تحفل الصين بالعديد من الآثار الهامة التي تسجل حقب مختلفة في تاريخها الطويل، والتي نسجت حولها الكثير من القصص والحكايات والأساطير، وجعلتها واحدة من أكثر بلدان العالم المثيرة لاهتمام الباحثين والأثريين الذين يعتقدون أن هناك الكثير من أسرارها لم يكتشف بعد.
وكان انغلاق الصين لسنوات طويلة عن العالم وحالة الغموض التي فرضتها على نفسها لأزمان عديدة، سببا للتضارب حول تاريخها وآثارها، بل وصل الأمر إلى افتراض وجود آثار أسطورية لم يقدم أحد دليلا ماديا واحدا على وجودها حتى الآن، ومن أشهر هذه الآثار المفترضة “الهرم الأبيض العظيم”، الذي لايزال بعض الباحثين يعتقدون وجوده حتى الآن، زاعمين أن الصين تخفيه عن العالم سبب غامض!
المشاهدة الأولى
قصة هذا الهرم الأسطوري بدأت قبل ما يزيد على قرن من الآن، وبالتحديد عام 1912، عندما كان التاجر ووكيل مكتب السفريات الأمريكي “فريد ماير سكرودر” يقوم بجولة في مدينة شيان بمقاطعة شانشي الصينية، بصحبة راهب بوذي.
وشيان هي مدينة صينية وواحدة من العواصم السبع القديمة للصين، ويقطنها حاليا قرابة 12 مليون نسمة.
ويقول سكرودر في مذكراته، أنه صادف أثناء جولته هرما أبيض عملاقا محاطا بمجموعة أصغر من الأهرامات، مضيفا أنه كان أحد أغرب الأشياء التي شاهدها في حياته، حيث كان العالم يجهل وجود هذه الأهرامات بالصين خاصة ذاك الهرم الأبيض العملاق، والذي قدر سكرودر ارتفاعه بـ1000 قدم وطول قاعدته بـ1600 قدم، وهو ما يعني أن حجمه من وجهة نظر سكرودر كان أضعاف حجم الهرم الأكبر بالجيزة.
اللافت أن المرشد البوذي الذي صحب سكرودر في جولته أخبره أن ذاك الهرم الأبيض يعود تاريخه إلى 3 آلاف عام مضت، وأن المعلومات عنه كانت مسجلة في وثائق الرهبان القديمة وكانت منتشرة في الأساطير المحلية بين السكان.
المشاهدة الثانية
المعلومات التي ذكرها سكرودر في مذكراته لم تلق انتشارا كافيا في ذلك الوقت لتدفع الباحثين لاستكشاف حقيقة هذا الهرم، إلى أن جاء عام 1945، حيث كانت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها.
ففي أحد الأيام أرسل طيار أمريكي يدعى “جيمس جوسمان” تقريرا إلى قادته قال فيه، إنه أثناء قيامه بجولة جوية بين الحدود الصينية والهندية، شاهد هرما هائلا أبيض اللون في واد مسطح، وصفه بأنه يبدو وكأنه شيء من قصة خيالية، وتابع بقوله “لقد كان أبيض نقيا من جميع الجهات، كان الشيء الرائع بحق هو حجر الزاوية (أعلى القمة) قطعة ضخمة من مادة تشبه الجواهر يمكن أن تكون بلورية، لم يكن هناك طريق يمكننا الهبوط عليه، لقد أذهلنا من ضخامته”.
ولأن جوسمان تفاجأ بهذا الهرم، فلم يتمكن من فعل أي شيء سوى التقاط صورة فوتوغرافية سريعة له من الطائرة، أرفقها لاحقا بتقريره الذي قدمه قادته إلى السلطات الأمريكية، حيث بدأ الحديث عن هذا الهرم الغامض ينتشر ويثير شهية الباحثين.
