حينما تقع قدمي على الرصيف المجاور له، أستمر في المشي ناظرًة إلى الخازندارة، لا أشغل بالا بمطالع ومنازل الرصيف، تتملكني حالة ما أشبه بفراشة تنتظر سربها كي تطير مع قريناتها. وإن كانت كل المساجد لله فقليلًا ما يغمرك ذلك الإحساس عند زيارة واحد منها!
ربما سيذهب بك الفكر سيدي القاريء إلى أن تاريخ جامع الخازندارة يرجع إلي العصر المملوكي أو العثماني، ولكن ربما ليطيب خاطرك إذا علمت أنه لم يمض على تأسيسه المائة عام! فترتيب ودقة صانعيه كانت وراء تسجيله كأثر.
افتتح جامع الخازندارة بالتحديد يوم الجمعة الموافق الثامن من شعبان عام 1345 هـ -11 من فبراير 1927 م. من قبله أوقفت خديجة هانم بنت محمد راغب أغا معتوق الخديوي عباس الأول مدرسة الخازندارة، لتكون أول مقر لكلية أصول الدين التابعة للأزهر، وذلك في 1333 هـ – 1912 م، ثم افتتحت رسميًا من قبل الملك فؤاد في الثاني عشر من ذي الحجة 1351 هـ – 28 مارس 1933م.
وكثيرًا ما قرأت من عدة مصادر صحفية إطلاقهم على الجامع اسم “الخازندار” بدلا من الخازندارة، لكن هذا الإطلاق نجده خاطيء؛ فالاسم محفور على جدار المدرسة -المبني الملحق بالجامع- ربما ألتبس الأمر علي البعض فالسيدة خديجة تنسب إلى الخازندارية ومفردها الخازندار!
أما عن معني “الخازندارة” فقد ورد في صبح الأعشي في صناعة الإنشا للقلقشندي أن “موضوعها التحدث في خزائن الأموال السلطانية من نقد وقماش وغير ذلك…”، ولا أعلم حقا ما الصلة بين خزائن الأموال السلطانية والجامع!
أما عن منية السيرج فأصلها قرية وكيف اتصلت بما يعرف بشبرا حاليا؟! فقد ُأتي على ذكرها بكتاب “القاهرة” للأستاذ شحاته ابراهيم عيسي حيث قال “وقد ظهرت هذه الجزيرة في النيل في أواخر الدولة الفاطمية، وعرفت بجزيرة الفيل. وإنما سميت كذلك لأن مركب يشبه بالفيل غرق في النيل، وترك مكانه، فتراكمت عليه الرمال والأعشاب، وظلت تتكاثر إلى أن أصبحت جزيرة، يحيط بها الماء من كل الجهات، فُزرعت أيام صلاح الدين الأيوبي وطرح البحر بجوارها 680 هـ (1281-1282م)، فاتصلت بأرض بولاق وأرض الطبالة وأرض البعل وأرض منية السرج، وفي أيام المنصور قلاوون أنشأ الأمراء والأعيان بجزيرة الفيل الدور والقصور والبساتين، حتي صارت بلدا كبيرا…”.
ولنكمل الحكاية مع السيد فاروق عبد القادر- فقد كان أحد أعمامه آخر عمدة لقرية منية السيرج فقد ُذكر في كتاب” القاهرة شوارع وحكايات” للمؤلف حمدي أبو جليل أن منطقة شبرا حول منية السيرج كانت مزدحمة بالترع الصغيرة التي ترجع أصولها أو منبعها إلى ترعة رئيسية كانت تبدأ من المكان الذي يحتله مقر مبني الإذاعة والتليفزيون الآن.
بالإضافة إلى أن شبرا ومنية السيرج انضمت إداريا إلى القاهرة في خمسينات القرن الماضي، وبعدها تطاولت وكثرت فيها المباني على حساب الحقول الزراعية، بالتحديد في هذه الفترة الزمنية ظهرت بها الكثير من الأحياء العشوائية هي أحياء القصيرين والخمايسة والزاوية الحمرا، التي كانت جميعها عزب صغيرة تابعة لمنطقة شبرا تمتد حتى حي المظلات.
عودة إلى الجامع، فقد ُأرسلت له التيجان خصيصا من إيطاليا لنحت أعمدته الرخامية، وبني على الطراز المملوكي، ويقع من ورائه بأمتار قليلة قصر السيدة خديجة هانم الخازندارة -غير مسجل كأثر- قوامه تكاد تغلب عليه الأحجار.
للأسف قبل أسابيع قليلة ناقش وزير الأوقاف المصرية مع نائب المنطقة بجامع الخازاندارة مسألة إنشاء دار مناسبات ملحقة به، مما ينذر بالخطر الحال على هذا الأثر؛ فقد عبر محمد أبو العمايم رئيس سابق لقسم المشروعات بمركز الدراسات الأثرية وعضو سابق باللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية عن تخوفه من إقامة مثل هذه الدار لوجود ممارسات سابقة من نفس النوع أدت إلى تشويه أثار إسلامية من قبل.
فعلي سبيل المثال تخربت مباني ميضأة جامع الشافعي الأثرية بالقرافة، وهي من منشآت من عهد الخديوي توفيق، وكذلك تشوهت القبة الفداوية بالعباسية بإقامة دار مناسبات بالفضاء المحيط بها.
علي ذلك نستنج أنه في الحالتين كانت عملية التشويه نتيجة مباشرة لإقامة مثل هذه الدور. لا نكاد ننسي نص المادة (43) فقرة ثالثة من قانون رقم 91 لسنة 2018 بتعديل بعض أحكام قانون حماية الآثار الصادر بالقانون رقم 117 لسنة 1983حيث تقول “وتكون العقوبة السجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد علي سبع سنوات، وبغرامة لا تقل عن خمسمائة ألف جنيه ولا تزيد علي مليون جنيه لكل من قام بأي من الأفعال الآتية: 1- هدم أو أتلف عمدا أثرا منقولا أو ثابتا أو شوهه أو غير معالمه أو فصل جزءا منه عمدا…”.
فنحن لا ننفك نرى بأعيننا ضياع أثر يعتبر من أكبر آثار منطقة شبرا، فكلما دخلته تظل عيناي معلقتان بذاك الحجر لا تغمض ولا يتحرك البؤبؤ إلى شيئا عداه.