موقف قائد الحملة الفرنسية على الشرق، نابليون بونابرت، من الأديان مدهش حقاً. نابليون الذي أتى إلى مصر في العام 1798 كان قارئاً جيداً عن الإسلام، بل ومفتوناً بشخصية النبي (صلى الله عليه وسلم). وللمفارقة، كان أيضاً كارهاً للكنيسة ولقادتها، لا سيما أنه جزء من منظومة الثورة الفرنسية التي ثارت في الأساس على الكنيسة، ووترت علاقتها بها. إذن، نابليون بونابرت كان محباً فعلاً للإسلام. ولكن الشواهد تؤكد أنه لم يدخل الإسلام بشكل صريح مثل مينو القائد الثالث للحملة في مصر، والذي أسلم وسمى نفسه عبدالله.
أزمة نابليون بونابرت
في وقت الحملة الفرنسية (1798 – 1801)، لم يقبل المصريون المحتل الأجنبي. لم يقبلوا عادات ليست بعاداتهم، ولا ديناً ليس بدينهم، ولذلك كانوا ينصرون المحتلين الآخرين (العثمانيين والمماليك)، عن المحتل الأجنبي، لأنه ببساطة مسيحي، ولأن المحتلين الآخرين مسلمين، حتى أن العثمانيين والمماليك لعبوا على هذا الوتر لاستمالة أهل مصر إلى صفهم، وروجوا بأن الحملة ما هي إلا موجة جديدة من الغزوات الصليبية، لذا أدرك نابليون بونابرت قبل وصول سفن الحملة إلى الإسكندرية أنه سيواجه أمراً عسيراً للغاية، لهذا كان من الطبيعي أن يحاول هو الآخر استمالة الشعب المصري إلى صفه، ويقنعه أنه ليس ضد الإسلام، بل أنه يحترم الإسلام بشكل كبير.
رسالة بونابرت الأولى، كما وردت في كتاب “عجائب الآثار” لعبدالرحمن الجبرتي بدأت بجملة “بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك له في الملك”. هنا أدرك نابليون بونابرت أن الدين هو أكثر الأشياء قدرة على النفاذ إلى قلوب المصريين. لذا كانت الاستهلالة أهم ما يميز خطابه الأول. بونابرت كان يعلم أن حكام مصر – أو محتليها في هذا الوقت – كانوا يلعبون على نفس الوتر، وكان القائد الفرنسي من الذكاء أن يوضح للمصريين أنه علم بهذا الأمر، فقال في خطبته “قد قيل لكم، إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه والقرآن العظيم”.
يعرف القرآن.. أو هكذا يدعي
بونابرت لم يستشهد فقط بكلمات قريبة إلى الأذن العربية المسلمة، ولكنه كذلك أراد أن يعرف الجميع أنه درس القرآن، أو قرأه. في خطابه للشعب بعد ثورة القاهرة الأولى (أكتوبر 1798)، قال وفقاً لتاريخ الجبرتي “وأعلموا أيضاً أن القرآن العظيم صرح في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل. وكلام الله في كتابه صدق وحق، لا يختلف”.
وعلى الرغم من أن كلمات بونابرت قد يتفهمها البعض على سبيل الدهاء، إلا أن المؤرخ الفرنسي فرانسوا شارل-رو أكد في دراسته “السياسية الإسلامية لبونابرت” أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كان يثير إعجاب بونابرت بالفعل كقائد فذ ومشرّع ذكي، وأنه قبل الحملة بفترة طويلة درس بالفعل تاريخ النبي (صلى الله عليه وسلم)، ودرس أيضاً تاريخ العرب، وقرأ القرآن وكان يحتفظ بنسخة منه في مكتبه أيام الحملة إلى جانب العديد من الكتب الدينية”.
بونابرت نفسه في مذكراته التي حملت عنوان “مذكرات نابليون.. الحملة على مصر” ترجمة عباس أبوغزالة، وصدرت عن المركز القومي للترجمة، أشاد فيها بعبقرية محمد (صلي الله عليه وسلم) في إدخال الدين الإسلامي للجزيرة العربية في مذكراته، قائلاً “كان محمد أميراً جمّع حوله عشيرته. وخلال سنوات قليلة، احتل المسلمون نصف دول العالم، وانتزعوا أرواحاً كثيرة من عُباد الآلهة المزيفة، ونكسوا كثيراً من الأصنام، وهدَّموا من المعابد الوثنية في خمسة عشر عاماً أكثر مما حققه أتباع موسى وعيسى في خمسة عشر قرناً. كان محمد رجلاً عظيماً”.
بونابرت يكره الكنيسة الكاثوليكية
نعود للرسالة الأولى لبونابرت، هو يقول في موضع آخر فيها موجهاً كلامه للشيوخ والقضاة “قولوا لأمتكم أن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام”.
ما تطرق إليه بونابرت فيما يخص الاعتداء على كرسي رومية (روما)، لم يكن حادثاً، بل كان موقفاً عاماً من الثورة الفرنسية ضد الكنيسة الكاثوليكية التي كانت أكبر مالك للأراضي في البلاد، إذ يعتبر 10% من الأراضي الفرنسية ملك شخصي لها. سوى ذلك، فقد كانت معفاة من الضرائب.
