تخيل كثير من الباحثين أن النفاق له حدود، وأنه من غير المعقول أن يمدح الأدباء المصريون مستعمر، بل ويتغنى بالقادة المحتلين، مهما كانت عظمتهم وقوتهم.
إلا أن هذا التخيل محض وهم، خصوصاً في حالة الشاعر نقولا الترك ونابليون بونابرت أثناء الحملة الفرنسية على مصر (1798 – 1801).
فالأول هو أديب من أصل يوناني لبناني هاجر إلى مصر واستقر في مدينة دمياط وعمل أثناء الحملة كاتباً ومترجماً مع الفرنسيين، وانتهى به الحال مطرودا من أرض مصر. والثاني هو قائد الحملة الفرنسية التي فشلت في الاستمرار لأكثر من 3 أعوام.
القصيدة التي مدح بها الترك، القائد الفرنسي بونابرت تتألف من 30 بيتاً، ذكر بعض أبياتها الدكتور إبراهيم عبده في كتابه “تاريخ الصحافة والطباعة خلال الحملة الفرنسية”.
المدهش أن القصيدة المنظومة في مدح نابليون نشرت في صحيفة كانت تصدرها فرنسا أثناء الحملة في مصر واسمها (le décade égyptien) وترجمتها بالعربية “العقد المصري”.
يقول الناقد الراحل رجاء النقاش أن قصيدة الترك كانت في منتهى السخف والركاكة، فهي من عيون الشعر الرديء، وكان ذلك طبيعياً، مضيفا في كتابه “عباقرة ومجانين” الصادر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر أن “الشعر العربي عموماً في فترة الحملة الفرنسية كان قد وصل إلى أقصى درجات الانحطاط الأدبي والفكري، وكان صوت الشعر في هذا العصر خافتاً لا يكاد أحد يسمعه أو يتأثر به”.
ويقول الترك في قصيدته:
لله عصر قدرها.. فلك السعادة فيها دار
وجمال كوكب دولة.. الجيش الفرنسي أنار
يا حسنها من دولة.. بالافتخار لها اشتهار
مقدامه ذو سطوة.. تهدى لملوك له وقار
الشهم بونابرت.. أسد الوغى ذو اقتدار
من فاق قدراً وارتقى.. أوج العلا وسما الفخار
مولى شديد البطش.. من عاداه حل به الدمار
في القصيدة أيضاً شماتة غريبة من هزيمة المصريين أمام الجيش الفرنسي، خصوصاً أثناء الفشل في صد بداية الحملة، فيقول:
يوم يقال بحقه.. لله درك من نهار
وتبددت تلك الجماهير.. العديدة في القفار
ورأوا المنية فوقهم.. قد أمطرت جمرات نار
وتشتت أمراؤها.. وغدت بذل واحتقار
وفتوح مصر كان في.. صفر وأمر الله صار
وبيوم سبت فيه قد.. أرخت تم الانتصار
واحتفى الجيش الفرنسي بهذه القصيدة وأفردوا لها مساحة واسعة في مجلتهم المذكورة سابقاً، وتحديداً في عددها الثاني الصادر سنة 1800، وكانت بترجمة ج. ج. مارسيل، كما يقول الدكتور صلاح البستاني في كتابه “صحف بونابرت في مصر”.
وقالت المجلة أن الشاعر يعيش في مصر، لكنه مولود في بيروت، وأفردت اسمه بالكامل، وهو “نقولا الترك بن يوسف الاسطنبولي” الذي خرج من مصر مع الحملة الفرنسية، وعاد إلى لبنان وتوفي بها في سنة 1828، وهو في الـ65 من العمر، ويقال إنه أصيب بالعمى في أواخر حياته، وكان يملي الشعر على ابنته “وردة”، وله كتاب معروف عن الحملة اسمه “ذكر تملك الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية”.