كدت انتهي من الزحام في شارع ثروت عابرة إلى أعلى الكوبري باتجاه منطقة صفط اللبن، أرى تيمة وحيدة للمباني، تمر لحظات من الزمن علي عكس ما أرجوه في أن تمر لحظة واحدة، وسط هذا أجد مبنى كالقلعة التي تبدوا وكأنها تنتمي إلى القرن التاسع عشر!!! وأتساءل؛ أكان هناك خوف من الهجوم على مصر من هذه الناحية! ولكني علمت بعدها أنه ليس قلعة بل هو أقدم مصنع للبيرة في مصر!
فلنقص القصة من بدايتها مع وجدي الكومي في روايته “خنادق العذروات”:
“أنشيء مصنع البيرة في بين السرايات عام 1897، قبلها بأعوام كان رجل الأعمال اليوناني المسيو تيودور كوتسيكا أنشأ في طرة مصنع كحول ضخما، اختفى المصنع وبقيت المنطقة تحمل اسم صاحبه، وكان إنتاجه في أول الأمر لا يتجاوز350 ألف كيلو في العام، وتحول كوتسيكا إلى أكبر محتكر للسبرتو وأغنى أغنياء الجالية اليونانية آنذاك، وكان احتكاره للسبرتو سببًا في ازدهار صناعة الخمور، وكان مسيو بولانكي قد افتتح بالإسكندرية معمل تكرير الكونيالك والروم عام 1884، ثم لم يلبث كل من بولانكي ورجل الأعمال جناكليس أن احتكرا النبيذ والكروم، حيث كان جناكليس يمتلك شركتين هما (الكروم والكحول المصرية) و(الحدائق والكروم المصرية)، ودخل نشاط إنتاج البيرة البنك البلجيكي الذي أنشأ شركة بيرة كروان بالإسكندرية، وشركة بيرة الأهرام، وكان من أهم مصانع البيرة التي أنشئته شركة (بيرة كروان) هو ذاك الموجود في (بين السرايات) وتولته شركة بلجيكية مقرها في بروكسل ومركز إدارتها بالإسكندرية، وحمل المصنع في البداية (اسم معمل التاج)…”.
الملاحظ أن شركة بيرة الأهرام لم يكن ذلك اسمها منذ البداية، فكانت على نفس اسم الشركة في الإسكندرية، وبعدها بفترة قصيرة تغيرت إلى اسم شركة بيراميدز. وقد اندمجت الشركتان تحت اسم بيرة الأهرام في عام 1963 وذلك في إطار حركة تأميم الشركات الخاصة آنذاك. وأما الاسم الحالي “شركة الأهرام للمشروبات ABC” لم يظهر قبل عام 1985. وقد أبرمت بيراميدز اتفاقية مع مجموعة هاينكين الهولندية عام 1946 بهدف الحصول على مساعدة تقنية بشأن إنتاج البيرة.
مرت السنون وبعام 1996 ورد خبر في جريدة الأهرام تحت العنوان الرئيسي “رئيس الشركة القابضة للإسكان والسياحة والسينما يعلن بيع 75% من أسهم شركة الأهرام للمشروبات ABC لمجموعة استثمارية تضم مستثمرًا أمريكيًا بـ74 جنيها للسهم بدلا من67 جنيهًا” وعنوان ثان جانبي؛ “المشتري يتعهد بانتقال المصانع الخاصة بالشركة في القاهرة والإسكندرية إلى المناطق الصناعية المتاخمة وتسليم الأرض للشركة القابضة خلال 5 سنوات”.
الملاحظ أنه قبل تخصيص الحكومة لشركة الأهرام للمشروبات ABC بشهور قليلة بدأت نيابة الأموال العامة العليا بالتحقيق في بلاغ ضد رئيس وأعضاء مجلس إدارة الشركة لقيامهم بالموافقة على شراء عدد من الوحدات السكنية للعاملين بالشركة بالمخالفة للوائح والقوانين، قدرت قيمتها بأربعهة ملايين جنيهًا، وتم تخصيصها لكبار العاملين بالشركة، وحفظت هذه التحقيقات بعد تسع سنوات!!
وفي عام 2002 أتفقت مجموعة هاينكين الهولندية مع شركة الاهرام للمشروبات ABCعلي الإستحواذ علي أن تبقي شركة الاهرام للمشروبات تحت تصرف الإدارة الحالية ويتم نقل الإدارة لهينكين بحلول شهر يناير 2006 وذلك مقابل 1.3 مليارجنيهًا مصريًا، في صفقة رابحة وانتقلت مصانع الشركة إلي المنطقة الصناعية الأولي بمدينة العبور.
بقي مبنى مصنع البيرة قابعًا مكانه؛ إذا ليس له قيمة في إنتاج البيرة بل هناك قيمة أخرى ظهرت على مسرح الأحداث تتمثل في وقوع نزاع ما بين محافظة الجيزة وجامعة القاهرة لسنوات على ملكيته إلى أن يحكم القضاء لصالح الطرف الأول. بعدها قامت محافظة الجيزة بتخصيص قطعة الأرض رقم 4 بحوض البرنس نمرة 11 بشارع بين السرايات، البالغ مساحتها 4000 مترا مربعا، المعروفة بأرض البيرة للانتفاع من قبل جامعة القاهرة لمدة 25 عاما وفقا للقرار -غيرالمنشور- رقم 116 لسنة 2013!
ويسرد الأستاذ محمد أبو العمايم، رئيس سابق لقسم المشروعات بمركز الدراسات الأثرية والعضو السابق باللجنة الدائمة للآثارالإسلامية والقبطية، أن مصنع البيرة “مبنى أثري ذو مميزات فنية، ويستوجب التسجيل، وكان مهيأ للهدم، وفي مكان سراي حسن باشا ابن الخديو إسماعيل، الذي كان قائدًا حربيًا، ذهب على رأس حملة عسكرية وانتصر على الصرب”.
في النهاية هل تعتقد سيدي القارئ أن ذاك المبنى مقدرًا له أن يتحول إلى متحف جامعي ومزار سياحي أم مقدر له الهدم حتى يتم الانسجام مع النسيج العمراني الذي يحيط به!!؟