنترنت أسبغ على بعض القصص صفة العالمية وجعلها أشبه بثقافة كونية لا ترتبط بمنطقة محددة، بل ترتبط بكل الباحثين عن الغرائب والقصص التي لا يوجد تفسير لها، مثل قصة الأمريكي “رودولف فنتز”.
تعد قصة فنتز واحدة من أكثر القصص انتشارا حول العالم، والتي يتمسك بها من يؤمنون بإمكانية السفر عمليا عبر الزمن، كدليل قاطع من وجهة نظرهم على تمكن البعض في الماضي من الانتقال من زمن إلى آخر بطرق لم نعرفها حتى الآن.
فما قصة هذا الرجل وما حقيقة التفاصيل التي تروى عنه؟
في عام 2000 قامت مجلة إسبانية تدعى Mas Alla، تهتم بنشر الوقائع الغريبة حول العالم أو ما تعرف بوقائع ما وراء الطبيعة، بنشر تقرير تؤكد من خلاله أن هناك أحداث شهدها التاريخ تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن البعض تمكن من السفر عبر الزمن، مستشهدة بواقعة المواطن الأمريكي “رودولف فنتز”.
المجلة الإسبانية قالت في تقريرها، إنه في منتصف شهر يونيو من عام 1951، وفي مساء أحد الأيام بميدان التايمز بقلب مدينة نيويورك الأمريكية، ظهر شاب بين المارة يرتدي أزياء غريبة تعود إلى القرن التاسع عشر، أثار دهشة وحيرة كل من رآه، فلم يكن يدري أحد من أين جاء هذا الرجل ولا لماذا يرتدي هذا الزي الغريب؟!
الشاب الذي بدا أنه في العشرينيات من العمر، كان مرتبكا للغاية ويشعر بالحيرة والخوف من كل شيء حوله وكأنه مسافر غريب جاء من بلاد لم نسمع عنها من قبل، ونتيجة ارتباكه وشعوره بالخوف، اندفع لعبور الميدان بشكل مفاجئ لتصطدم به سيارة أجرة “تاكسي” وتسقطه قتيلا في الحال.
في المشرحة، عثر شرطي يدعى “هابرت ريهم” تولى التحقيق في الواقعة، على عدة أشياء غريبة داخل ملابس الشاب، لم يجد لها تفسير مقنع، فمثلا وجد غطاء زجاجة بيرة عليها اسم متجر لم يسمع به من قبل حتى كبار السن ممن يعملون في الشرطة، وفاتورة رعاية حصان صادرة من اسطبل تشير البيانات أنه يقع بحي ليكسينجتون بنيويورك وبالرغم من ذلك لم يكن هناك أي اسطبلات في الحي المذكور! بالإضافة إلى 70 دولار من عملات ورقية قديمة، وبطاقة عمل الشاب عليها اسمه وعنوانه في الحي الخامس بنيويورك، وأخيرا خطاب كان مرسل إلى الشاب على العنوان ذاته المذكور في بطاقته إلا أن الخطاب المرسل من فلادلفيا إلى نيويورك كان مؤرخا بتاريخ يونيو 1876!
الشرطي “هاربرت ريهم” الذي كان يعمل في دائرة الأشخاص المفقودين بشرطة نيويورك، جمع كل هذه البيانات وبدأ عملية البحث عن أهل الشاب، وأول شيء صادفه هو أن العنوان المذكور على أنه عنوان سكن الشاب يوجد مكانه مشروع تجاري كبير وليس مباني سكنية، كما أن أحدا من العاملين في المشروع لم يكن يعرف أي شخص يدعى رودولف فنتز، وبتوسيع دائرة البحث اكتشف أن أحدا لم يبلغ عن فقد شخص بالاسم ذاته في نيويورك!
غموض المعلومات دفع الشرطي للبحث بكل الطرق الممكنة بهدف الوصول لحقيقة الشاب، حتى عثر على اسم شخص يدعى “رودولف الابن” في دليل قديم لهاتف التليفون بمدينة نيويورك يعود لعام 1939، وعندما اتصل على الرقم أجابه شخص أخبره أنه كان هناك بالفعل ساكن يدعى “رودولف الابن” يعيش في هذا المكان إلا أنه انتقل منه إلى مكان غير معلوم عام 1940 بعد تقاعده وكان يبلغ من العمر حينها 60 عاما!
