عبد العزيز باشا فهمي اسم بارز في الحياة السياسية المصرية خلال الثلث الأول من القرن العشرين، تدرج في عدد من الوظائف إلى أن وصل كوزير للعدل في حكومة أحمد زيور باشا وكذلك كرئيسا لحزب الأحرار الدستوريين، قال عنه طه حسين في يوم تأبينه: “كان عبد العزيز فهمي مثقفاً في اللغة والدين، عميق الثقافة، مؤمناً بهذا أشد الإيمان، مترف الذوق فيها إلى أقصى حدود الترف، وما أعرف أن أحداً ناقشني في الشعر الجاهلي كما ناقشني فيه عبد العزيز فهمي”، إلا انه خاض معركة أدبية عنيفة لاتهامه بمحاولة القضاء على اللغة العربية.

جاءت البداية عندما قدم عبد العزيز فهمي مقترحاً في مؤتمر بمجمع فؤاد الأول للغة العربية في 24 يناير 1944، ينص على اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم الكتابة العربية حيث قال خلال المؤتمر: “حال اللغة العربية حال غريبة، لأنها مع سريان التطور في مفاصلها إلى لهجات لا يعلم عددها إلا الله، ولم يدر بخلد أي سلطة في أي بلد من تلك البلاد المنفصلة سياسيًا أن تجعل من لهجة أهلها لغة قائمة بذاتها، لها نحوها وصرفها، وتكون هي المستعملة في الكلام الملفوظ وفي الكتابة معًا، تيسيرًا على الناس، كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والأسبان، بل بقى أهل اللغة العربية من أبشع خلق الله في الحياة. إن أهل اللغة العربية مستكرهون على أن تكون العربية الفصحى هي لغة الكتابة عند الجميع”.

تبريرات

كانت أسباب عبد العزيز فهمي لتقديم هذا المقترح هي أن اللغة العربية أصبحت كالحصان الأعرج والناقة المسنة، وأشار بأنه لا فائدة من استعمال الأسلاف لعلامات التشكيل، قائلاً: “إنها مجلبة لكثير من الأضرار، لذلك فكرت في هذا الموضوع منذ زمن طويل، فلم يهدني التفكير إلا إلى طريقة واحدة، وهي اتخاذ الحروف اللاتينية وما فيها من حروف الحركات بدل حروفنا العربية كما فعلت تركيا”.

ودعم عبد العزيز فهمي مقترحه، حيث نشر مقالاً في مجلة “المصور” بتاريخ 3 مارس 1944 تحت عنوان “الإسلام والحروف العربية” جاء فيها: “من الضروري تغيير الحرف العربي باللاتيني أسوة بالدول المتقدمة”، وزعم أن مشروعه التنويري الجديد لإصلاح الحروف العربية قد يحل مشكلة الاختلاط على القارئ، ويضمن له قراءة ما أمامه على صورة واحدة، بغير شتات أو لبس.

هجمات

وأثار هذا المقترح في ذلك الوقت ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية وعارضه كلا من العقاد وعبد الوهاب عزام وإسعاف النشاشيبي ومحمد كرد علي والسيد محب الدين الخطيب، وقد سجلت غالبية تلك المناقشات في كتاب “المساجلات والمعارك الأدبية فى مجال الفكر والتاريخ والحضارة” للكاتب أنور الجندي.

وعقب الشيخ أحمد محمد شاكر الملقب بـ”أبو الأشبال” حول هذا المقترح قائلا: “إنها محاولة قديمة من فئة معروفة كانت تدعو منذ عشرات قليلة من السنين إلى اتخاذ اللهجات العامية لغة رسمية للقراءة والكتابة والتعليم، وكان على رأسها مهندس إنجليزي كبير يدعي ولكوكس، وكاتب مصري مشهور وهو أحمد لطفى السيد، وكنا نظن أنها ماتت وانتهى أمرها، لكنها اختبأت في حصن منيع في رأس رجل عظيم، كما أن هذا المقترح قد يمزق وحدة الأمم العربية، ويحيل بينها وبين قديمها، فلا يعرفه ولا يصل إليه إلا الأفذاذ من علماء الأثريات كما هو الشأن الآن في اللغات القديمة، فيحال بين الأجيال القديمة وبين القرآن والحديث وعلوم العرب، فيندثر الإسلام من وجه الأرض”.

كذلك تصدى العقاد لتلك الدعوة في مقال نشره بمجلة “الرسالة” في 17 مارس 1944 كتب فيه: “خالفت رأي معاليه لأن اقتراحه يترك الصعوبة الأصلية قائمة، ويعني بالصعوبة المتفرعة عنها، وهي باقية ببقائها، فإن صح أن الكتابة بالحروف اللاتينية تضمن للقارئ أن يقرأ ما أمامه على صورة واحدة، فهي لا تمنع الكتاب المختلفين من كتابة الكلمة على صور مختلفة، كلها خطأ وخروج على القواعد اللغوية، ومن هنا يشيع التبلبل على الألسنة وفي الكتابة والطباعة، وننقل بذلك التبعة من القارئ إلى الكاتب، ولا نمنع الخطأ ولا نضمن الصحة، غير أن الطريقة اللاتينية تضطرنا إلى زيادة الحروف حتى ضعفها أو أكثر”.

محاولة مستميتة

ولم يتوقف الأمر عند المجادلات والمناقشات، بل طبع عبد العزيز فهمي كتابا بعنوان “الحروف اللاتينية لكتابة العربية” في العام 1944، مكونا من 183 صفحة، مقسما في فصلين: الأول يحوي ثلاثة أجزاء، تحكي ما جرى في المجمع اللغوي أثناء تقديم المقترح، ومجمل الاعتراضات الموجه إليه؛ وعددها 23 اعتراضا ورده عليها، ووضع المؤلف في هذا الفصل تحت نظر القارئ الطرق التي تم اقتراحها لتعديل رسم الحروف مع استبقاء الحروف العربية وعددها 11 نموذجا لتسيير الرسم العربي والتي رفضتها لجنة الأصول بالمجمع اللغوي. أما الفصل الثاني فهو عبارة عن النص الحرفي للمقترح الذي قدمه المؤلف لمؤتمر المجمع اللغوي.

وعلى رغم الهجوم الذي ناله في هذا الوقت، إلا أن عبد العزيز فهمي ظل مقتنعا برأيه ومتمسكا بحق فكرته في الاستمرارية، ولم يكن يعرف أنه بعد أقل من 80 سنة، نال مقترحه رواجاً في غرف الدردشة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يستخدم كثير من الشباب الآن الحروف الاتينية بدلاً من العربية.