جاك سبنسر ولينين هنت في كتاب “الحرية، المساواة، الأخوة.. استكشاف الثورة الفرنسية” يقولان في هذا الأمر “تزايدت المحاولات سواءً شعبية أم داخل الجمعية الوطنية، للقضاء على الدين، فذُبح كهنة، ودمرت كنائس وأيقونات في جميع أنحاء فرنسا، كما منعت المهرجانات الدينية والأعياد، وأعلن البعض عن إعلان ديانة العقل لتكون الخطوة الراديكالية الأخيرة ضد الديانة”.
بونابرت يعتبر ابناً باراً للثورة الفرنسية في تجلياتها العسكرية، أو التي تسمى مرحلة “القنصلة” التي أنهت حكومة “المديرين” في 1799. لذا كان موقفه واضحاً في هذا الأمر، ولعله بعد أن رحل من مصر أثبت ذلك بشكل قوي.
عندما تولى نابليون بونابرت الحكم رأى أن المصلحة تقتضي إعادة التفاهم بين الكنيسة وفرنسا، بعد توترها أثناء الثورة الفرنسية (بدأت أولى موجاتها 1789). وبعد مفاوضات استمرت عدة أشهر، عقد بونابرت مع البابا پيوس السابع معاهدة بابوية في سنة 1801. فاعترف نابليون في هذه المعاهدة بالبابا رئيسًا للكنيسة وأزال بعض القيود التي فرضتها الثورة على رجال الدين.
تزايدت الخلافات بين نابليون وبيوس السابع وقد تجسد ذلك من خلال الإهانات التي تعرض لها البابا خلال حفل تتويج بونابرت إمبراطوراً على فرنسا عام 1804، كما رفض البابا سياسة الحصار التي فرضها بونابرت على بريطانيا عام 1806.
هنا قام نابليون بونابرت باحتلال الدولة البابوية بسبب رفض الكنيسة دعم حربه الاقتصادية على بريطانيا؛ فرد البابا پيوس بحرمان الإمبراطور حرمانًا كنسيًا، بل وصفه بالسارق والمجرم. وبعد هذا الفعل الذي أتاه البابا، قام الضباط الفرنسيون باعتقاله، على الرغم من أن بونابرت لم يأمر بذلك، إلا أنه بالمقابل لم يأمر بإطلاق سراحه عندما علم بما جرى لمدة خمس سنوات كاملة، ثم سمح له بمغادرة فرنسا إلى إيطاليا أو (روما).
هل ألقى الشهادة بشكل صريح؟
الثابت أن نابليون بونابرت لم ينطق الشهادة بشكل صريح. نعم كان يعرج عليها في خطاباته، لكنه لم يقلها في الأزهر مثلاً، على الرغم من محاولته الكبيرة لاستمالة شيوخ الأزهر، والأزهر نفسه كمؤسسة دينية مهمة. في بداية الحملة عرف أن شيوخ الأزهر لن يقيموا الاحتفال السنوي بالمولد النبوي، ففطن إلى أن السبب ربما يكون الاحتجاج على وجوده في مصر على رأس حملة عسكرية. ولكنه عزم على الاحتفال، وأزال كل المبررات التي ساقها شيوخ الأزهر، بل أنه أمر عدداً كبيراً من أفراد الجيش الفرنسي بالحضور.
ليس هذا فقط، بل قدم الجيش عروضا عسكرية وحفلات موسيقية وأطلق ألعابا نارية للاحتفال بالحدث الكبير، الذي ورغم كل شيء لم يعجب لا القادة الفرنسيين أنفسهم، كما لم يعجب كثيراً من شيوخ الأزهر، إلا القليل من أصحاب المصلحة.
تلك العلاقة التي أرادها بونابرت طيبة، توترت تماماً مع ثورة القاهرة الأولى التي دنس فيها جيش الحملة، الجامع الأزهر، إذ دخلوا إلى المسجد بأحذيتهم وخيولهم، وقتلوا ما قتلوا وأصابوا من أصابوا.
رواية إسلام بونابرت شرقية أم غريبة؟
بعض المؤرخين الغربيين، ومنهم فرانسوا شارل-رو، يميلون إلى إسلام بونابرت بالفعل، لأسباب كثيرة، أهمها الخطاب الذي يداعب المسلمين دائماً، إضافة إلى موقفه الصدامي مع الكنيسة الكاثوليكية، بل من أقصوصته التي كتبها عن النبي (صلى الله عليه وسلم) والتي أعطاها عنوان “قناع الرسول” في 1788.
الشائعة الغربية، لقت صداها في الشرق بالتأكيد، كعادة الشرقيين الذين يرون في إسلام بونابرت عزة للإسلام وإضافة مهمة وفتحاً كبيراً، بدون داعٍ.
بالعودة إلى مذكراته نستطيع أن نتفهم الخلط، فهو لم يسلم، ولكنه صرح بعشق مصر، حيث يقول أبو غزالة إن مصر تحديداً احتلت مكانة فريدة عند نابليون بونابرت، رغم أن الوقت الذي قضاه في مصر 16 شهراً. وذكر أن أجمل أيام حياته قضاها في مصر، حيث احترم الإسلام (دين البلد).