المشاهدة الثالثة
بعدها بعامين، وبالتحديد في 1947 قام العقيد في سلاح الجو الأمريكي “كوريس شيهان” برحلة موجهة بهدف جمع معلومات أكثر عن هذه الأهرامات التي لم يكن أحد من خارج الصين يعرف عنها شيئا.
وأثناء تحليق الطيار الأمريكي فوق مدينة شيان، رأى هرما عملاقا أبيض اللون، ونشرت تفاصيل هذه المشاهدة في عدد يوم 28 مارس من العام ذاته بصحيفة نيويورك تايمز تحت عنوان “تقارير أولية عن هرم صيني ضخم في جبال معزولة جنوب غرب شيان”.
القياسات التي قدرها الطيار الأمريكي لحجم الهرم كانت قريبة من القياسات التي قدرها سكرودر عام 1912، حيث قال إن ارتفاعه كان يبلغ 1000 أقدم وطول قاعدته قرابة 1500 قدم، وصرح للصحيفة بقوله “بدا الأمر وكأنه شيء من قصة خرافية، كان مغلفا باللون الأبيض المتلألئ، ظننته معدنا في البداية، لقد كان أبيض نقي من جميع الجوانب، أما الشيء المذهل بحق فهو الحجر الذي وضع على قمة الهرم، كان أشبه بقطعة ضخمة من الجواهر، أعتقد أنها قد تككون بلورة”.
تقرير نيويورك تايمز أحدث ضجة في الأوساط الأثرية وانتشر بشكل لافت، وبعد يومين قامت الصحيفة بنشر صورة للهرم المفترض ونسبتها إلى جوسمان، ولكن الصورة كانت مخيبة للآمال إلى حد كبير.
فلم يكن لون الهرم أبيض بالشكل الذي وصفه من شاهدوه، كما أنه لم يكن هناك أي أحجار بلورية على قمته، أضف إلى أن ارتفاع الهرم الذي ظهر في الصورة لم يكن يبلغ أبدا 1000 قدم كما زعم من شاهدوه، وهو ما أثار الشكوك حول صحة التقارير التي نشرتها الصحيفة ودفع البعض للقول بأنها بالغت كثيرا في وصف ذاك الهرم.
تل “ماولينج”
وبالرغم من إصرار علماء الآثار الصينيين في ذلك الوقت على وجود أي هرم من هذا القبيل ببلادهم، فإن بعض الخبراء قالوا إن المبنى الذي ظهر في صورة نيويورك تايمز ما هو إلا تل الدفن المعروف باسم “ماولينج”، وهو قبر الإمبراطور “وو هان” (156-87 ق.م) الذي يقع بمقاطعة شنشي ويبعد حوالي 25 ميلا إلى الشمال الغربي من عاصمة مقاطعة شيان.
“وو هان” هو الحاكم الخامس لأسرة هان الغربية، ويعد تل “ماولينج” أكبر خمسة تلال دفن في تلك المدينة، وقد استغرق بناء هذا التل أو الهرم 53 عاما، حيث بدء في بنائيه بعد عامين من بداية حكم وو.
وبالرغم من الوصول لهذه النتيجة، إلا أن كثيرين رفضوا الإقرار بأن الهرم الأبيض المزعوم ما هو إلا تل “ماولينج”، وقالوا في حججهم إن من شاهدوا الهرم الأبيض قالوا إنه يقع بالقرب من جبال تشين لينج بينما يقع تل “ماولينج” في سهل معزول ومسطح، كما أن “ماولينج” يقع إلى الشمال الغربي من شيان، بينما كل من جوسمان وشيهان اللذين شاهدا الهرم من الطائرة قالوا إنه يقع إلى الجنوب الغربي، حيث وصف شيهان الهرم الأيبض بأن له “شكل هرمي مثالي” بينما “ماولينج” ذو قمة مسطحة ومفلطح ما يجعله مختلف الأوصاف بشكل كبير عما يمكن أن يكون قد شاهده الطيار الأمريكي.