وبالبحث في قواعد بيانات بنوك نيويورك، عثر الشرطي على اسم “رودولف الابن” بأحد البنوك، حيث أخبره العاملون أن شخصا بالاسم ذاته كان له حساب بالبنك ولكنه توفي قبل خمس سنوات، فيما لاتزال أرملته على قيد الحياة تعيش في فلوريدا وأعطوه رقم الأرملة، فسارع الشرطي بالاتصال عليها، ليكتشف المفاجأة.
قالت الأرملة للشرطي إن والد زوجها، وكان يدعى “رودولف فنتز” اختفى في عام 1876 وعمره 29 عاما، حيث خرج ليلا من منزلهم بنيويورك ولم يعد أبدا رغم كل محاولات البحث التي استمرت عدة أشهر عنه.
في البداية لم قتنع الشرطي بحديث الأرملة، فقام بالبحث عن قوائم أسماء الأشخاص المفقودين في عام 1876، ليكتشف اسم “رودولف فنتز” بينها، كما أن صفات الشخص المذكور وملابسه التي كان يرتديها عندما فقد كانت تتطابق مع صفات وملابس الشاب الذي صدمته السيارة في ميدان التايمز.
نعود إلى المجلة الإسبانية التي نشرت تلك هذه التفاصيل، حيث قالت إن الشرطي خشي من نشر نتائج تحقيقاته حتى لا يتهم بالجنون، وأخفى هذه المعلومات لديه عدة سنوات، حتى تمكنت المجلة من التوصل إليها ونشر تفاصيلها.
تقرير المجلة الإسبانية لاقى رواجا وانتشارا كبيرا، أثار حفيظة باحث في التراث يدعى “كريس أويبك” كان غير مقتنع بالقصة، فقرر إجراء بحث للتأكد من صحة المعلومات المنشورة في تقرير المجلة، ليبدأ عملية تتبع لكل أسماء الأشخاص والأماكن والعناوين المذكورة، ليكتشف أنها جميعها أسماء غير صحيحة ولا وجود لها، كما لا يوجد أي عناوين في نيويورك تحمل الأسماء ذاتها لا في عام 1951 ولا حتى في نهايات القرن التاسع عشر.
ولكن الباحث لم يتوقف عند هذه النقطة، حيث أراد أن يعرف من أين حصلت المجلة على هذه القصة الغريبة التي نشرتها على أنها حقيقة، فواصل البحث ليكتشف أن هناك مجلة أخرى تدعى “Borderland Research” كانت تهتم أيضا بنشر تقارير وتقصص عن الظواهر الغريبة في العالم، نشرت التفاصيل ذاتها عن قصة “رودولف فنتز” في سبعينيات القرن الماضي، كاشفة أنها نقلت هذه المعلومات عن كتاب منشور في عام 1953، زاعمة أنها قصة حقيقة.
الباحث الإسباني نشر تفاصيل بحثه في عام 2001، ليفاجأ بقس يتصل عليه ويخبره أن أصول القصة أبعد مما وصل إليها، وأنها ليست مجرد واقعة غير صحيحة، بل إنها قصة من قصص الخيال العلمي نشرت عام 1951 في مجلة “كوليير” الأدبية لكاتب أمريكي مغمور أصبح فيما بعد واحدا من أشهر كتاب الخيال العلمي هو “جاك فيني”، وكانت تحمل عنوان “أنا خائف”، ولكن القصة لم تحدث انتشارا كبيرا حينها، وهو ما استغله البعض ليروج للقصة فيما بعد على أنها واقعة حقيقية شهدتها مدينة نيويورك عام 1951.
الملفت أن قصة رودولف فنتز، لاتزال تثير شهية الكثيرين الذين يروجون لها حتى الآن، وستجدها منشورة على العديد من المواقع الأجنبية والعربية وكذلك مقاطع اليوتيوب مصحوبة بصور مفبركة لشخص وهمي لا وجود له وواقعة مزيفة، يعتبرونها حقيقة لا يريد العالم الاعتراف بها!