كانت ثورة 1919 ثورة شعبية حقيقة، اشترك فيها كل طوائف الشعب بمختلف فئاته ربما للمرة الأولى في التاريخ المصري، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، موظفون وفلاحون وعمال وطلبة وتجار وحرفيين، لم يكن أحد يرى أنه خارج حسابات الثورة، كان الجميع يرى أنها ثورته وأنه يجب أن يشارك بها طلبا للحرية والاستقلال.

وفي خضم المظاهرات العديدة التي كان يواجهها الاحتلال الإنجليزي بالعنف المفرط في ذلك الوقت، رأى ممثلو المسارح في القاهرة، أنه من الواجب عليهم المشاركة في هذه المظاهرات وأداء دورهم الوطني، وتناقش قادة الفرق المسرحية حينها، واتفقوا جميعا على أن ينظموا مظاهرة ضخمة تضم كل العاملين في المسرح، من ممثلين وممثلات ومخرجين وفنيين وغيرهم.

وتحكي السيدة فاطمة اليوسف (روزاليوسف) في مذاكراتها تفاصيل ذلك اليوم -وكانت تعمل حينها ممثلة ناشئة في فرقة عزيز عيد- حيث تقول إن المظاهرات في تلك الفترة كانت تشهد حالات عنف وقتل وإصابات عديدة، وبالرغم من ذلك خرجت كل الفرق المسرحية في الساعة المتفق عليها، كل فرقة من المسرح الذي تعمل فيه وقد حملت علما كبيرا، وسارت كل التجمعات حتى التقت في قلب ميدان الأوبرا أمام فندق الكونتنينتال.

ومن الذين شاركوا في تلك المظاهرة الفنان نجيب الريحاني وجورج أبيض وعبدالرحمن رشدي وعزيز عيد وزكي طليمات ومحمد عبدالقدوس ومحمد تيمور، وغيرهم كثيرين من العاملين في المسرح، حيث قرر المشاركون ارتداء أزياء تاريخية للتعبير عن تمسكهم بوطنيتهم، فكان بعضهم يرتدي زيا عربيا وآخرون يرتدون أزياء فرعونية وغيرها من الأزياء التاريخية التي كان يرى كل واحد فيهم أنها تعبر عن وطنيته.

أما عن النساء، فلم يشارك من الفنانات في هذه المظاهرة -بحسب فاطمة اليوسف- إلا ممثلتين، فاطمة اليوسف نفسها والممثلة ماري إبراهيم، حيث استقلتا عربة حنطور كانت تتقدم المظاهرة، وكان معهما في العربة ذاتها عبدالحليم الغمراوي المحرر بالأهرام والذي كان يعمل مديرا لمسرح برنتانيا -مكانه حاليا في شارع 26 يوليو بالقرب من تقاطع شارع عماد الدين.

المظاهرة الكرنفالية بهذه الأزياء، كانت كفيلة بجذب الكثير من المصريين الذين تجمعوا للمشاركة فيها، حيث سارت المظاهرة تقطع ميدان الأوبرا لتختلط بجنازات الشهداء وصيحات الجماهير، في مشهد استثنائي ربما لم تشهد الثورة مثيل له.

وتقول فاطمة اليوسف إنه عندما وصلت المظاهرة إلى تمثال إبراهيم باشا، رأت جنديين إنجليزيين مقتولين وقد نزف منهما دم غزير، وعندما اتجهت المظاهرة إلى شارع عدلي، تصدى لها جنديان إنجليزيان آخران ولوحا بالبنادق، إلا أن المظاهرة مضت في طريقها ولم تتوقف، وعندما حاول أحد الجنديين إطلاق النيران صوب المتظاهرين، انطلقت رصاصة من بندقية كانت بحوزة أحد الثوار المصريين كان يختبئ في شارع جانبي صغير متفرع من شارع عدلي، فسقط الجندي قتيلا في الحال، وعند هذه النقطة، رأى من يقودون المظاهرة ضرورة العودة خوفا من تفاقم الأمور وتحول الوضع إلى مجزرة، فأسرع المشاركون بالتوجه إلى مسرح برنتانيا.

اللافت في كلمات فاطمة اليوسف، هو تأكيدها أن ثورة 1919 كانت بداية اهتمامها بالسياسة شأنها شأن كثيرين غيرها، وقد تعلقت بشخصية سعد زغلول وبصوته الهادر وهو يخطب في الجماهير.