وأصر هؤلاء الباحثون على أن الصورة التي نشرت لا تمت للهرم الأبيض الحقيقي بصلة، وأن الهرم لايزال يختبئ في مكان ما منتظرا من يبحث عنه ويكتشفه ويظهره إلى العالم!
مغامرة وكتاب
وهكذا ظلت مسألة الأهرامات الصينية مسألة غامضة يصدقها البعض وينكرها آخرون، إلى أن قام وكيل سفر ألماني يدعى “هارتفيج هاوسدورف” بمغامرة في تسعينات القرن الماضي لاستشكاف الهرم الأبيض، قبل أن يقوم بنشر تفاصيل مغامرته في كتاب اسماه “الهرم الأبيض” عام 1994.
في هذا الكتاب تحدث هاوسدورف عن رحلته وكشف كيف تمكن من تضليل السلطات الصينية بحسب قوله والهرب منهم حيث حاولوا منعه من إجراء رحلته الاسكتشافية، وتمكن هاوسدورف بالفعل من تصوير أهرامات صغيرة شبيهة بالتلال أثبت وجودها لأول مرة وبشكل قاطع في الصين، وقال إنه إذا نظرت إلى هذه الأهرامات من مستوى الأرض ستظهر لك أشبه بالتلال مما يجعل من الصعب على الناس تخيل أنها كانت أهرامات.
إلا أنه لم يتوصل إلى الغرض الأساسي من رحلته، وهو العثور على الهرم الأبيض العملاق.
الصين تعترف
في عام 2000 وبعدما بات من الصعب على الصين إنكار وجود هذه الأهرامات لديها، اعترف مسؤولون صينيون بوجود 400 هرم في إقليم شانشي، قائلة إنها أهرامات صغيرة بنيت بغرض الدفن، نافية في الوقت ذاته وجود ما يسمى بـ”الهرم الأبيض العظيم”.
وقالت السلطات حينها إن غالبية هذه الأهرامات الصغيرة في حالة سيئة للغاية والعديد منها مليئ بالشقوق ومعرض للانهيار والاختفاء في أي وقت، وبالرغم من هذا الاعتراف، إلا أن الصور المتاحة عن هذه الأهرامات قليلة للغاية وشحيحة ولا يمكن العثور عليها بسهولة ما يوحي بأن الصين لازالت تفرضا طوقا من السرية حول هذه الأهرامات.
ويقول أحد العلماء ويدعى “جراهام هانكوك” أن مواضع الأهرامات الـ400 التي اعترفت الصين بوجودها تشبه في تكوينها شكل كوكبة الجوزءا قبل 10 آلاف عام، فيما يصر بعض العلماء على أن هذه الأهرامات كان لها أغراض أخرى غير الدفن واستعمالها كمقابر.
وترجح العديد من النظريات أن الكثير من هذه الأهرامات بنيت خلال عهد الإمبراطور تشين شيهوانج في الفترة من 259-210 قبل الميلاد -صاحب جيش الطين الشهير- بهدف إبقاء حاشيته بالقرب منه حتى وهو في سباته الأخير، حيث أن أكبر هذه الأهرامات الصغيرة هو الهرم الذي خصص لدفن الإمبراطور.
وحتى الآن لايزال بعض الباحثين يؤمنون بوجود ما يسمى بـ”الهرم الأبيض”، معتقدين أن الصين تصر على إخفائه عن العالم لسبب مجهول، ربما سبب عقائدي أو لسبب آخر قد نكتشفه مستقبلا، مرجحين أن يكون الهرم موجود بين تضاريس جبال تشين لينج الوعرة وهو ما يصعب مسألة العثور عليه، وبالرغم من إصرار هؤلاء الباحثين على وجود هذا الهرم، فإن أحدا حتى الآن لم يستطع الوصول إليه وتقديم دليل مادي دامغ على وجوده.