الخيانة هي أقبح الصفات التي قد يتحلى بها الإنسان، وفي الجاهلية وقبل بزوغ شمس الإسلام، كانت القبائل العربية يستنكرون الخونة ويبغضونهم بشدة، بل يصل الأمر لرجم قبورهم بالحجارة، كما فُعِل مع “أبى رغال” الذي يعد أشهر خائن في التاريخ العربي.
لكى نتعرف على “أبي رغال” لابد أن نلقي الضوء على حادثة عام الفيل الشهيرة المذكورة في القرآن عندما جاء أبرهة الحبشي لهدم الكعبة عام 571م، فبعد أن تمكن الإثيوبيون من هزيمة آخر ملوك الدولة الحميرية “شميفع أشوع”، سيطروا على صنعاء واتخذوها عاصمة لليمن، وقام “أبرهة بن الصباح الحبشي” ببناء بيتا من الذهب أسماه “القليس” – سمي بذلك لارتفاعه – لكي يتخذه العرب مكانا للحج بدلا من الكعبة.
وعندما وجد أبرهة أن الناس يرفضون الحج إلى “القليس” ويتجاهلونها ويصرون على الحج إلى بيت الله الحرام في مكة، قرر أن يتوجه إلى الكعبة بنفسه ويقوم بهدمها، ولأن أبرهة لم يكن يعرف طرق الحجاز الوعرة، كان عليه أن يبحث عن دليل يرشده في طريقه إلى مكة، وكان هذا الدليل هو “أبو رغال” من قبيلة ثقيف بالطائف.
دليل أبرهة للكعبة
جاء في تفسير القرطبي (ج 20 – ص187 ) عن وصف تلك الواقعة “أن أبرهة قام ببناء هيكلا على ساحل البحر أسماه القليس بصنعاء، وأن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي، فنزلوا على ساحل البحر قرب الهيكل، فأوقدوا نارا لطعامهم وتركوها وارتحلوا، فهبت ريح عاصفة على النار، وأضرمت البيعة نارا فأحترقت، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره فأستشاط غضبا، فأتاه أبرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل، وأبو يكسوم الكنديون، وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة، وكان النجاشي هو الملك، وأبرهة صاحب الجيش، وأبو يكسوم نديم الملك، وحجر بن شرحبيل من قواده، فساروا ومعهم الفيل”.
ويذكر “الطبري” في تاريخه، أنه مع تقدم جيش “أبرهة” واجه قبيلة تدعى “ذو نفر” ودخل معهما في معركة شرسة بعدما قررا الدفاع عن البيت الحرام ومنع أبرهة من التقدم، إلا أن الفوز كان من نصيب أبرهة الذي واصل التقدم حتى بلغ بلاد “خثعم”، فخرجت له القبائل بقيادة “نفيل بن حبيب الأكلبي الخثعمي” فهزمهم وأسر قائدهم، حتى وصل إلى الطائف، فخرج إليه “مسعود بن معتب بن مالك” من رجال ثقيف، فقال له كما ورد بكتب التاريخ: “أيها الملك، إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد -يقصدون اللات- إنما تريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم، فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة”.
وتقدم “أبرهة” خلف دليله نحو بيت الله، فلما وصل مع أبرهة إلى مكان يسمى “المغمس” قُرب عرفة ومزدلفة ومنى، مات “أبو رغال” ودفن هناك ويقال أنه أصيب بمرض عضال أهلكه فلم يكمل مسيرته، لكن ظل قبره يرجم من قبل العرب بعد فريضة الحج، حتى بعد ظهور الإسلام بفترة.
“أبو رغال” رمز الخيانة
ذكر أسم “أبو رغال” فى قصيدة هجائية للشاعر العربي “جرير” حين أراد أن يهجو الشاعر العربي “الفرزدق” فكتب.. (إذا مات الفرزدق فارجموه .. كما ترجمون قبر أبي رغال).
لكن يذكر أن هناك حديثا نبويا قد يعتقد أنه لشخص آخر يدعى “أبو رغال” أيضا وكان له قبر يرجم، ففي كتاب تفسير الطبري ( باب 73 ـ جزء 12):” قال عبد الرزاق، قال معمر، وأخبرني إسماعيل بن أمية، أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبر أبي رِغال، فقال: أتدرون ما هذا؟، قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: هذا قبر أبي رِغال؟ قالوا فمن أبو رِغال؟ قال: رجل من ثمود، كان في حرم الله، فمنعه حرم الله عذابَ الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب! فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عليه، فاستخرجوا الغصن”.
كما ان “ابن كثير” ذكره في كتابه “البداية والنهاية” قائلا: “والجمع بين هذا وبين ما ذكره ابن اسحاق أن أبا رغال هذا المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى ورجم الناس قبره كما رجموا قبر الأول أيضا والله أعلم”.
وبرغم اختلاف الأقاويل وتضاربها عن وجود شخصان يحملان نفس الاسم “أبى رغال” في كتب التاريخ العربي، إلا أن الروايات تدل على ارتباط هذا الاسم بصفة الخيانة والكراهية، فأصبح لقب “أبو رغال” يُنعت به كل خائن، حتى وقتنا هذا.