مازالت الرمال تغطى كنوزا من حضارات مضت، نكتشفها بمرور الأيام، ومن بين هذه الكنوز ما تخفيه صحراء المملكة العربية السعودية التي يقبع أسفلها مدينة عذبها الله لمخالفتها تعاليمه، إنهم قوم ثمود الذين أرسل الله لهم نبيه “صالح عليه السلام” لدعوتهم، إلا أنهم استكبروا، فأخذتهم الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين، لتصبح الآن “مدائن صالح” منطقة أثرية عتيقة شاهدة على عصور ما قبل الإسلام.
وبعدما وافقت لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو (WHC) عام 2008 على انضمام “مدائن صالح” إلى قائمة التراث العالمي، أصبحت أول موقع أثري في المملكة العربية السعودية يتم تسجيله من قبل اليونسكو.
فتاوى حرمة الزيارة
لكن رافق هذا التسجيل، العديد من الفتاوى السعودية التى حرمت ونهت العيش في “مدائن صالح” أو التواجد فيها، بالإضافة إلى الأماكن التي وقع على أهلها العذاب، مستندين إلى حديث “النبى صلى الله عليه وسلم”، الذى جاء فيه أن “الرسول عليه الصلاة والسلام” عندما مر بتلك المنطقة قال: “لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم فيصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي”.
وكانت هيئة كبار العلماء السعودية في عهد الملك “فيصل بن عبدالعزيز”، قد رأت أيضا منع الإحياء والسكن في سهول مدائن صالح وكذلك الآبار الثمودية، ومجرى الوادي، وماعدا ذلك، مما كان خارجا عنه وداخلا في محيط سلسلة الجبال القائمة، قررت الهيئة بالأكثرية جواز إحيائه والسكن فيه.
** اقرأ أيضا: “الصخرة المشطورة”.. لغز أثري مازال يحير السعوديين
لكن بعد أعوام طويلة من الامتناع عن زيارة “مدائن صالح” في السعودية، دعا الأمير “سلطان بن سلمان” رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار لزيارة المنطقة عام 2012، وقام حينها الشيخ “عبدالله المنيع” والشيخ “عبدالله المطلق” عضوا هيئة كبار العلماء والمستشاران بالديوان الملكي بتفقد أعمال التأهيل التي تنفذها الهيئة العامة للسياحة والآثار في عدد من المواقع الأثرية والتراثية في محافظة العُلا لتصبح واجهة سياحية مشرفة.
“مدائن صالح” تستعد للعالمية
فيما بعد، تأسست الهيئة الملكية لمحافظة العلا عام 2017، لتهدف إلى تطوير المحافظة على نحو يتناسب مع قيمتها التاريخية ومواقعها الأثرية وتعزيز الاقتصاد السياحي وتحقيق الأهداف التى قامت عليها رؤية السعودية 2030.
ومؤخراً تم إقامة مهرجان “شتاء طنطورة” في محافظة العلا، التي تضم مدائن صالح الأثرية، الأمر الذي فجر من جديد، موجة جدل واسعة بين محللي زيارتها ومحرميها، لكن ذلك لم يمنع إقامة المهرجان ووفود العديد من الشخصيات الفنية والسياسية العالمية والمحلية لمشاهدة آثار محافظة العلا، وبالأخص “مدائن صالح”.
اقرأ أيضا: قبر “أبو رغال”.. دليل أبرهة الذي اعتبر أشهر خائن في تاريخ العرب
كما قام الموقع الرسمي لمشاريع السعودية عام 2017، بالإعلان عن إقامة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لفندق السراب – Mirage Hotel، وهومبنى فندقي يحاكي نمط الحياة في العصور النبطية ويتسم بشكل السراب عند النظر إليه عن بعد، ويتكون من 25 فيلا فاخرة و75 شقة فندقية مطلين على جبل إثلب ومبنيين من حجر السيليكا، وقدمت شركة Wendell Burnette Architects تصميم المشروع فى صور خلابة مستوحاة من تصميم المنطقة الصخرى، لكن قررت الهيئة الملكية لمحافظة العلا عام 2018، إغلاق مدائن صالح والخريبة وجبل عكمة مؤقتاً لإتاحة الفرصة للخبراء لإجراء سلسلة من الأبحاث المهمة لحماية المنطقة والحفاظ عليها وإعادة افتتاحها عام 2020.
“مدائن صالح”..تاريخ عتيق
تقع “مدائن صالح” على بعد 22 كيلومتراً شمال شرق بلدة “العلا” التابعة لمحافظة المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية، وكان يطلق عليها “الحِجر” فى العصور القديمة، واحتلت موقعًا استراتيجيًا على طريق التجارة القديم الذي يربط جنوب الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام ومصر.
ولتمتع “مدائن صالح” بهذا الموقع الاستراتيجي الهام، جعلها مدينة تجارية واقتصادية مهمة في الدولة النبطية – وهى مملكة عربية قديمة قامت في صحراء النقب وسيناء والأردن وأجزاء من شمال شبه الجزيرة العربية منذ عامى (169 ق.م – 106 م) وكانت عاصمتها مدينة البتراء في الأردن- لذلك أصبحت ” الحجِر” عاصمتهم الثانية.
** اقرأ أيضا: هل رسم الفراعنة نبي الله إبراهيم عند زيارته إلى مصر؟
وتعتبر “مدائن صالح” موقعا أثريا لعصر ما قبل الإسلام في المملكة العربية السعودية، ووفقا لعلماء الآثار، فهناك ممالك عدة بعد الثموديين توالت على هذه المنطقة كمملكة ديدان ومملكة لحيان، ثم غزا الأنباط الدولة وأخضعوها، واستخدموا الهيكل الحجري لبناء المنازل والمعابد والمقابر، فالنقوش الموجودة توضح أن الأنباط هم البناة الحقيقيون للموقع، مما مكن العلماء من تحديد عصر المملكة، لتوضح بأن “مدائن صالح” اى قوم ثمود، ظهرا في بداية القرن الأول قبل الميلاد، وتلاشوا في منتصف القرن الثاني الميلادي.
وبعد أن ضُمت الإمبراطورية النبطية من قبل الرومان، وتفوقت طرق البحر الأحمر على مسارات التجارة البرية، لم تعد المدن النبطية كالحجر مراكز تجارية هامة، وهكذا بدأ تراجعها وهجرها النهائي.
وجهات صخرية مزخرفة
وتعد “مدائن صالح” واحدة من أكثر المواقع الأثرية المبهمة في شبه الجزيرة العربية، فيوجد بها العديد من الصخور الكبيرة التي ترتفع فجأة مزينة بنقوش وزخارف، إلا أن معظم تلك الهياكل التي يمكن رؤيتها اليوم بنيت لأغراض جنائزية فقط، ويقدر عددها بـ131 مقبرة صخرية منحوتة في القرن الأول الميلادي، لكن 86 منها فقط تأتي بواجهة ضخمة، ورغم أن القليل منها معزولا، إلا أن المتبقي نُحت في مجموعات حول محيط الصخور الكبيرة المنتشرة حول الموقع.
وتُقسم المقابر الصخرية فى “مدائن صالح” إلى 7 مناطق هم (مدافن جبل المحجر، قصر البنت، مدافن الجبل الأحمر، مدافن الخريمات، قصر الصانع، قصر الفريد، مدافن المنطقة السكنية)، بالإضافة إلى ” جبل أثلب”، ويعتقد أنه كان ملاذاً دينياً لعبادة الإله النبطي “دوشارا “رب الجبال، وهناك أكثر من 100 بئر نبطي قديم منتشر في جميع أنحاء الموقع، كذلك محطة سكة حديد الحجاز التى بنيت فى أواخر العهد العثمانى لكن تم تدميرها عام 1918م علي يد لورانس العرب خلال الحرب العالمية الأولي لإضعاف الدولة العثمانية، ولم يتم إصلاحها أبدا وتبقت مساراتها ومحطاتها في مدائن صالح، لتعد واحدة من مناطق الجذب السياحي حيث تحولت المحطة الآن إلى متحف يعرض سيارات القاطرة القديمة.
وللوهلة الأولى، قد تبدو لك مقابر “مدائن صالح” تتشابه مع بعضها ولكن عند إلقاء نظرة فاحصة، يصبح التنوع في الأنماط والأحجام ملحوظًا، فأصغر واجهة منحوتة هي المقبرة رقم 3 (مجموعة جبل المحجر) بقياس أقل من 3×2 متر، في حين أن الواجهة الأكبر هي مقبرة قصر الفريد وقياسها تقريبًا 22 × 14 متر.
** اقرأ أيضا: “عين الكعبة”.. موضع احتضن الحجر الأسود 22 عاما بعد سرقته من مكة
وقام الباحث “جان كلود بيساك” بحساب المدة المستغرقة لتنفيذ مقبرة متوسطة الحجم بسنة وشهرين، فنقش الواجهة يستغرق 7 أشهر، أما حجرة المدفن فتستغرق ما بين أربعة إلى خمسة أشهر، لعدم أحتوائها على تفاصيل كثيرة كالواجهة بل مجرد حفر للدفن بمقدار حجم الكفن المدفون.
أما النقوش على الواجهات الحجرية، فيقول الأثريين أن معظمها كتب باللغة الآرامية، وهي لغة سامية قديمة كما أنها كانت لغة الشرق الأوسط المشتركة في ذلك الوقت، وتتضمن النقوش معلومات عن ملكية المقبرة وما تحتويه من شروط للدفن فيها من قبل أصحابها وورثتهم، وتحديد العقوبة التي تقع على من يخالف قانون الدفن، وبعض النقوش مؤرخة كما أنها تحتوي على اسم النحات.
كما اكتشف الباحثون هياكل عظمية وجثامين ملفوفة بجلود طبيعية كانت قد حفظت داخل غرف في صخور يزيد عمرها على أكثر من 3 آلاف عام، لكن كل هذه قراءات لمعلومات تاريخية لن تذهلك إلا إذا شاهدتها بالفعل، فلا تترك الفرصة إذا سُمحت لك، لتشاهد حضارة لقوم أتخذوا من الجبال مقابر.